لم يكن تقييمنا السلبي لـ "اتفاق باريس" حول المناخ مبنيا على تقييم خطابات رؤساء الدول في بداية القمة وختامها، ولا بناء على بنود الاتفاقية "غير الملزمة" فقط، إنما بناء على مراجعة دقيقة وعميقة لسياسات الدول تجاه الطاقة بشكل عام بطريقة مباشرة، وتجاه المناخ بشكل غير مباشر. فلمعرفة مدى جدية الدول في مقاربة مسألة تغير المناخ، يجب على الأقل التدقيق في استراتيجيات الدول وسياستها وخططها البعيدة المدى، لا سيما حول قطاعي إنتاج الطاقة واستهلاكها وحول سياسات النقل، القطاعين الأكثر تسببا بكارثة تغير المناخ العالمية.
وعندما نقول سياسات الطاقة، نعني بالدرجة الأولى انتاج الطاقة ومن اية مصادر. وإذ تشدد تقارير الأمم المتحدة الخمسة على ان المشكلة الرئيسية المتسببة بظاهرة تغير المناخ هي انبعاثات ثاني اوكسيد الكربون المنتجة بشكل رئيسي من احتراق الوقود الاحفوري بشتى أنواعه (من الفحم الحجري إلى الفيول اويل إلى الديزل والمازوت والبنزين والغاز...)، علينا بالتالي رصد استثمارات الدول والشركات في هذه الطاقة الاحفورية على المدى المتوسط والبعيد، لمعرفة اتجاهات الانبعاثات ولتقييم مدى مصداقية الدول في التخفيف من هذه الانبعاثات.
بناء على كل ذلك، تظهر الإحصاءات والدراسات العالمية ذات الصلة في السنوات الأخيرة، أن هناك زيادة في الاستثمار في الطاقة الاحفورية في كل أنحاء العالم، وفي البلدان النامية أكثر من البلدان المتقدمة، وان الهدف الذي اعلن في باريس بتخفيض درجات حرارة الأرض او وقفها لكي لا ترتفع أكثر من درجتين مئويتين، يتطلب ليس فقط التخفيف من الاعتماد على الوقود الاحفوري، بل ترك أكثر من 80% من الطاقة الاحفورية المكتشفة حتى الآن تحت الأرض. فما هي حقيقة هذا الموضوع؟ وهل فعلا تراجع الاستثمار في الطاقة الاحفورية لناحية التنقيب والاستثمار والسحب من باطن الأرض، خصوصا في ظل تراجع اسعار المشتقات النفطية في الفترة الأخيرة بشكل دراماتيكي؟ وماذا عن وضع الاستثمارات في الغاز والنفط الصخري؟ ماذا عن الاستفادة من ارتفاع درجات حرارة الأرض وذوبان الجليد في المحيط المتجمد وتسهيل إمكانية التنقيب في هذه المنطقة؟!
وماذا عن الفترة الفاصلة بين التركيز والاستثمار في الطاقات المتجددة بالقياس الى سهولة الاستثمار بتلك الاحفورية؟ وكيف يمكن التوفيق بين شراهة الاسواق ومتطلبات المنافسة في السوق والسعي الى الطاقة والوقود الارخص في التصنيع والنقل... وبين متطلبات حماية المناخ التي تتطلب التعاون في تغيير قواعد السوق كليا؟
وإذ تبين الدراسات والمراجعات لسياسات الدول زيادة في الاستثمارات في الطاقة الاحفورية على أنواعها في المستقبل القريب والبعيد، يمكن توقع زيادة في الانبعاثات بدل تخفيضها وبالتالي زيادة في الظواهر المناخية المتطرفة، ويمكن الجزم أن اتفاق باريس المناخي سيذهب مع العواصف الآتية للأسف.
