في الوضع الفلسطيني، كما هو الوضع في معظم السياقات الاستيطانية الاستعمارية، تصبح الأرض مجرد أداة تخدم المشاريع الاستعمارية وقواعدها العسكرية بالأساس، وأي أمور أخرى تصبح اعتبارات ثانوية في عملية التخطيط.الاستعمار هو الفعل الذي يتضمن إقامة مستعمرة في مكان بعيد عن المكان الأصلي لمجموعة من الناس، وبذلك يتواجد في هذا السياق غزو للثقافة الأصلية من قبل ثقافة جديدة تسعى لتأسيس سيطرة سياسية على أراضٍ ليست لها.المجتمع الأصلي يجد نفسه فجأة مجرداً من أي قوة سياسية ومن حقه في استخدام أرضه التي كانت مصدر قوته والتي كانت تجمعه بها علاقة قوية ومميزة.وبذلك، يجرد المجتمع الأصلي من أي قرار يتعلق بكيفية استخدام أرضه ولأي أهداف تُستخدم.جميع الخطط العمرانية والأنظمة المختلفة التي مرت على فلسطين كانت بالأساس تخدم احتياجات الدول الصادرة عنها وتناسب أحوالها الإقتصادية والإجتماعية، متجاهلة تماماً احتياجات الشعب الفلسطيني المختلفة.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
كان الفلاح الفلسطيني، في زمن ليس ببعيد، سيد هذه الأرض ومالكها بجدارة مثبتة، فقد قام على مر السنين بزراعتها وتطويرها وحمايتها حتى أصبحت علاقته بها كعلاقة الأم بأبنائها، وحتى انعجن بتفاصيلها وأصبح جزءاً منها. يزرع الفلاح فيها بذرة، يعتني بها ويسقيها ويغذيها ويراقبها وهي تنمو لتعيد له بعضاً من فضله عليها. بنى الفلسطيني مع هذه الأرض علاقة لن يفهمها السيد الأبيض الذي قدِم إلى هذه الأرض وفرض عليها خدمة أهدافه الاستعمارية اللامتناهية والتي لا حق فيها ولا شرع. لطالما كانت الأرض نقطة الصراع الأساسية مع كل وجود استعماري مر على هذه البلاد، وهي أساسٌ للعديد من الصراعات السياسية في جميع أنحاء العالم بشكل عام.
الأرضُ كمفهوم مجرد تعني السطح الصلب من الكرة الأرضية الذي تمارس عليه معظم النشاطات البشرية، ولإستخدامات متعددة. هذه الإستخدامات تشمل سلسلة من العمليات البشرية التي يتم بها استخدام مصادر الأرض بنيّة الحصول على منتجات وفوائد معينة. بعض هذه الاستخدامات تتضمن مشاريع زراعية، مشاريع سكنية، مشاريع تجارية، مناطق خضراء، خطوط مواصلات وأنشطة ترفيهية.
في الوضع الطبيعي وفي مرحلة التخطيط لتحديد نوع الإستخدام الأنسب للأرض في أي دولة، يتم فحص إمكانية الأرض والمياه بالإضافة إلى الظروف الإقتصادية والإجتماعية المحيطة بمشروع معين من خلال تقييم مُنظم للأرض ولاحتياجات سكانها. بشكل عام، هناك أمرين يجب مراعاتهم عند وضع مثل هذه الخطط. الأمر الأول هو الحفاظ على البيئة وهذا يعني الحفاظ على المصادر البيئية والتنوع الحيوي، والأمر الثاني هو الجانب الإجتماعي- الإقتصادي والذي من شأنه أن يضمن سيرورة النظام البيئي، الذي يخدم المجتمع القائم على أرض معينة.
في الوضع الفلسطيني، كما هو الوضع في معظم السياقات الاستيطانية فإن هذه الأمور يتم تجاهلها وتصبح الأرض فيها مجرد أداة تخدم المشاريع الاستعمارية وقواعدها العسكرية بالأساس، وأي أمور أخرى تصبح اعتبارات ثانوية في عملية التخطيط هذه.
الهدف من هذا المقال هو الحديث عن خصوصية التخطيط في سياق استعماري والذي أتخذت فيه فلسطين كمثال مناسب لتوضيح هذه الخصوصية. الاستعمار هو الفعل الذي يتضمن إقامة مستعمرة في مكان بعيد عن المكان الأصلي لمجموعة من الناس، وبذلك يتواجد في هذا السياق غزو للثقافة الأصلية من قبل ثقافة جديدة تسعى لتأسيس سيطرة سياسية على أراضٍ ليست لها. المجتمع الأصلي يجد نفسه فجأة مجرداً من أي قوة سياسية ومن حقه في استخدام أرضه التي كانت مصدر قوته والتي كانت تجمعه بها علاقة قوية ومميزة. وبذلك، يجرد المجتمع الأصلي من أي قرار يتعلق بكيفية استخدام أرضه ولأي أهداف تُستخدم.

