خاص بآفاق البيئة والتنمية
تمضي يومًا طويلاً في اكتشاف جبل جادر، شرق طوباس برفقة الصديقين مراد أبو جابر وعلي أبو محسن. الأول جاء إلى الدنيا في مخيم اليرموك بسوريا وعاد لفلسطين عام 1998، أما الثاني فنشأ في طوباس. بحكم إقامتهما في المنطقة وقربهما منها، فإنهما يحفظان أسرار الجبل جيدًا، ويعرفان كل بقاعه وأزهاره وأشجاره وممراته.
اليوم هو الحادي عشر من شباط، الذي يشير وفق تقسيم الشتاء لنهار ونصف النهار من عمر سعد ذابح المتبقي. وفيه تبدو الأرض رطبة من شتاء الأربعاء، الذي شهد حالة عدم استقرار جوي وصلت سلسلة الجبال الشرقية التي تطوق طوباس كسوار في معصم. لكن أزهار السفوح المُطلة على الأغوار، والمقابلة لجبال عجلون في الضفة الشرقية لنهر الأردن ليست بكامل عافيتها، بعد جفاف وصقيع ومطر شحيح.
جبل جادر شرق طوباس
قلق
يراقب أبو جابر وأبو محسن بقلق السماء، ويستمعان لنشرات الراصد الجوي كثيرًا، ويبدأن خلال الجولة بمقارنة حال الأرض بما كانت عليه خلال الأعوام السابقة. تأتي المقارنة بائسة، فغطاء العام الحالي لا يسر صديقًا، وبالكاد يظهر اللون الأخضر في السفوح البعيدة، أما الأراضي في السهول الزراعية المُعلقة بين الجبال فمعظمها حمراء لم تُصبغ بالأخضر بعد، وباستثناء بعض النباتات التي تشق التربة أو تعيش بين تشققات الصخور، فلا دلائل بعد على الربيع.
يقولان: "كأننا لا نزال في شهر تشرين الثاني أو كانون الأول في سنين المطر، فالحشائش قليلة، وما هطل من أمطار على المنطقة لا يروي عطش الأرض، ويؤخر النباتات أو تبدو في بدايات عمرها، والنشرة الجوية القادمة لا تبشر إلا بحرٍّ غير معتاد في مثل هذا الوقت."
مراد أبو جابر وعلي أبو محسن يستكشفان منطقة جبل جادر شرق طوباس
صديقا الجبل
ولد أبو جابر وأبو محسن في العامين 1981 و1980، وشرعا مبكرًا باكتشاف الجبال غير البعيدة عن منازل عائلاتهم معاً، إلى أن صارا يلمان بنباتاتها وطيورها وحيواناتها البرية، والتسمية الشعبية لها، وما شهدته من أحداث تاريخية، استنادًا لروايات أجدادهم، فصارا كصديقين للجبل.
تنطلق رحلتنا تحت غيوم رمادية متقطعة، وفوق أرض رطبة، قاصدين منطقة يرزا، الجار اللصيق بأراضي تياسير. تبدو حشائش الجبال خجولة، فوفق الأرصاد الجوية الفلسطينية لم تحظ طوباس حتى الآن ( 11 شباط) إلا بـ 194 ملم ( 45% من المعدل السنوي) العام، وهي نسبة ضئيلة لا تساعد في إتمام المحاصيل الشتوية.
يضيف الشابان: " في سنين الخير، كنا نصعد إلى الجبال ونصل إلى قممها، وخلال مسيرتنا يكون الربيع في مثل هذه الأيام بعز شبابه، ولا ننسى كيف كانت الحشائش تغطي نصفنا."
جبل جادر
وديان وجبال
يرسمان لوحة من بطن جبل جادر المشرف على سلسلة مقابلة تبدأ بجبل حمودة (أو الجيزة كما يطلق عليه الأهالي)، والبرج، وجباريس، والجبل الأقرع، وفي منتصف الوصف يستذكران وادي اللصم، ومنطقة الخلايل، ووادي الزعترـ ووادي الرمالة، ومراح الرعد.
ويقف جادر على قدميه بمواجهة غير متكافئة مع جبال عجلون التي تحجب الغيوم سهولة التقاطها بالعين المجردة أو بالعدسة طويلة المدى، ويمكن رؤية أطراف سهل عين البيضاء، وحواف من نهر الأردن. ويقدم المكان للزائر درسًا في التاريخ والجغرافيا والسياسة والبيئة أيضاً.