وقد أعلنت إحدى المنظمات الدولية غير الحكومية في مؤتمر المناخ في باريس عن انخفاض كبير في الاستثمارات في 500 مؤسسة وشركة نفطية سحبت استثماراتها بحجم 3200 مليار يورو في الغاز والنفط والفحم الحجري. وقد جاء هذا الإعلان للدلالة على ان ضغوط هذه الجمعيات الدولية كانت فاعلة ومؤثرة في محادثات المناخ، بعد أن أشارت التقارير الى ان المحافظة على درجات حرارة الأرض كي لا ترتفع اكثر من درجتين مئويتين تتطلب إبقاء أكثر من 80% من هذه الطاقة المكتشفة تحت الأرض. مع العلم ان التقارير الدولية كانت دائما تشير الى ان احتراق النفط والغاز والفحم الحجري يتسبب بـ80% من الانبعاثات العالمية من ثاني أوكسيد الكربون المتسبب بـ67% من غازات الدفيئة.
الا ان الاستثمارات في الوقود الاحفوري كما هو معلوم تقدر بمئات مليارات الدولارات في كل أنحاء العالم، وكل مؤشرات الدول النفطية تتحدث عن خطط لزيادة الإنتاج وليس تخفيضها، لا سيما في البلدان المصنفة نامية او ناشئة التي تراهن على الوقود الاحفوري بشكل شبه كلي في اقتصادياتها وفي رفع نسب النمو... ولا نعرف بالتالي ما معنى ان تقوم مثل هذه المنظمات الدولية المعنية بتغير المناخ بالإعلان عن هذه "الإنجازات"، في وقت اتهم بعضها في السابق بتلقي دعم مادي من شركات نفطية للقيام بأبحاث بيئية على بعض الكائنات!
الأسعار والاستثمار
صحيح ان الاستثمارات في الطاقات المتجددة وفي التكنولوجيا المصنفة خضراء قد زادت نسبيا في كل أنحاء العالم، إلا أنها ما زالت غير قابلة للمقارنة مع الاستثمارات في الوقود الاحفوري، لا بل يحكى عن سباق بين الدول والشركات الكبرى للاستثمار في القطب المتجمد الشمالي بعد أن بدأ بالانهيار والذوبان بسبب مشكلة تغير المناخ وارتفاع درجات حرارة الأرض! فكيف تروج هذه المنظمات لانخفاض الاستثمارات في الوقود الاحفوري؟!
بالإضافة إلى ذلك، اظهر اجتماع وزراء منظمة "الأوبك" قبل أسابيع في فيينا، أن السعودية رفضت الطلبات بتخفيض إنتاجها المتزايد الذي يعتبر سببا رئيسيا في خفض أسعار النفط، وقد برر مصدر في المنظمة عدم قبول السعودية بخفض إنتاجها، أنها تريد أن تستمر في تلبية متطلبات زبائنها وعقودهم. وإذ يؤكد المصدر ان فائض العرض في الأسواق حاليا هو المسبب الرئيسي في تراجع الأسعار، أكد أيضا الاستمرار في هذه السياسة لإخراج عدد من المنتجين من السوق لا سيما تلك الشركات التي تخسر حاليا والتي قلّصت استثمارات كثيرة كانت تنوي توظيفها في أميركا، وخرج كثير منها من السوق النفطية. وهذا يعني ان تراجع بعض الاستثمارات في الوقود الاحفوري لم يكن بسبب "رضوخ" هذه الشركات لضغوط المنظمات الدولية المدافعة عن تغير المناخ، بل لأسباب متعلقة بالمنافسة في الأسواق وربما لأسباب سياسية واقتصادية بعيدة المدى.
في الإطار نفسه، نقل عن وكالة الطاقة الدولية توقعها زيادة مليون برميل يومياً في الطلب على النفط، فيما يستهلك العالم 80 مليون برميل يومياً. وأوضح المصدر ان تراجع الإنتاج بخمسة ملايين برميل يومياً مثلاً، هو نتيجة للانخفاض الطبيعي للحقول، ما يعني أن على العالم الاستثمار لإنتاج خمسة ملايين برميل في اليوم لتعويضها. ولاحظ أن لا استثمارات متوافرة لهذه الكميات ما يعني أن العالم سيواجه في السنوات الثلاث المقبلة صعوبات، نتيجة ندرة الاستثمارات، ما يمكن أن يفضي إلى زيادة الأسعار.
