أصبحت الكثير من الأراضي الزراعية في قطاع غزة شبيهة بالصحراء، بعد أن أحرقت موجات الحرّ الأخيرة العديد من المحاصيل مثل البطاطا والبندورة والكوسا. لم تعد الاراضي تعطي إنتاجا كما في السابق؛ فموجات الحرارة غير المستقرة، وانقطاع التيار الكهربائي وقلة مياه الري، والتدمير الإسرائيلي في حروبها المتكررة ضد القطاع، كبد المزارعين خسائر فادحة. وزارة الزراعة لم تولِ أي اهتمامٍ لخسائر المزارعين رغم توثيقها، وتكتفي فقط بالإشراف على المزارعين في حين تقدم بعض المؤسسات الأهلية مساعداتٍ بسيطة لا تزيد عن مدِّ شبكات ري في أحسن الحالات. يمكننا القول بأن أبرز الحلول البيئية المتاحة التي تساهم في إنقاذ التربة من التصحر، يتمثل في الاعتماد على التسميد العضوي، والاستفادة من المخلفات الزراعية بطرق سليمة بتدويرها، وصنع الكمبوست أو السماد الطبيعي والبلدي، وتطوير قدرات المهندسين الزراعيين الجدد.

خاص بآفاق البيئة والتنمية

بدا مكفهر الملامح، يلخص محياه تفاصيل معاناة امتدت على مدار سنوات عدة، بعد أن ضاقت به السبل، ولم يجد ملجأ ولا منجىً سوى التمسك بتراب أرضه، ومعاودة الصمود، وفلاحتها عدة مرات، عسى أن يتغير الحال بين ليلةٍ وضحاها.

هذا هو حال المزارع الخمسيني (أحمد بدوي) الذي جُبل على هذه المهنة التي ورثها من الأجداد منذ أن كان طفلاً لم يتجاوز الثانية عشر عاماً، حتى أنه لم ينتسب الى المدرسة لتعلم القراءة والكتابة والعلوم التقليدية، فقط تعلم فلاحة الأرض فلم يعرف سواها من المهن الأخرى.

يقول (بدوي) وهو يتوسط أرضه ويشير إلى بؤس الحال:" لم تعد الارض تعطيني مثل السابق، موجات الحرارة غير المستقرة، وانقطاع التيار الكهربائي وقلة مياه الري، والتدمير الممنهج حيث تعرضت ارضي للتجريف أربع مرات، كان آخرها العدوان الاسرائيلي عام (2014)، كل ذلك كبدني خسائر فادحة، نتيجة تلف المزروعات قبل نضجها ونفق الطيور والحيوانات ومزارع الأسماك، حيث لم تفلح كل الحلول في انقاذها".

تلف عشرة دونمات

يكمل: "أكثر من عشرة دونمات مزروعة بالبندورة تلفت، وذهبت هباء "وهبطت كما يهبط الانسان المريض" كل ذلك أثر عليّ بشكل سلبي، ولكن لم أيأس، فزرعت الأرض ( ذرة ) ومن ثم زرعتها بالفلفل الأخضر، والباذنجان ولكنهما لم يعوضا الكارثة، خاصة في ظل تذبذب الاسعار وانخفاضها لدرجة لا تلبي أدنى احتياجات المزارع، حيث وصل سعر صندوق الفلفل لثلاثة شواكل وكذلك الباذنجان.

لم تولِ وزارة الزراعة أي اهتمامٍ لخسائر المزارعين رغم توثيقها، وتكتفي فقط بالإشراف على المزارعين في حين تقدم بعض المؤسسات الأهلية مساعداتٍ بسيطة لا تزيد عن مدِّ شبكات ري في أحسن الحالات، في حين أن المزارع لديه احتياجات أخرى ترتبط بتوفير الوقود والبذور ووسائل مكافحة عضوية للحشرات وأسمدة عضوية لا تسمح قدرة المزارعين المادية بشرائها لارتفاع كلفتها.

رغم معاناة المزارع ( بدوي) بعد أن فقدت الكلمات جدواها وفق وجهة نظره، إلا أنه قام بحرث (3) دونمات على الخط الفاصل مع الاحتلال الاسرائيلي وهو ما يعرف بخط ( جكر) تمهيدا لفلاحتها من جديد غير آبهٍ بما سيتعرض له في المستقبل من خطورة، ويحدوه الأمل أن تشهد المنطقة حالةً من الاستقرار تساهم في تحسين أوضاعه المعيشية سيما وأنه المعيل الرئيس لأسرة مكونة من (13) فردا.

