من البديهي أن الانخفاض في توافر الموارد المائية يعتبر أول أثر حتمي للتصحر، ومن المؤكد أن كل أثر تغير في النظم الإيكولوجية والاقتصاديات الشديدة الحساسية مراده إلى استطراد التغيرات المناخية العالمية والإقليمية؛ وتغير أنماط الطقس وتواتر سنوات الجفاف. فالمناطق القاحلة وشبه القاحلة تجعل الأجواء القاسية أكثر تأثيرا على البيئة بسبب هذه التغيرات، وتعتبر أشد النطاقات عقما في تسريع عجلة الإنتاج. ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين لوحظ خسائر متفاوتة في اقتصاديات بعض بلدان العالم خاصة تلك التي يعتمد اقتصادها على الزراعة كمورد أساسي في إنتاجها الاقتصادي وتراهن على الزيادة في إنتاجها المحلي، دون وضع أي إستراتيجية للتأقلم مع الظروف الطبيعية الاستثنائية. لذلك بات من الضروري تحليل حالات الانخفاض الشديد في هطول التساقطات بالخصوص في المجالات الانتقالية والمجالات الحساسة لنقص الماء والتي يعد من أبرز معالمها المجال المتوسطي. فهذا الأخير ظل ينظر إليه كبؤرة رئيسية في التغيرات المناخية و كأسرع مجال استجابة للاحترار العالمي بما أصبح يميزه من جفاف متردد وموجات حر استثنائية.
ففي هذا المجال لا يمكن تقييم الميزانية المائية وتفاوتات الرطوبة والحرارة وتغيرات دورة المياه إلا بمقارنة مجالية بين أجزائه الغربية القريبة من المحيط الأطلنتي وأجزائه الشرقية القريبة من الشرق الأوسط القاحل حيث الديناميات المناخية المؤثرة تختلف وحيث الأوضاع الجغرافيا أيضا تخلف.
الخصائص الجيومناخية للمجال المتوسطي
البحر المتوسط هو بحر هامشي وشبه مغلق، غالبا ما يتم تحديده كمجال جغرافي بين خطي عرض °20 -°60 شمالا وخطي طول° 40 شرقا - °18 غربا؛ يقع في منطقة انتقالية تلعب فيها الديناميات المناخية لخطوط العرض الوسطى المعتدلة والوسطى المدارية دورا هاما في توزيع التساقطات والرطوبة والحرارة (1). كما تؤثر الأوضاع التضاريسية أيضا على مناخ منطقة البحر الأبيض المتوسط خاصة وأن طابع الارتفاع يهيمن على أجزاء واسعة من مناطق وهوامش هذا الحوض والذي بات يفرض تدرجات وتفاوت في كمية التساقطات وقيم الحرارة؛ ما نتج عنه مناخات فريدة مميزة في مناطق محددة و اختلافات واسعة النطاق بين المناطق الغربية والوسطي والشرقية ؛ و أحينا تجعل نقص المياه سمة جلية في هذه المنطقة المكتظة بالسكان.
الشكل (1) خريطة الموقع الجغرافي للمجال المتوسطي
وعلى العموم فالسمات التي تطغى على المناخ المتوسطي محددة بشتاء معتدل ورطب وصيف حار وجاف، والحد الأقصى لنزول التساقطات خلال السنة يكمن في فصل الشتاء، كما أن التقلبات الكبيرة في ميزانية الماء من سنة إلى أخرى تضيف ميزة أخرى لمناخات هذا الوسط الجغرافي.