ولا نعرف اذا كانت هذه المنظمات أخذت بالاعتبار عودة الإنتاج الإيراني إلى الأسواق، بعد توقيع الاتفاق النووي. أما بالنسبة إلى العراق والكويت وإيران، فهي تنتظر إعلان أسعار عقود النفط السعودي، وهي تضع أسعاراً مخفضة بالنسبة إلى النفط السعودي، مما يدل على توقع زيادة في الإنتاجية في السنوات المقبلة وليس تخفيضاً، وبالتالي زيادة في الانبعاثات.
كما تجدر الإشارة الى الزيادة المتوقعة من الاستثمارات في النفط والغاز الصخري لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وهو عامل جديد ومؤثر في حجم الانبعاثات العالمية وعلى إبقاء الأسعار منخفضة وزيادة الاستهلاك والانبعاثات العالمية. بالإضافة الى عدم تراجع أي من الدول التي تعتمد على الفحم الحجري بشكل رئيسي عن هذا الوقود الأكثر تلويثا.
ووفقا لأبسط قواعد السوق، فإن تراجع الأسعار يساعد عادة على زيادة الطلب. ووفق الرئيس التنفيذي لشركة توتال النفطية الفرنسية فإن الطلب على النفط حقق هذا العام أعلى زيادة له في عشر سنوات وهي 1،7 مليون برميل يوميا.
استهلاك الفحم إلى زيادة أيضا
ولسخرية القدر توقع تقرير صادر عن مؤسسة "وود ماكينزي" لدراسات الطاقة، أن يصبح الفحم الحجري الوقود الأكثر استهلاكا في العالم (متفوقا على النفط) بحلول عام 2020، وهو الموعد نفسه الذي حددته الدول للبدء بتطبيق "اتفاق باريس" للمناخ!
وأكد التقرير إنه خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2010، ارتفع استهلاك العالم للفحم بشكل ملحوظ، من 2.3 مليار طن من النفط المكافئ، إلى نحو 3.6 مليارات طن من النفط المكافئ، متجاوزا معدل نمو الطلب على النفط عالميا الذي ارتفع في الفترة نفسها من 3.5 مليارات طن إلى 4 مليارات طن.
ولفت التقرير إلى أن ديناميكية النمو هذه ستستمر مستقبلا بالرغم من جهود الحكومات للحد من انبعاثات الكربون، ومن المتوقع أن يبلغ استهلاك العالم من الفحم بحلول عام 2020 نحو 4.5 مليارات طن من النفط المكافئ، مرتفعا بنسبة 25%، ومتجاوزا الطلب على النفط الذي سيبلغ 4.4 مليارات طن فقط.
وقال رئيس دراسة الأسواق العالمية في مؤسسة وود ماكنزي "وليام دوربين"، إن ثلثي نمو الطلب على الفحم عالميا سيكون في الصين، وذلك نظرا لوجود احتياطيات كبيرة من الفحم في الصين مقارنة بموارد الطاقة الأخرى، لافتا إلى أن محاولات الحكومات للحد من التلوث الناجم عن ثاني أكسيد الكربون، لن يؤثر بشكل كبير في استهلاك الفحم.
وأضاف الخبير في مؤسسة وود ماكنزي، أنه في حال عملت الصين على الاستفادة من التكنولوجيا الحديثة للتحكم بحجم انبعاثات الغازات الضارة نتيجة احتراق الفحم، فإنها ستكون قادرة على الحفاظ على البيئة واستخدام المزيد من الفحم لضمان النمو الاقتصادي.