حقل زراعي في غزة

العام الأسوأ

حالة المزارع ( احمد حجي) لم تختلف كثيرا في تفاصيلها عن سابقه، ولكنه وصف ما آل إليه وضعه بالقول:" أسوأ عام يمر عليّ في تاريخ عملي في الزراعة والذي دأبت عليه منذ عشرين عاماً، خاصة في ظل أزمة الكهرباء حيث أضطر دفع ما قيمته (700) شيكل يومياً لاستئجار مولد كهربائي وتزويده بالسولار، مشيحاً بيديه إلى ارضه التي أصبحت شبيهة بالصحراء، بعد أن أحرقت موجات الحرّ الأخيرة محصول البندورة ولم يحصل منها على حبة واحدة سليمة".

ويضرب ( حجي ) كفاً بكف قائلاً: " لن استطيع زراعة هذه الأرض ما دام هناك أزمة مياه وكهرباء، فالأرض لم تعد قادرة على العطاء مرة أخرى في ظل استمرار هذه الازمات، والسوق ليس بأحسن حالٍ بعد تدني الاسعار، نحن بحاجة الى من يلتفت إلى حالنا ومعاناتنا المتفاقمة يوماً بعد يوم، فسلة غزة الاقتصادية مهددةٌ.

زراعة وقطف الفلفل في غزة

تخفيض الأجرة

لم يَعد بوسع المزارع (حجي) دفع أجرة العاملات اللواتي كن يعملن تحت لهيب الشمس في مزرعته على الحدود الشرقية من منطقة جحر الديك، حيث يحاولن اتقائها بتكميم وجهوهن حيث يعملن وسط ظروف غاية في القسوة بعد أن جرى تخفيض ساعة العمل إلى (5) شواكل، وأصبح حجي مدينا للعمال والعاملات، ولم يتمكن من دفع أجرة عملهم اليومي في جني الفلفل الأخضر والباذنجان.

ويشير حجي بيديه الى مساحات شاسعة من الارض الزراعية الفارغة التي تقدر بمائة دونم استأجرها في بداية العام، ولم يتمكن من فلاحتها حتى اللحظة في انتظار حلِّ ازمة الماء والكهرباء.

خسائر المزارعين يكتوي بنارها ليس المزارع فحسب؛ بل تمتد للأسر المعوزة التي لا تمتلك القدرة الاقتصادية التي تمكنها من شراء الخضار، فهذه المرأة الثلاثينية (أم فارس) تؤكد أن الخضار خاصة الأساسية منها كالبندورة والكوسا لم تعد تعرف طريقها للبيت، ولأكثر من شهر سلة البيت الغذائية خاوية، وذلك بسبب الوضع المعيشي حيث تعتاش الأسرة على مخصصات الشؤون الاجتماعية غير المنتظمة، عدا عن ارتفاع اسعار الخضار لدرجة كبيرة، وهذا ما أثّر على بنية أطفالها الأربع الصحية ومعاناتهم من فقر الدم".

 

الحبوب والبقوليات

تضيف بلهجة حسرة: "بكسة البندورة كانت بعشرة شيكل، والآن لا استطيع شراء كيلو منها بسعر وصل الأربع شواكل في أحسن الأحوال، وبتُ أعتمد على الحبوب والبقوليات الجافة كوجبة رئيسة لأسرتي حتى ترخص البندورة".

وقد حوّل الحصار والعدوان الإسرائيلي قطاع غزة إلى حالة إنسانية، حيث يتلقى حوالي (80%) من سكانه مساعدات غذائية من الأونروا وغيرها من وكالات الاغاثة الدولية، فيما وصلت نسبة انعدام الامن الغذائي الى 75%، وارتفعت حالة الفقر الشديد من 21%-48% وفق تقرير الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد) لعام 2017.