التغيرات المناخية الطارئة
إن تطور المناخ خلال 100 سنة الماضية لم يعطي نسقا مناخيا مضبوطا للبحر الأبيض المتوسط، إذ في النصف الثاني من القرن العشرين شهدت كل المناطق الغربية لهذا الوسط زيادة طفيفة في درجة الحرارة وتراجعا كبيرا في هطول التساقطات نتج عنها احترارا ملحوظا. ومنذ نهاية السبعينيات، ازدادت درجات الحرارة أيضا في المناطق الوسطى من المتوسط مع تسجيل زيادة مضطردة للتساقطات. وبالموازاة من ذلك، شهدت منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط تباطؤا طفيفا في فصل الشتاء وانخفاضا ملحوظا في التساقطات بين عامي 1951 و 2016 حيت وصلت نسبة الانخفاض حوالي 14-%، بعد ما كانت نسبة العجز تقدر بحوالي 12.5- % في الفترة ما بين 1951-2000 (2).
الشكل (2) تباين التساقطات في المجال المتوسطي لشهر دجنبر 2007-2012-2016
المرجع: FAO GIEWS
بعض أسباب التغيرات المناخية في المجال المتوسطي
ويعزى تباين درجات الحرارة وسلوك هطول التساقطات إلى تأرجح الضغط الجوي بين مناطق البحر المتوسط، حيث ترتبط العديد من الاختلافات الجوية في مناطق أوروبا وشمال الأطلنتي وشرق المتوسط بالتغيرات في تذبذب شمال الأطلنتي (NAO North Atlantic Oscillation) الذي يتأرجح ارتباطا بتذبذب ضغط الغلاف الجوي بين جزر الأصور (عند 38 درجة شمالا) وإيسلندا (عند 65 درجة شمالا)، حيث يكون الأمر ذو أهمية قصوى في فصل الشتاء وفق مرحلتين، مرحلة إيجابية ومرحلة سلبية.
يرتبط الأمر الإيجابي بالأجواء الأكثر دفئا ورطوبة في شمال غرب أوروبا؛ مقابل أجواء أكثر برودة وجفافا في جميع أنحاء أوروبا الجنوبية وشمال إفريقيا، حيث إن الانحدار الأقوى في الضغط بين جزر الأصور وإيسلندا يدفع مسارات العواصف القطبية، والعكس صحيح عموما بالنسبة لظروف ناو السلبية حيث أن تدرج الضغط الأضعف ُينتج عموما مسارات عواصف متغيرة جنوبا،(3) وعلى هذا النحو فهو يرتبط ارتباطا وثيقا بالتغيرات في التيار النفاث القطبي داخل الغلاف الجوي في شمال الأطلنتي والتغيرات الأوسع نطاقا ضمن الدورة الجوية، ذلك أن قوة فارق الضغط بين مراكز الضغط العالية والمنخفضة تمارس رقابة قوية على قوة واتجاه خطوط العواصف الغربية في منتصف العروض الوسطى (4)
الشكل (3) تذبذب شمال الأطلنتي المرحلة السالبة عن اليمين والمرحلة الايجابية عن اليسار
الشكل (4) تذبذب شمال الأطلنتي (NAO) فترات فصل الشتاء من 2003 إلى 2016
المرجع: المركز الوطني الأمريكي لأبحاث الغلاف الجوي 23.10.2016
وحتى وقت قريب بعد عام 2000، لوحظ غلبة المرحلة الإيجابية، كما يتضح من الشكل 4، ففي الفترة ما بين عامي 2012 و 2016، كان من الواضح أن الزيادة في مؤشر ناو، كان لها بالغ التأثير في انخفاض التساقطات في الأشهر من كانون الأول / دجنبر إلى آذار / مارس، حيث ارتفع مؤشر ناو بمقدار 2,5 خلال هذه الفترة، الذي تلاه انخفاض هطول التساقطات (الشكل 2)
وعلى هذا الأساس يمكن أن تكون الصلة واضحة بين مؤشر NAO وتطور هطول التساقطات في شبه الجزيرة الإيبيرية وشمال غرب إفريقيا في فصل الشتاء هذا دون إغفال تأثير الدوامة القطبية الستراتوسفيرية فوق القطب الشمالي التي لوحظ مؤخرا تغير في ديناميتها نتيجة اختلاف درجة الحرارة بين القطب الشمالي وخطوط العرض المتوسطة، إذ عادة ما يكون لارتفاع حرارة الستراتوسفير و تزايد الحرارة من خطوط العرض الوسطى حتى العروض الشمالية، نشوء تيار جوي متموج (نمط حركي متموج الشكل 5) يغير ميكانزمات الحركة الجوية فيعطي جفافا وقحولة في مناطق، مقابل فيضانات وجليد في مناطق أخرى.
