خاص بآفاق البيئة والتنمية
في آخر 1000 عام، دوّن لنا المؤرخون مئات الكوارث المناخية والطبيعية التي خلّفت آثاراً كارثية، ومع ذلك لم تُخصص لها إلا القليل من الدراسات والكتب، وبالأخص عندما نتحدث عن كوارث في مجالات محددة، كالفيضانات والسيول، التي بالكاد نجد حصراً خاصًّا بها. في الجزء الثاني من تقارير "آفاق" نخصص السرد لسيول وعواصف استثنائية حفظتها الكتب بتفاصيل دقيقة وعجيبة وتحديداً تلك التي حدثت بين شتاء 1509 وعام 1920 (سنة الثلجة الكبيرة)!
الشتاء يحرم أهل القدس من الحج: سنة 1509
الوصف الذي خلّدته لنا المخطوطات عن شتاء 1509 قد يكون من أقوى الأوصاف التي تفصل الآثار الاجتماعيّة للعواصف الثلجية والمطرية التي حصلت في فلسطين، وقد وجدنا هذا النص في كتاب "تاريخ الكوارث في بيت المقدس"، ويعود النص كما جاء في هوامش الكتاب لمجير الدين الحنبلي.
فبينما كان أهل القدس يستعدون للانطلاق لرحلة الحج، بدأ الثلج بالهطول فتأجلت الرحلة أكثر من مرة إلى أن هدأ الثلج، واستبشروا بذلك، ولكن الفرح لم يتم. يقول الكاتب: "فلما دخل الليل وقع الثلج الغزير، وأصبح الناس فرأوه على هيئة مرهبة من الكثرة والشدة، واستمر ينزل سبعة أيام بلياليها متتالية.. وفات وقت السفر للحج، وصار المسجد الأقصى وشوارع المدينة وأسطحها في هيئة عجيبة مزعجة".
ويتابع: "وقد توفي كثير من أهل القدس، فدفنوا بمشقة زائدة، وبعضهم لم يصلَّ عليه بالمسجد، وبعض الأطفال تم دفنهم داخل المدينة في المكان الذي توفوا فيه". ثم "استمر أهل القدس أكثر من عشرين يوماَ في شدة شديدة من انقطاع السبل وتعطيل المعايش. وصادف وقوع الغلاء في القمح وغيره من الأقوات وعدم وجود ما يؤكل، حتى كاد الناس أن يهلكوا". وكذلك "انقطعت العبادة بالمسجد الأقصى، واستمر أياماَ لم يسمع به أذان ولا صلاة، ولا سيما في الليل. واستمر الثلج في المسجد والشوارع أكثر من شهر".[1]
صورة من كتاب تاريخ الكوارث في بيت المقدس
الثلجة الكبيرة: سنة 1606
من اللافت في العديد من العواصف والحوادث المناخيّة والطبيعية الاستثنائية أننا نجدها تتكرر كل 100 عام تقريباً، وهو ما يذكرنا بالمصطلح العلمي ( year flood100). ولعل المهم هنا المصطلحات الأدبية المستخدمة لوصف هذه الحوادث، فتارة توصف السنة بأنها "سنة الثلج"، وتارة أخرى "الثلجة الكبيرة" أو "الثلجة العظيمة".
في كتابه "تاريخ الكوارث في بيت المقدس"، ينقل لنا بشير بركات العديد من الحوادث المرتبطة بالشتاء والثلوج من سجلات المحاكم الشرعية، مثل ثلجة سنة 1505/1506 التي جاء عنها: "وقعت الثلجة الكبيرة في شهر شعبان سنة 1015، واستمرت ثلاثة أيام، واستمر الثلج على الارض إلى ختام رمضان". وكذلك نجد أن هناك "ثلجة عظيمة" حصلت في شهر ذي الحجّة سنة 1613.[2]
غرق الأسواق في القدس: سنة 1736
لعل الآثار الاقتصادية للسيول هي من أكثر ما ساهم في تدوين العديد من الكوارث المناخية، فعندما تتضرر الزروع تحصل المجاعات. وعندما تتعطل الأسواق تتعطل مصالح العباد، وقد تكون تكاليف الترميم باهظة، كما حصل عند "تعزيل قناة باب القطانين"، التي دونتها لنا السجلات كالتالي:
"يوم الخميس جمادى الثاني سنة 1149، بعد الظهر حصل رعد وبرق، وسالت السيول، وغرق الحمام العين من شدة السيل. وغرقت الدكاكين أيضاً التي بباب القطانين. وكشف على الحمام والدكاكين، فوجد الدكاكين مملوءة بالأتربة. وسيل داخل الدكاكين. وأيضا غرق حمام ستنا مريم، ودخل السيل من باب الحمام. وحصل ساعة عظيمة. نسأل الله اللطف. بيان مصرف تعزيل قناة باب القطانين الإماية، عن يد عبد الوهاب الشهابي".
من كتاب تاريخ الكوارث في بيت المقدس لبشير عبد الغني بركات - صفحة 124
أمطار تنزل كأفواه القرب.. سنة 1885
خلال رحلته إلى القدس، ذكر محمد عبد الجواد القاياتي أنه كاد يهلك من شدة الأمطار والعواصف عندما زار مقام النبي موسى، ثم القدس، فقال خلال طريقه إلى القدس:
"ولم تزل الأمطار تنزل علينا كأفواه القرب، وقد أيقنا بقرب العطب، لما شهدناه من هذه الكرب، ولكن الله سلّم وتفضل وأنعم ولا يمكنني أن أصف لك ما حصل للزوار في صعود تلك الجبال الشاهقة، وكل نفس زاهقة، وكل رجل زالقة حتى كنت في بعض الأحيان يحصل لي الإياس، وتضيق مني الأنفاس، وانقطع في السير عن الناس، وأرى أن ترك المشي والوقوف أولى من السير مع هذا العناء الذي آخره كما كنت أظن الفناء".