التخطيط الإسرائيلي لاستخدام الأراضي الفلسطينية يهدف خدمة متطلبات التوسع الاستيطاني الاستعماري
نبذة من الماضي عن التخطيط في فلسطين
في فلسطين وبسبب توالي العديد من الأنظمة السياسية الحاكمة فيها تاريخياً وبالتحديد منذ منتصف القرن التاسع عشر، فإن التشريعات المتعلقة باستخدام الأراضي وسياسات التخطيط العمراني تأثرت تبعاً لخصوصية كل نظام سياسي مر على البلاد. هذه الأنظمة هي النظام العثماني، يليه النظام البريطاني، ومن ثم النظام الأردني في الضفة الغربية، والنظام المصري في قطاع غزة، وصولاً إلى الاستعمار الإسرائيلي الذي ما زالت سياساته تؤثر على عمليات التخطيط في فلسطين إلى يومنا هذا.
في الفترة العثمانية ظهرت المجالس البلدية في فلسطين على ضوء قوانين الدولة العثمانية، وكانت هذه المجالس تعزز المركزية الإدارية للدولة. أحد القوانين في تلك الفترة أقر نظام الترخيص بالبناء في المدن، وتم وضع قواعد لتحديد ملكية الأراضي بهدف التطوير الإقليمي وتشييد الطرق. طبق العثمانيون نظام ضريبة على كل قطعة أرض وتم تطبيق ذلك من خلال إنشاء نظام ملكية وتسجيل المالك القانوني لكل أرض. معظم الأراضي في ذلك الوقت كانت تقع تحت إدارة الدولة، بالإضافة إلى أن مساحات كبيرة من الأراضي كانت تستخدم لنشاطات دينية وخيرية، وما تبقى من الأراضي كان يقع تحت مسؤولية قائد المنطقة.
ظهر مصطلح "تخطيط المدن" تزامناً مع إنشاء نظام تخطيط مدني في بريطانيا، وكان هذا نتيجة لظهور مشاكل بيئية واجتماعية سببتها الثورة الصناعية في تلك الفترة. تم تطبيق هذا النظام في جميع المستعمرات البريطانية في ذلك الوقت مثل الهند، ماليزيا، نيجيريا وفلسطين. خلال فترة الإنتداب البريطاني كان يتم تشكيل قوانين جديدة بما يتعلق بالمجالس البلدية العربية، وكان لهذه القوانين تأثير على اختيار رؤساء البلديات، وعلى تطبيق المشاريع المختلفة في الأراضي الفلسطينية.
في عام ١٩٤٨، قُسمت الأراضي الفلسطينية بهدف خلق دولة اسرائيل ضمن المنطقة إلى ثلاث مناطق وهي الضفة الغربية وقطاع غزة وما يسمى بإسرائيل وكل منطقة كان لها إدارة سياسية مختلفة. بناء على ذلك، تم ضم المناطق المحيطة بالضفة الغربية للأردن، وتم وضع قطاع غزة تحت الإدارة المصرية ولكن التخطيط العمراني بقي تابعاً للنظام البريطاني. بعد ما يقارب العشرين عاماً، أعطيت الأردن السيادة الكاملة في أمور التخطيط العمراني بالضفة الغربية، وبقي النظام في غزة كما هو، تابعاً للنظام البريطاني.
أرضٌ واحدة... تقسيم ممنهج
بالإمكان تقسيم هذه الفترة زمنياً إلى قسمين، فترة ما بعد النكسة حتى قدوم السلطة الفلسطينية عام ١٩٩٤، والفترة التي تلت قدوم السلطة حتى الوقت الحالي. تأثر التخطيط العمراني في فلسطين بعد احتلال اسرائيل للعديد من المناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة عام ١٩٦٧، بحيث أن إسرائيل سيطرت على النمو العمراني الفلسطيني من خلال الأوامر العسكرية، وأصبح الحصول على تصاريح للبناء أمر بغاية التعقيد.
أصبح التخطيط العمراني وسيلة بيد الإحتلال لمنع التوسع المدني في الأراضي الفلسطينية، وبالمقابل حفظ مساحات واسعة من الأراضي للمستوطنات الإسرائيلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة. بالوقت ذاته، كان الاقتصاد الفلسطيني معتمداً على الإقتصاد الإسرائيلي، ولم يكن هناك مشاركة للفلسطينيين بالقرارات التي تخص الخطط التنموية للأراضي الفلسطينية.
يجب الإشارة إلى أن جميع هذه الخطط العمرانية والأنظمة المختلفة التي مرت على فلسطين كانت بالأساس تخدم احتياجات الدول الصادرة عنها وتناسب أحوالها الإقتصادية والإجتماعية، متجاهلة تماماً احتياجات الشعب الفلسطيني المختلفة.
