اختفت مصانع الصابون البلدي النابلسي (الصبانات) التابعة للعائلات العريقة: يعيش، النابلسي، الخيّاط، فيضي، كنعان، عبد الحق، عرفات، وأبو الروس وغيرها. والسبب ربما يكمن في الاستيراد وتغير ثقافة الأجيال، ورحيل الكبار الذين أسسوا المصانع على أكتافهم، بالإضافة إلى اقتسام التركة وتفتيتها بين الورثة، والجمارك والضرائب. صابون نابلس اليوم ينقل عبر الأردن إلى دول عديدة، لكن التسويق المحلي متواضع. إنه صراع البقاء، والمهمة الصعبة لصناعة ارتبطت بنابلس، وانتقلت بين أجداد وأبناء وأحفاد كُثر.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
التنورة وهي برج دائري من الصابون البلدي النابلسي بقاعدة واسعة وجسم يضيق بالتدريج |
اعتاد موسى السخل الوقوف بجانب حلة صابون كبيرة منذ 45 عامًا، ليراقب تحضير تركيبة السلعة الأشهر في نابلس، وإضافة المزيد من زيت الزيتون، والماء، والصودا الكاوية، وعناصر أخرى.
وقال السخل، مسؤول الإنتاج في مصنع طوقان للصابون أو الصابّنة كما ينطقها النابلسيون: تبدأ القصة من هنا، فنضع في هذا الخلاّط الكبير (الحلة) نحو 22 برميلًا من الزيت ( في كل واحد 2000 كيلو)، ونُجهز الخلطة، ثم نسحب الماء الممزوج بالصودا، ونضع ماءً نقيًا، وبعد فترة نعيد الماء الذي فصلناه، وحين يمر أسبوع تكون "الطبخة" قد جَهُزت، لتنتقل إلى مرحلة الصب والتقطيع والتجفيف والتغليف، والمهم أن ذلك كله دون دهون حيوانية وشحوم.
الصابون البلدي الجاهز للتسويق
أزمة زيت
وتابع:" للأسف، لم يعد زيت بلادنا يكفي للأكل، وصرنا منذ فترة نستورده من إيطاليا، ففي الشهر الواحد نحتاج نحو 20 طنًا، وهي كمية لا نجدها في فلسطين".
وحسب الراوي الستيني، الذي ورث المهنة عن والده، فإن الخطوة التالية في صنع الصابون نقله بأوعية معدنية من الحلة إلى القسم العلوي للمصنع، ليبدأ فرده بارتفاع مُوحد، ثم تسوية وجهه من الزوائد، بعدها يستخدم بيكار هندسي لتوحيد قياسات قطع الصابون، بخيط مصبوغ قليلا باللون الأحمر يشطر الطول والعرض، ليجري ختم كل مكعب بشعار الشركة، التي أسسها حافظ وعبد الفتاح طوقان ( والد الشاعرين إبراهيم وفدوى) قبل أكثر من مئة عام.
فيما يواظب عبد الحميد قطامين على جمع القطع المكعبة، ويضعها في حزم صغيرة، لينقلها إلى بناء هرمي يطلقون عليه ( تنوره)، وهو برج دائري بقاعدة واسعة وجسم يضيق بالتدريج كلما ارتفعنا للأعلى، مع ترك فراغ بين كل قطعة ليجففها الهواء، وتزداد تماسكًا.
وأفاد قطامين: أعمل هنا منذ كنت في الخامسة عشرة، اليوم أقترب من السبعين، ولا زالت أرتب أكوام الصابون، وأضع رقمًا على كل تنورة، ليأتي دورها في التغليف والتعبئة والتصدير بعد نحو 40 يومًا.
الصابون البلدي النابلسي
كيماويات غائبة
وأضاف: "يكفي أن ما ننتجه لا نستخدم فيه الكيماويات، والدهون الحيوانية، وكنت قد أشرت لأفراد عائلتي ( 3 أولاد وبنتان) بعدم استعمال الشامبو والصابون الكيماوي، إلا أنهم لم يقتنعوا إلا بعد فوات الأوان، واكتشاف أن شعر رأسهم بدأ بالتساقط، واليوم لا ندخل أي منظفات كيماوية لبيتنا".