ويطول وصف الكاتب لتلك العاصفة المطرية التي شاهدها في طريقه إلى القدس وخصص لها بضع صفحات في مذكراته.[3]
صورة لجورة العناب عند باب الخليل في القدس وكانت تمتلئ في أوقات السيول والفيضانات نقلًا عن صفحة فراس بدر عبر الفيسبوك[4]
الأمطار تنشر الأفاعي على شواطئ حيفا: سنة 1889
لعل هذا الخبر، من أعجب ما يُمكن سماعه عن أخبار الثلوج والعواصف المطريّة، فمعلومٌ أن الأفاعي تختبئ في الشتاء والبرد، ولولا أنه ورد في رسالة ماجستير عن تاريخ قضاء حيفا لما ذكرناها. [5] والخبر كما ينقله الباحث عن صحيفة البشير بعددها الصادر في 12 كانون الثاني/ديسمبر 1889، مفاده أنه وبعد العاصفة التي نزلت فيها الثلوج وهطلت أمطار غزيرة، فإن المياه أدّت إلى جر عدد كبير من الحيّات (الأفاعي) الموجودة في الجبال البعيدة والقريبة، وألقتها في البحر فقذفها الموج على الشاطئ بين حيفا وعكا، ما استدعى تدخل الجهات المعنيّة مثل البلديّة والصحة، لتقوم بعمليات مسح للمناطق الجبلية والساحلية لإبادة القوارض والحيّات كخطوة وقائية لحماية السكان.
رسم للخليج بين حيفا وعكا بواسطة دافيد روبرتس - نُشرت سنة 1855[6]
سنة الثلج الكبيرة: 1920
سمعنا من أجدادنا عن سنة الثلجة، وغالباً ما يُقصد بها سنوات مختلفة حسب المتحدث، فالبعض يقصد بها ثلجة 1992 والتي تسمى سنة "السبع ثلجات"، والبعض يقصد بها ثلجة 1950، ولكن ثلجة 1920 كانت كما يبدو استثنائية بشكل خاص وحصل على إثرها سيول كبيرة.
فقد جاء في مجلّة بيت لحم الصادرة في أول آذار/مارس 1920، أن الثلج قد وقع حتى ضفاف البحر الميت والبقيعة وجبل الفردوس، فسلسلة جبال الخليل فالظاهرية وبئر السبع، ونقلت المجلة عن مراسلها:
"الثلج قد غمر بيوت شعر العربان وأكثرها غدت فريسة السيل، كما أنه جر الجمال برمتها وجاءنا من مراسلنا في مادبا أنّ الثلج جاوز المترين في سائر انحاء البلقاء، وخسائر البلقاء تتجاوز ألفي جمل وثلاثة آلاف رأس غنم، وأما خسائر فلسطين فلا تعوض، فقد كاد يقضي على حياة شجر الزيتون برمته، إذا الشجرة ذات خمسة أغصان لم يبق عليها إلا غصنان وبعض الأشجار قلعت من شروشها.[7]
صورة نادرة لثلجة 1920 في مدينة القدس[8]
كان هذا سرداً سريعاً لآخر 1000 عام من الفيضانات، بيد أن المئة عام الأخيرة كانت زاخرة بالسيول والفيضانات والعواصف، ولهذا خصصنا لها مقالة كاملة نشرت في "آفاق" عدد آذار/مارس 2024، وهي بمثابة تتمة لتلك المقالة. وكل ما سبق يؤكد أن خطر الفيضانات والسيول يستحق من مخططي المدن عناية أكبر، فمدننا وبلداتنا اليوم نادراً ما يتم تصميمها وفق اعتبارات تراعي الصمود عند المخاطر والسيول. وبلا شك هناك مدنٌ وبلدات يُعتبر الوضع فيها أخطر من غيرها، فنجد مدنا مثل غزّة والرملة وطبريا وصفد والقدس قد تكرر ذكرها كثيراً في التاريخ القديم والحديث وهذه دلالة كافية. هذه المدن كانت وما تزال معرّضة لنفس المخاطر، بل إن الخسائر الآن أفدح وأعظم، بسبب التوسع العمراني الكبير، وكما يقال: درهم وقاية خير من قنطار علاج!
[1] بشير عبد الغني بركات: تاريخ الكوارث في بيت المقدس (صفحة 122)
[2] بشير عبدالغني بركات: تاريخ الكوارث في بيت المقدس (صفحة 122)
[3] محمد عبد الجواد القاياتي: نفحة البشام في رحلة الشام - صفحة 89
[5] علاء كامل عبد الجابر سعادة، والطراونة، محمد سالم غثيان. (2012). قضاء حيفا " 1281 - 1333 هـ. = 1864 - 1914 م (رسالة دكتوراه غير منشورة). جامعة مؤتة، الكرك.
[7] خليف وليد وسهيل ذياب: كتاب مقتطفات من الصحف الفلسطينية: 1876-1948 - طُبع سنة 1995