خاص بآفاق البيئة والتنمية
المُشكلات البيئية ليست جديدة، فهي قديمة قِدم وجود الإنسان في الأرض، أما الهندسة البيئية ومُحاولة دراسة اصلاح تلوث الهواء والماء وكذلك التربة ليست بالحديثة ولا تعود لأيام الثورة الصناعية قبل حوالي 200 عام بل أقدم من ذلك بكثير، فهي تعود إلى ما قبل 1000 عام، المثير أنها بدأت بمُبادرة من عالم وطبيب مقدسي يُدعى محمد التميمي والذي لُقّب بالترياقي وكان من أقوى اهل زمانه في الطب فقد بدأ دراسته وبحثه في القدس ثم عمل في مدينة الرملة لدى الأمير الاخشيدي هناك ثم انتقل إلى القاهرة حيث عمل كطبيب للوزير الفاطمي وكتب كتابه (مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء) الذي يُعتبر من أشهر كُتبه بعد المرشد، كما انه يُعتبر أول كتابٍ اختصاصي موسوعي في الهندسة البيئية.
التميمي .. والأجواء العلمية في فلسطين
وُلد محمد التميمي في عائلة تُقدّر العلم والطب بشكل خاص، فجدّه "سعيد" كان طبيباً ذائع الصيت في القدس، أما أبوه "احمد" فقد علّمه الكثير من التراكيب والأدوية التي نقلوها بدورهم عن كبار العلماء الذين زاروا القدس في تلك الحقبة كالمؤرخ المعروف باليعقوبي صاحب كتاب البلدان.
شغف التميمي بالعلم كان أكبر من أن يكتفي بما تعلّمه عن أبيه وجدّه، فقد تتلمذ على يد أساتذة آخرين مثل الحسن بن ابي نعيم وهو من اطباء القدس والذي يُعتبر من أفضل أساتذة التميمي، كما أنه أخذ العلم عن راهب قبطي يُدعى زكريا بن ثوابة ولازمه فترة طويلة يأخذ عنه علوم الطب، ولا ننسى أبو الفتح المتطبب الذي علّم التميمي شروحات كُتب جالينيوس الطبيّة.
لم يمكث محمد التميمي في القدس مدى الحياة، فقد انتقل إلى مدينة الرملة التي كانت حينها من أعظم بلاد فلسطين وكانت تُسكّ فيها النقود، فعمل هناك لدى أميرها عبدالله بن طغج الاخشيدي، ثم انتقل إلى القاهرة وعمل هناك طبيباً لدى الوزير يعقوب بن كلسي حيث تمكّن من التفرغ العلمي.
مخطوطة للعالم والطبيب المقدسي محمد التميمي الملقب بالترياقي
لماذا يكتب في الهندسة البيئية؟
كطبيب ترعرع في القُدس والتي لا تبعد كثيراً عن عمواس التي اشتهرت بالطاعون الذي أودى بحياة الآلاف فيها، فقد أولى اهتماماً كبيراً بالأمراض الناجمة عن تلوّث الهواء والماء، ولكنه لم يكتب كأي طبيب بالبحث عن الأدوية والعلاجات، بل راح يبحث في اسباب تلوث الهواء والماء ثم بحث في كيفيّة مُعالجة ما فسد منه، ثم أخيرا قدم العلاجات الوقائية من الامراض الناجمة عن التلوث البيئي.
يقول مُحمد التميمي في كتابه: "كان السبب الباعث لي على تأليف هذا الكتاب والعناية بهذا الامر اني نظرت حال علماء الاطباء الساكنين بالأمصار الفاسدة الأهوية والبلدان المشهورة بالأوبئة الكثيرة الأمراض، التي تحدث بها عند انقلابات فصول السنة الأمراض القاتلة والطواعين المهلكة لأجل فساد اهويتها، ولم ار أحدا من المتقدمين منهم ولا من المتأخرين امعن النظر في ذلك وعني به أتم عناية، حتى وضع له كتابا ونصب له امثاله من العلاجات، فكان من بعد يقتدي به ويسلك في ذلك محجته غير الفاضل ابقراط فإنه وضع كتاب الاهوية والبلدان والمياه، وكذلك وجدته في الكتاب المسمى افيذيميا".
