خاص بآفاق البيئة والتنمية
آثار الجفاف تبدو على الأشجار الفلسطينية
حدث الاعتدال الخريفي هذه السنة الجمعة 22 أيلول الماضي، الساعة 8:02 مساءً بتوقيت جرينتش في الوطن العربي، وكامل النصف الشمالي للكرة الأرضية، ليبدأ الفصل قبل الأخير من العام، ويستمر 89 يومًا و20 ساعة و26 دقيقة، حتى حدوث الانقلاب الشتوي في 21 ديسمبر الحالي.
تبدأ بالاستعداد للزائر الأعز، أو المطر الذي طال انتظاره. تفرح كثيرًا أول الخريف، حين تفتح أبواب السماء بأول شتاء، فيحمل نهار 9 تشرين أول مطرًا وفيرًا ( 15 ملم كما رصدتها في بلدتك برقين غرب جنين)، لكن الفرح سرعان ما يتبدل، مع 3 حالات مطرية في تشرين الثاني لم تجمع كلها ( 4 ملم)، أما تشرين الثاني فلا زال جافًا حتى كتابة هذه السطور ( 20 تشرين الثاني، مع توقعات متأرجحة بمنخفض أو اثنين حتى نهاية الشهر).
احتبست الأمطار في شهر أكتوبر الماضي في فلسطين وكذلك تميز معظم شهر نوفمبر بالجفاف
ذكريات وجفاف
يذكرك الخريف بوالدك الراحل، رحمه الله، الذي كان حريصًا على تدوين يومياته، فيهتم بالتقويم الشرقي، وبالوسم البدري، ويسأل كثيرًا عن التوقعات الجوية، ويسرد قصصًا عن سنوات الجفاف والخير، ولم تفارقه حكايات صلوات الاستسقاء، وطلب الغيث. ومن السرد الذي لم يفارقه استعانة أهالي البلدة بعجوز كفيفة اسمها (نجمة العمير) ذائعة الصيت بدعائها في أربعينات القرن الفائت.
كان والدك يسرد قصة السماء الزرقاء التي يخشاها الفلاح إن طالت، ويتنفسون الصعداء حين يفتح المطر أبوابه. وتنقل له التوقعات الجوية أولاً بأول، فيشكك في قدرتها على التنبؤ الدقيق. وتخبره بأن سنة ميلاده كانت ذات مطر وفير ( هطلت على جنين 598 مليمترًا)، فيفرح.
في الوضع الطبيعي، تهطل أكبر كمية من الأمطار في كانون الثاني، يليه شباط، ثم كانون الأول، بعده آذار، فتشرين الثاني، ثم نيسان، وصولاً إلى تشرين الأول، فأيار الأقل مطراً. واللافت أن الثلوج تتساقط غالباً في فلسطين في شهر شباط، يليه كانون الثاني، ولكن ثمة حالات نادرة، حين هطلت الثلوج في الخريف والربيع، أبرزها في 13 كانون الأول 2013، و15 تشرين الثاني 1953، و26 آذار 1967، و5 آذار 1985، و29 آذار 1910، و8 نيسان 1870.
حمى وانتظار
تنتقل حمى كل خريف جاف إلى شتى مفاصل الحياة، فترتبط معك بالمدرسة، والجامعة، والمسجد، والشارع، ومكان العمل، والأسواق. وتسترد ما كان يمطرنا المعلم الراحل غازي الأقحش به من أن الشتاء يبدأ فعليا في الثلث الأخير من كانون الأول، وأن هذا لا يعني أن الخريف الجاف مسألة عادية، فكل يوم نخسره من الخريف بلا مطر سيعقد حساباتنا الشتوية، خاصة إذا ما أمسكت السماء، والعبرة بالخواتيم.
في المدرسة أيضًا، كان المؤشر على الخريف الجيد العودة السريعة للملابس الشتوية، والتخلي عن الصيفية، وحمل المظلات في وقت مبكر، ومشاهدة تكاثف بخار الماء على زجاج النوافذ، وشطب حصص الرياضة لتبلبل ساحة الملعب بالمياه.
خريف 2017 جاف جدا في فلسطين
مؤشرات ووصف
أما في الجامعة فكان المؤشر أكثر تطورًا، حين كرر أستاذ الاقتصاد د. هشام عورتاني توصيف حال شتاء بلادنا، الجاف غالبًا، والمتذبذب دائمًا في المطر من سنة إلى أخرى، والمحلي الطابع، والغريب في توزيع حمولته، فقد تمطر في يوم ما لا تمطره في شهر كامل.
ولفرط اهتمام د.عورتاتي بالشتاء، فقد كرّر طرح سؤال الشتاء في امتحان مساق "اقتصاديات فلسطين" غير مرة، وبطريقة مختلفة.
خلال الذهاب والإياب من البيت إلى الجامعة في نابلس، كنتُ "كاتب السطور" أوثق حال الطرق، فغالبًا ما كان المطر ينهمر في منطقة، ويخف في أخرى بالرغم من قصر المسافة بين جنين ونابلس، وبالكاد كنا نحظى بمطر عام.
تعود إلى طفولتك الأولى، فقد كنتَ تظن أن السماء إذا ما أمطرت فإنها تتشكل من غيمة واحدة على فلسطين كلها، وسرعان ما بددت الصفوف الأولى هذا الخيال، الذي تمنيت لو أنه الحقيقة والعلم.