المهندس نزار الوحيدي مدير عام الارشاد بوزارة الزراعة اعتبر أن الموجات التي تتعرض لها الأراضي الزراعية سواء كانت الباردة أو الحارة، تؤثر بشكل سلبي على قطاع الزراعة وتُهلك المحاصيل الزراعية وتؤدي الى نفوق مزارع الدواجن، والثروة الحيوانية، وقد اعتاد المزارع على مواجهة هذه الكوارث منفردا معتمداً على امكانياته البسيطة وخبراته المحدودة.

المهندس الزراعي نزار الوحيدي

تحديات كبيرة

ويوضح الوحيدي" أن قطاع الزراعة منذ عشرات السنين وهو يواجه تحدياتٍ كبيرة لعدة أسباب منها كون الزارعة نشاط فردي خاصة في قطاع غزة وفلسطين عامة، عدا عن ضعف اهتمام الحكومة بهذا القطاع وتأهيله وتعويض خسائر المزارعين، اضافة الى أزمة الكهرباء والطاقة والمياه، وانعكاسات الاخيرة على قدرة المزارع في مواجهة الكوارث.

يضيف أن تكلفة انتاج الكهرباء باستخدام الوقود ترفع من تكلفة الانتاج أربعة أضعاف، مقارنة مع حالة استخدام الكهرباء العادية، وهذا يدفع ثمنه المزارع ومن ثم تمتد للمستهلك.

ولفت الوحيدي أن هذه الموجات أثّرت بشكل مباشر على محصول البطاطا والبندورة والكوسا، الأمر الذي أدى إلى تذبذب أسعار الخضار وانعكس على القدرة الشرائية للمواطن.

جفاف قصب السكر بسبب موجات الحرارة المرتفعة في غزة

التصحر

وحذر من تصحر الأراضي الزراعية الناجم عن الجفاف الذي يصيب التربة نتيجة عدم انتظام الري وترطيب التربة بشكل دوري، ما يسبب فقد التربة للعديد من العناصر الضرورية خاصة غاز النيتروجين، وتملح التربة الثانوي الناجم عن تبخر المياه.

ولفت الوحيدي أن القدرة الإنتاجية للأراضي الزراعية وخلال العشر سنوات الأخيرة سجلت انخفاضا بنسبة (15%) خلال الربع الأخير نظراً لتكثيف الزراعة وزيادة الزراعة الكيميائية، والإفراط في استخدام الأسمدة ونقص التسميد العضوي والري بالمياه المالحة والممارسات الزراعية الخاطئة المتمثلة في الرعي الجائر والتخلص من المخلفات النباتية وبقايا المحصول.

وعن دور وازارة الزراعة في دعم المزارع الفلسطيني، يشير الوحيدي إلى تدني الموازنة العامة التي تخصص لقطاع الزراعة والتي لا تزيد عن( 1% ) ما يعّد اهانة قوية لهذا القطاع على حد وصفه، الذي يُفترض أن يُسهم في جزء كبير من اجمالي الناتج المحلي، وتحقيق الأمن الغذائي الذي اصبحت تحققهُ المستوطنات الصهيونية المقامة في كبد الارض الفلسطينية المحتلة.

الاشراف فقط

وأشار إلى أن الدعم المقدم من وزارته لا يتجاوز الإشراف الفني، أما على صعيد الخسائر التي يتكبدها المزارع فلا تستطيع الوزارة مساندته ولو باليسير ويقتصر الأمر على المؤسسات الأهلية عبر المساعدات المقدمة من الدول الشقيقة التي ساهمت في اعادة تأهيل معظم المزارع ولكن بشكل متواضع.

وأوضح أنه لا توجد تقارير صادرة عن وزارة الزراعة بحجم الخسائر الناجمة عن الموجات التي ضربت قطاع الزراعة هذا العام، لأن حصر الاضرار يترتب عليه استحقاقات مالية للمتضررين من المزارعين، وهذا ما تنوء به قدرة الوزارة، لافتا أن محصول الجوافة تراجع بشكل كبير حيث تمت خسارة الف دونم، نتيجة الجفاف عدا عن تراجع محصول البندورة والكوسا إلى (60%) ونفوق ( 50 ) ألف صوص في طور النمو.