الشكل (5) نمطي الدوامة القطبية
|
|
وضعية الدوامة القطبية أكتوبر2015 نمط حركي مستقر |
وضعية الدوامة القطبية أكتوبر2016 نمط حركي متموج |
المرجع: من موقع www.superzelle.de
نفس الشئ كذلك بالنسبة للشرق الأوسط، ذلك أن قربه من أوربا يثير احتمال تأثير أساليب التقلب (التي تؤثر على هطول التساقطات في أوروبا) على الشرق الأوسط، و خاصة نمط تذبذب شمال الأطلنطي، North Atlantic Oscillation NAO/ ونمط تذبذب شمال شرق المحيط الأطلنتي الغربي East Atlantic West Russia EAWR (5)
خلاصة
على العموم، فإن المقارنات المعروضة هنا تشير إلى أن تغير المناخ أصبح من سمات الوقت الحاضر وبالخصوص في المجال المتوسطي. هذا الأخير أصبح يعد أحد "المناطق النموذجية" لتغير المناخ وبات من أهم سماته التراجع في متوسط هطول التساقطات وزيادة التبخر وزيادة شدة الجفاف الذي ساهم اليوم في نقص الموارد المائية وطرح مشاكل سكانية وبيئية أبطئت مسلسل التنمية في مجموع بلدان المتوسط، ففي الوقت الحاضر سنوات الشح المائية وزيادة التصحر أصبحت أكثر تواترا ويحتمل أن تكون أكثر كثافة في نهاية القرن الحادي والعشرين، فقد أظهرت عدة حسابات نموذجية أن هطول الأمطار في البحر الأبيض المتوسط سوف تنخفض بشكل ملحوظ بحلول العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين. وعلى الصعيد الإقليمي، من الممكن أن تنخفض التساقطات السنوية في الغرب وستتأثر إسبانيا والمغرب والجزائر بشكل خاص. وبالموازاة مع ذلك، من المتوقع أيضا أن يشهد كل من جنوب إيطاليا وجنوب اليونان وجنوب تركيا انخفاضا كبيرا في التساقطات.
ولليوم لا تزال دراسة الميزانيات المائية والحرارية تشكل تحديا كبيرا بالنسبة لعلماء المناخ، بعض الاتجاهات لا تزال تعتمد على البحر الأبيض المتوسط كنموذج وبعض الاتجاهات الأخرى أصبحت تعتمد مقاربات شمولية لتقييم حجم التغيرات البيئية والمناخية.
مراجع
) 1) Alpert P., Neeman B. U., Shay-El Y. (1990) Intermonthly variability of cyclone tracks in the Mediterranean. J. Clim.3:1474–1478, (doi:10.1175/1520-0442(1990)003<1474:IVOCTI>2.0.CO;2
(2) Luis, M. de, et al. (2009): Seasonal precipitation trends in the Mediterranean Iberian Peninsula in the second half of the 20th century, International Journal of Climatology 29, 1312-1323
(3) Hall, R., Erdélyi, R., Hanna, E., Jones, J. M., & Scaife, A. A. (2015). Drivers of North Atlantic polar front jet stream variability. International Journal of Climatology, 35, 1697–1720.
(4) Ottersen, G., Planque, B., Belgrano, A., Post, E., Reid, P. C., & Stenseth, N. C. (2001). Ecological effects of the North Atlantic Oscillation, Oecologia, 128, 1–14.
(5) Krichak S. O., Kishcha P., Alpert P. (2002) Decadal trends of main Eurasian oscillations and the Eastern Mediterranean precipitation. Theor. Appl. Climatol. 72:209–220, (doi:10.1007/s007040200021).