أما في المسجد المجاور لمنزلنا فغالباً ما كان حال الخريف الرطب مختلفاً، إذ يسارع كبار السن لارتداء المطاف الثقيلة والكوفية، ويبدأ الجدل حول الجمع بين الصلوات، لكن الخريف الجاف يجعل الواعظ يدعو لنزول المطر، ويحث على الخروج لصلاة استسقاء، طقوس صارت تتكرر كثيرًا خلال السنوات الماضية.
أكثر ما يبعث على الضيق في أطراف نهارات الخريف القصيرة، سماع أناس يفرحون لغياب المنخفضات، بدعوى أن الشمس جميلة، والأجواء مناسبة للرحلات والحفلات، ولغسل الملابس!
والمؤلم حين تخرج إلى الجبال والسهول، وترى حسرة العطش، فلا أزهار خريفية، وتحديداً النرجس، الزهرة المرتبطة بأول شتاء خريفي، كما تصفّر أوراق الزيتون لشدة الجفاف، بعد موسم مطري سابق ضعيف.
أرقام وحسرة
تحرص على تقليد سنوي، في العودة إلى أرشيفيك المطري، تطالع ما رصدته في يومياتك عن حال الخريف، وتختار عادة 15 تشرين الثاني يومًيًا للمقارنة؛ باعتباره مؤشرك الذاتي لخط إنذار أحمر، وعامل حسم للسنة كلها.
كنقطة بداية كان الخامس عشر من تشرين الثاني 1990 ماطراً بغزارة، وعام 1997 كان جافًا، وبعد سنتين " طقس صاف" وفي 2010 كان حارًا نسبيًا، ولم تمطر في الوقت نفسه عام 2003، وكان في السنة التالية غائمًا جزئيًا، وفي 2006 لم تمطر السماء، و في 2008 عشنا مع سماء صافية، وفي 2009 كان الجو مماثلاً للعام السابق، وخلال التاريخ عينه، وفي سنة 2010 كان الجو حرًا ومغبرًا، وفي 2011 أمطرت السماء، ولم تمطر في 2013، ولا في 2015، وكان الطقس هذا العام بحرارة أعلى من المعدل وطقس صاف عند التاريخ نفسه.
دراسة "سوداء"
تقرأ توقعات دراسة جديدة، أعدها "معهد وايزمن للعلوم"، ونشرت خلال الأسبوع الأول من تشرين الثاني، قالت إن الخريف الحالي ومواسم الجفاف الثلاثة الأخيرة في البلاد ليست بمحض الصدفة، وإنما هي جزء لا يتجزأ من تغير المنظومة المناخية في العالم كله بسبب الاحترار العالمي، وبالنتيجة فإن البلاد قد تتحول كلها إلى أرض قاحلة.
وبحسب الدراسة، فإن الأمطار "تهرب" من البلاد، وبالنتيجة، وفي غياب استعدادات صحيحة، فإن النصف الشمالي الأخضر من البلاد سيتحول تدريجيا في العقود القادمة إلى قاحل مثل النقب.
وفي مقال نشر في المجلة العلمي "Nature Geoscienc " قالت د. طاليا تمرين، من مجموعة البروفيسور يوحاي كسبي في قسم علوم الكرة الأرضية والكواكب السيّارة، إن العواصف الماطرة المعروفة من نشرات الأحوال الجوية تتحرك في أنحاء العالم في مسارات معينة في السنوات الأخيرة بحيث تميل إلى التوجه نحو القطبين.
ومن أجل تفسير هذه الظاهرة، استعانت الباحثة بنموذج رياضي يشرح التيارات الهوائية في الأجواء، واكتشفت أنه إضافة إلى التحرك في مكان نشوء العواصف المتوقع نتيجة الاحترار العالمي، فإن دينامية هذه العواصف نفسها باتجاه الشمال يُتوقع أن تزيد من شدتها.
وكتبت أن المبنى الذي يسمح للعاصفة بأن تكبر، هو الذي يحولها بالنتيجة باتجاه الشمال. وأضافت أنه مع الاحتباس الحراري فإن هذه التيارات الهوائية سوف تشتد، كما سيشتد الانحراف نحو الشمال.
وقال البروفيسور كسبي "إن انحرافا بدرجة أو درجتين في اتجاه تيارات العواصف الماطرة يبدو صغيرا، ولكن تغييرا بنسبة 10% من الدرجة يكون دراميا، فكل البلاد تتألف من أربع درجات، وإذا تحرك مناخ ديمونا باتجاه بئر السبع فإن ذلك أمر جدي جدًا، وكل من يتحرك في ما يسمى شارع "عابر إسرائيل" (6) في منطقة بئر السبع نحو الشمال سيمر خلال أقل من ساعة على ثلاث مناطق مناخية".
وأضاف أن معاينة ذلك لا تقتضي أن يكون المرء أكاديميًا، إذ يكفي النظر من النافذة لمشاهدة التغيير في النباتات والمناظر الطبيعية. وإذا انتقل مناخ ديمونا إلى بئر السبع، فإن مناخ بئر السبع سينتقل إلى تل أبيب، وهكذا. وبحسبه، فإن الحديث ليس عن تنبؤات، وإنما عن اتجاه قد تبدى عمليًا في العقود الأخيرة.
aabdkh@yahoo.com