تتنافس أبراج الصابون في الجناح العلوي من المصنع، الواقع في قلب نابلس، على أخذ حيز لها، فيما يواصل عمار جوهري منذ عشرين سنة تغليف المكعبات، التي تحمل كل واحدة شعار مفتاحين ورقم 777، وتخلد ذكرى مؤسسي المصنع، الذين رحلوا قبل أن يروا تطورات عديدة عصفت بصناعتهم: استيراد الزيت، والانتقال من الجفت إلى الديزيل، واستعمال التيار الكهربائي بدل النار، وثورة الاتصالات السريعة، وحركة الاستيراد المبالغ فيها للصابون وسواه من أقاصي الأرض، والارتفاع المتواصل في الأسعار.
وقال جوهري: أغلف في الساعة الواحدة نحو ألف قطعة، وهنا لا مجال للاستغناء عن اليد، ويكفي أن تضع القليل من النشأ بجانبك، وتركز حواسك كلها في وضع قطعة الصابون داخل ورقة بأقصى سرعة، وأحصل على دينارين ونصف بدل تغليف كل ألف قطعة.
تصنيع الصابون البلدي النابلسي في مصنع طوقان للصابون
ثلاثون صبانة اختفت!
وقال يوسف التصق، 65 عاماً:" اشتغل هنا مذ كان عمري 15 سنة، ألّف قطع الصابون، ولو جمعت عدد الصابون الذي غلفته لطوقت العالم بالمكعبات، في أيام الشباب، كنت أقوم بتجهيز ألف حبة بأقل من ساعة، اليوم أحتاج إلى ساعتين لذلك".
والأجمل، أضاف، أن الصابون النابلسي لا دهون ولا عطور ولا كيماويات تضاف إليه، فهو من زيت زيتون نقي، ولا يمكن أن يتسبب بمتاعب لمن يستعمله."
وتابع: تنقلت بين صبانات عديدة في نابلس، وكان أبي يحدثنا عن عددها الذي وصل إلى 32، وعاصرت بعضها، لكن الباقي اليوم اثنتان فقط نحن والشكعة.
ووفق الراوي، فقد اختفت صبانات عائلات: يعيش، والنابلسي، والخيّاط، وفيضي، وكنعان، وعبد الحق، وعرفات، وأبو الروس وغيرها.
وأضاف التصق:" السبب ربما في الاستيراد، وتغير ثقافة الأجيال، ورحيل الكبار الذين أسسوا المانع على أكتافهم، واقتسام التركة وتفتيتها بين الورثة، والجمارك والضرائب.
صابون قطامين البلدي النابلسي
مؤشرات مُقلقلة
وأعاد مسؤول الإنتاج موسى السخل إلى القول إن صابون نابلس اليوم ينقل عبر الأردن إلى دول عديدة، لكن التسويق المحلي متواضع، ويباع الكيلو غرام الواحد بـ 13 شيقلاً، فيما يمكن لمئتي كيلو من الزيت إنتاج نحو 300 كيلو من الصابون.
وتابع: نعمل وفق المواصفات والمقاييس، ونجري فحوصات دورية على بضاعتنا، ونبدأ النهار مبكرًا، وعند الثانية عشرة والنصف أو الواحدة يعود العمال إلى بيوتهم.
واللافت وفق السخل عدم استيعاب زيت الزيتون لأية عطور تضاف إليه، وانقراض عادة تجهيز الصابون في المنازل برحيل الجيل الأول من النساء، اللواتي كن يعتبرنه من مؤنة البيت كالبرغل ورب البندورة والزيت والطحين.
وقال سلطان قدورة، مسؤول المبيعات في المصنع إن الصابون النابلسي يصلح أيضاً كمعجون حلاقة، ولكن الجيل الشاب اكتشف متأخرًا أنه صديق لشعر الرأس وأفضل من الكيماوي.
واختتم السخل: "إنه صراع البقاء، والمهمة الصعبة لصناعة ارتبطت بنابلس، وانتقلت بين أجداد وأبناء وأحفاد كُثر".
عمق التنورة المكونة من الصابون البلدي النابلسي
aabdkh@yahoo.com