فالمنطقة المقابلة للجبل، شهدت معارك جباريس وإسقاط طائرة للاحتلال عام 1967، ثم اتخذتها خلايا الثوار ممرًا ومقرًا لعملها الفدائي. وتسرد التضاريس للزائر قصة السفوح الشرقية التي تقع أسيرة "ظل المطر" فيتواضع فيها الشتاء مقارنة بنظيراتها الغربية. ويبث التنوع الحيوي للمنطقة حكايات الأقاليم النباتية الأربعة لفلسطين: الصحراوي، والسوداني، والإيراني، والمتوسطي، عدا عن تضاريسها النادرة.
شتاء أجرد في منطقة طوباس
تنوع حيوي
نتوغل في الصعود إلى أعالي جادر، ونشاهد أسراب طائر الحجل، الذي أخر المطر الشحيح والنمو الخجول للنبات تزاوجه ووضعه للبيض، ونرى آثار الغزلان التي تبحث عما يطفئ جوعها بعد صيف حار، ويبدو طائر الحسون، والشحرور، والقبرة المتوجة، والكروان أو "ملاهي الرعيان" كمن يبحث عن أزهار. أما اللوف فنبت مكتفيًا بما جادت به السماء، وتكافح أزهار السوسن الشبكي للتفتح، أما شقائق النعمان ففي بداية عدها ولم تزهر بعد، فيما الزعمطوط والفيجن والبطم تنمو على استحياء، ولا أثر للسوسنة السوداء بعد. أما الدرس السياسي فتعبر عنه مخلفات الاحتلال التي تنتشر تحت أقدام الجبل وفي خاصرته، وتنتشر معها حكايات عديدة لشهداء وجرحى بفعل الألغام وبقايا ذخيرة الموت.
نجلس تحت شجرة خروب برية، وننظر يسارًا لنرى خلة الزعتر التي تجود في مواسم الشتاء الوفير بنباتها، أما هذا العام فلا زال التواضع سيد الموقف، على أمل أن يأتي النصف الثاني من شباط وجاره آذار (أو المستقرضات) بمطر ينعش التنوع الحيوي للأغوار وسواها.
افتراء حماية الطبيعة
يقول علي ومراد: في العادة ينشط ما يسمى "حماة الطبيعة" برفقة جنود الاحتلال، ويلاحقون من يقطف الزعتر واللوف والزعمطوط والعكوب الذي تجود به الأرض، وتصل المخالفات أحيانًا إلى أكثر من ألف وخمسمائة شيقل؛ بدعوى الحفاظ على الطبيعة، غير أن هؤلاء "الحماة" يعتقدون أن تجريف الأراضي لبناء المزيد من المستعمرات والمعسكرات، وتحويل المنطقة كلها لمساحات رماية وتدريب للجنود المحتلين، وحرق المحاصيل بالقذائف صيفًا، لا تمس الطبيعة بسوء، وهي "نيران صديقة"!
نشاهد أسرابًا من الحجل الرملي تحتمي من كلاب ضالة بجغرافيا الأرض، ويتذكر أبو جابر وأبو محسن، النسر الفلسطيني الذي شاهداه في أعالي الجبل، عدا عن الغزلان و"أبو الحصينات" والأرانب البرية، والبومة، والهوة، والكثير من دلائل الحياة البرية الثرية في المنطقة.
في العادة تشهد منطقة يرزا وجارتها تدريبات عسكرية، وتستخدم المدرعات وناقلات الجنود والرشاشات الثقيلة، وتوضع أهداف الرماية في قاع الجبل وفي خلة إجميع والزوايا، وهي النيران التي أفقدت العشرات من أهالي المنطقة حياتهم أو عافيتهم، وكتب الله النجاة لرفيقي رحلتنا العام الماضي، حين فرا من نيران الاحتلال، ولولا معرفتهما بجغرافيا "جادر" لكان للقدر رأي آخر.
نهبط من أعالي الجبل، ونشاهد بئر ماء قديم جرى ترميمه لجمع مياه المطر، فيما يمنع الاحتلال أي استصلاح أو مشاريع زراعية، وبالكاد يقدم بعض المزارعين على الرعي بأغنامهم وأبقارهم، ثم يعودون لمنازلهم في تياسير وبعض البيوت الطائرة المحيطة بها.
نودع جادر، وكأنه ينطق لاسترداد الحرية المسلوبة، وينتظر اكتمال حكاية الشتاء: ينهي الشابان: "الحرية والمطر مثنى متلازم للجبل ولأهله".
aabdkh@yahoo.com