إصلاح الهواء.. أساس الصحة السليمة!
يؤكد التميمي في أكثر من موضع أن الهواء الفاسد اخطر من الماء الفاسد، فالطعام الفاسد يخرج من الجسم بيد أن الهواء يستقر غالباً وفي هذا يقول:" أما الجو الفاسد فإنه إذا خرج منه الجزء بالتنفس رجع إلى الجوف بالتنسم مثله سريعاً، فلأجل ذلك متى فسد الجو امرض الأجساد وأثار كل علة وان لم يكن هو مسببها". ولذلك كان ينصح الاطباء ممن يقيمون في البلاد التي فسد هواءها بأن يُكرسوا انفسهم لمُعالجة الهواء الفاسد عنه من أمراض ويقول في هذا:" فكان الأولى بالذين يتولون منهم علاج ملوكها وخاصة رؤسائها وعامة أهلها ان تكون عنايتهم بمداواة الهواء الفاسد المحدث لوقوع الأوبئة بها، الجالب الطواعين على سكانها أولى واوجب من عنايتهم بمداواة ما يتحصل بذلك من الأمراض المخوفة في أجساد اهلها، وان يصرفوا هممهم إلى ذلك ويُفرغوا له نفوسهم".
ويؤكد التميمي في أكثر من موضعٍ في كتابه مدى خُطورة فساد الهواء، ويضرب ريح السموم التي تهب على بلاد الشام والعراق صيفاً مثالاً، فهي تهب مع احتدام الحر وتصاعد الأبخرة ( الغازات) الفاسدة من بطن الارض ومن المياه الراكدة الفاسدة فتمتزج مع الهواء فتفسده وبذلك "تأخذ أنفاس الناس" كما كتب.
شب اليماني
تقنيات مُتطورة في تنقية المياه
صحيحٌ أن التميمي لم يولِ مُعالجة المياه نفس الأهمية التي أولاها لمعالجة الهواء، إلا أننا نجد في القليل الذي كتبه الكثير من المبادئ العلمية المعتمدة حتى اليوم في صناعة مُعالجة المياه كالتعقيم والترسيب والرشح والامتزاز.
وهو يُفرّق بين اصلاح الماء الفاسد وبين تصفيته، أما الإصلاح فيكون بطبخ الماء في قدر حتى ينقص منه رُبعه كما ينصح بـ"رشحه" في آنية الخزف ولا يقف عند هذا الحد طبعاً بل يُسهب في شرح تفاصيل دقيقة جداً، كأن يُطبخ الماء في آنية من "نحاس المونك" أو "حديد البرام" ويكون الحطب من نبتة "الطرفاء" ويفضل أن يكون التبريد في آنية من الخزف الرقيق أو الزجاج كما ينصح أن يوضع فيه "المصطكي".
أما تصفية المياه، فتكون من خلال إلقاء ما يُسمى بالشب اليماني فيه أو إلقاء لب المشمش أو قلوب اللوز المُرمد – من الرماد-، وهي أشياء قد لا نُدرك أهميتها من الوهلة الأولى، فالشب اليماني يُستخدم اليوم في صناعة مستحضرات التجميل وكذلك في تقنية المياه تحت مسمى Aluminium Sulfate حتى يومنا هذا، وتسمى هذا العملية بعملية الامتزاز Adsorption.
التميمي .. يستحق منّا اكثر !
الأكيد، أن هذا التقرير لا يكشف إلا شيئاً بسيطاً من المساهمات الجليلة التي قدّمها العالم محمد التميمي ابن مدينة القدس، التي ترعرع فيها وطلب العلم على يد كبار اطبائها قبل 1000 عام من الآن، والمؤسف أن صيته الذي بلغ بلاد الأندلس والمغرب في الماضي، حيث ذكره عالم النباتات الاندلسي الشهير ابن البيطار في كتابه "الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" أكثر من سبعين مرّة ، إلا أننا اليوم لو بحثنا عن كُتب التميمي سنجد أغلب اصحاب المكتبات لا يعرفون اسم الكتاب، فكيف بعامة الناس؟ لذلك سنُحاول في مجلة آفاق بيئية أن نُسلط الضوء على هذا العالم المقدسي أكثر، فهو وبلا أدنى شك.. يستحق أكثر!