ويوضح الخبير الاقتصادي د. ماهر الطباع أن القطاع الزراعي يعتبر القاعدة الانتاجية الاساسية للاقتصاد الفلسطيني، ويساهم في تحقيق الأمن الغذائي للأسر الفلسطينية، ولكن جرّاء تعرضه للاستهداف الممنهج من قبل الاحتلال الاسرائيلي عبر تدمير الارض الزراعية والقوى العاملة وصعوبة تصريف الفائض، ومنع المزارعين من الوصول لأراضيهم ومزارعهم، كل ذلك اسهم في اضعاف هذا القطاع اضافة الى الكوارث الطبيعية التي زادت من معاناة المزارعين.

هلاك السلق وجفاف قصب السكر بسبب موجات الحرارة في غزة

استمرار التدهور

وحذر من استمرار التدهور والتراجع في هذا القطاع وانحسار المساحة الخضراء، في حالة لم تتدخل السلطة الفلسطينية بشكل فاعل وجديّ لإنقاذه من خلال زيادة حصة قطاع الزراعة في الموازنة العامة، ووضع خطط واستراتيجيات لتطويره وتنميته.

ويرى الوحيدى أن إنهاء الانقسام وتحقيق المصالحة قد يفتح أبواب الامل امام احياء القطاع الزراعي في حالة فك الحصار وفتح المعابر، لإفساح المجال مفتوحا امام الاستيراد بتكلفة أقل، ما يخفف مدخلات الانتاج وفتح باب التصدير أيضا وبالتالي تزداد هوامش الربح، والتخلص مما فرضه الحصار علينا من زراعة محاصيل بعينها، مخالفة لفكرنا وتوجهنا الزراعي، ادخال اصناف جديدة تتحمل درجات الحرارة والبرودة وهجن نباتية وحيوانية تتلاءم مع الواقع الجديد.

ويرى ايضا ان هناك حلول أخرى تساهم في إنقاذ التربة من التصحر، وهي الاعتماد على التسميد العضوي، والاستفادة من المخلفات الزراعية بطرق سليمة بتدويرها وصنع الدبال، وتطوير قدرات المهندسين الزراعيين الجدد، وادخال الاجهزة والمواد اللازمة للمختبرات والبحوث واستقدام خبراء من الخارج.

مصدر في وزارة الزراعة تحفظ عن ذكر اسمه صرح بأن الوزارة تقوم وعبر فريق من المهندسين وطيلة ايام الاسبوع بجولات ميدانية للإشراف على المزارعين وارشادهم فيما يخص استخدام الاسمدة الكيميائية والمبيدات الحشرية الآمنة، وما يسمح بها في إطار العملية الزراعية وهذا يكون خلال الدوام الرسمي.

ولفت أن المخالفات التي سجلت وتم ضبط من 3-5 مزارعين، ارتكبت بعد نهاية دوام المشرفين فتم احالتهم للنيابة ومن ثم للقضاء، وجرى محاسبتهم بالحبس وتجريف الاراضي التي ثبت أنها مخالفة للعرف الزراعي وغير آمنة.

وأوضح أن هناك نقصاً في الكادر الإشرافي والمهندسين الميدانيين، وأن الوزارة وعلى قدر امكانياتها المحدودة تقوم بدورها في عملية الاشراف والمتابعة فقط.

المهندس الزراعي بكر يونس اعتبر أنه من الصعوبة استخدام حلول كيميائية لعلاج التربة من التصحر وانقاذ المحاصيل الزراعية، لأنها لا تجدي نفعا في حالة موجات الحر او البرد، ولكنها قد تجدي نفعا في الوضع الطبيعي في حال جرى استخدامها دون افراط خاصة المركبات النيتروجينية الأكثر استخداما عالمياً، لأن زيادتها في التربة قد يؤدى إلى تلوثها وتأخير الإزهار، زيادة في النمو الخضري ما يؤثر سلبا على الإنتاج.

كما أوضح يونس، أنه في ظل عدم توافر التسميد العضوي وغياب الماء يجهد النبات ويذبل ومن ثم هلاكه، لافتًا أن استخدام الأسمدة الكيمائية يتم في حالات الموجات الحارة والباردة.

ويرى أن هناك بعض الحلول التي قد تساهم في انقاذ القطاع الزراعي، منها وجود حاضنة قوية للمزارعين وتفعيل دور اتحاد المزارعين للدفاع عن حقوقهم، وانشاء صندوق لدعم المزارعين وتعزيز صمودهم، وكذلك جلب اصناف جديدة تتحمل الحرارة، والتوجه لتطعيم بعض الخضروات.