في عام ١٩٩٤ ومع قدوم السلطة الوطنية الفلسطينية كنتيجة لاتفاقيات أوسلو، تم نقل مسؤوليات التخطيط العمراني إلى الوزارات والمؤسسات الفلسطينية في محاولة لخلق نوع من السيادة الذاتية في الأراضي الفلسطينية. في ذلك الوقت، كانت تحاول السلطة الموازنة بين أخذ احتياجات الشعب الفلسطيني ومستقبله من جهة، وبين أخذ رغبات الممولين ومشاريعهم عند وضع الخطط العمرانية من جهة أخرى. بالإضافة إلى ذلك وبناء على اتفاقيات أوسلو، تم تقسيم الأراضي الفلسطينية إلى ثلاثة أقسام: مناطق أ، مناطق ب ومناطق ج. مناطق أ هي المناطق التي يوجد للسلطة الفلسطينية فيها سيطرة سياسية وأمنية ومسؤولية التخطيط والتنمية. مناطق ب هي المناطق التي تقع تحت سيطرة سياسية وأمنية إسرائيلية، ولكن تقع مسؤولية التخطيط والتنمية فيها على السلطة الفلسطينية. أما بالنسبة لمناطق ج، فهي المناطق المحيطة بالضفة الغربية وهي تحت سيطرة اسرائيلية كاملة ويمنع الفلسطينيون من التخطيط أو البناء فيها.

انكماش الأراضي الفلسطينية لصالح الاستعمار الصهيوني خلال الفترة 1946-2000
الأيدلوجية الاستعمارية... ماضي وحاضر
منذ بدء التخطيط لإنشاء دولة اسرائيل على أراضي فلسطين التاريخية، كان هناك تشجيع كبير لزيادة التكاثر السكاني للمستوطنين من خلال توفير مستوى معيشة عالي يتسم بالرفاهية، وما يلزم لتحقيق هذا المستوى من وحدات سكنية إلى بنية تحتية وطرق التفافية وخدمات رئيسية. استخدمت اسرائيل عدة طرق ملتوية للسيطرة على الأراضي، ومنها الإعلان عنها كأراضي دولة استناداً على القانون العثماني الذي كان لا يزال ساري المفعول عند قدوم الإحتلال الإسرائيلي. سيطرت اسرائيل أيضاً علي الأراضي عن طريق اعتبارها كممتلكات متروكة أو كمناطق عسكرية ضرورية لأمن الدولة.
المستوطنات في وقتنا الحالي هي في تزايد مستمر وأجهزة التخطيط العمراني تساهم بشكل كبير في جعل هذا التوسع ممكناً. حيث تقوم بتسهيل إصدار تصاريح البناء للمستوطنات الإسرائيلية الجديدة على أراضي الضفة الغربية بهدف التوسع الإستيطاني وإنشاء طرق التفافية، وبالمقابل تعمل هذه الأجهزة على عرقلة التطور العمراني في المدن والقرى الفلسطينية. هذا أمر يعاني منه العديد من الفلسطينيين سواء بالضفة الغربية أو في القدس الشرقية، فعملية الحصول على تصاريح ورخص للبناء أصبحت صعبة جداً وأحياناً شبه مستحيلة وتتطلب وقتاً وجهداً ومبالغ مادية كبيرة، وهذا بنية إحباط الشعب الفلسطيني والحد من نموه. بالإضافة إلى ذلك، يعاني الفلسطينيون يومياً من عمليات الهدم الممنهجة لمنازلهم بحجة عدم وجود رخص للبناء.
من يتمعن النظر في الفروقات بين التخطيط العمراني في المناطق الفلسطينية والمناطق الإسرائيلية يستطيع أن يرى بكل وضوح نظام الفصل العنصري (الأبرتهيد) الذي تمارسه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني. لا يحتاج الشخص إلاّ إلى جولة واحدة بين مدن الضفة الغربية ليلاحظ الفرق في البنية التحتية بين الطرق المؤدية إلى المستوطنات الإسرائيلية وتلك الطرق المؤدية إلى المدن والقرى الفلسطينية، هي نفس الجولة التي سيلاحظ فيها الطبيعة العمرانية في المستوطنات ونظيرتها في المدن والمخيمات الفلسطينية. وله أن يتخيل كمية الخدمات التي تصل لكلا الطرفين ولمستوى المعيشة الذي يعيشه "شعبان" على أرض واحدة، شعب أصلي متجذر في هذه الأرض رغم جميع الصعوبات التي يعيشها، و"شعب" مُستعمِر قدم لهذه الأرض بالقوة وأنشأ فيها مستعمراته، متناسياً أن ثمن معيشته هذا يدفعه شعب لن تثنيه جميع المحاولات البائسة عن أن يتخلى عن أرضه وأرض أجداده.
المصادر:
بتسيلم. ٢٠٠٢. سلب الأراضي: سياسية الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية. بتسلم، مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة.
عبد الحميد، علي. ٢٠٠٥. إدارة التخطيط العمراني في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بين تحديات الواقع وتطلعات المستقبل. جامعة النجاح الوطنية، نابلس.
Moghayer, T., Tesmamma, D., Xingping, W. 2017. Challenges of urban planning in Palestine. Earth and Environmental Science 81.
Coffey, R. 2013. The difference between “land use” and “land cover”. Michigan State University Extension.
Lier, H. 1998. The role of land use planning in sustainable rural systems. Landscape and Urban planning 41 (2), 83-91.