خاص بآفاق البيئة والتنمية
يستعرض التقرير التالي 5 عواصف مطريّة وسيول سببت أضراراً جسيمة وضحايا خلال آخر 100 عام، وهي من أقوى العواصف والفيضانات، ويُمكن أن تعطينا تصوراً أوليّاً عن السيناريوهات المتوقعة والمناطق الأكثر عُرضة لمخاطر الفيضانات على مستوى فلسطين التاريخية.
|
لفلسطين تاريخ طويل مع الفيضانات والسيول وغيرها من الكوارث الطبيعية، واليوم مع تزايد وتيرة وقوع الكوارث والحديث عنها في سياق التغييرات المناخية، فإن توثيق الكوارث وتفاصيلها بات أمراً في غاية الأهمية لكل من يعمل في مجال التخطيط البيئي والعمراني، إذ يتوجب على المخططين الأخذ بالاعتبار الكوارث المحتملة عند التخطيط، للتخفيف من الأضرار الممكنة والتكيّف معها.
في هذا التقرير، نستعرض 5 عواصف مطرية وسيول سببت أضرارًا جسيمة وضحايا خلال آخر 100 عام، وهي من أقوى العواصف والفيضانات، ويمكن أن تعطينا تصوراً اولياً عن السيناريوهات المتوقعة، والمناطق الأكثر عُرضة لمخاطر الفيضانات على مستوى فلسطين التاريخية.
سنة 1935: "نكبة بلدان فلسطين"
حتى قبل نكبة 1948، نجد صحيفة فلسطين الصادرة في 5 شباط/فبراير 1935 تتحدث عن "نكبة بلدان فلسطين بالأمطار الغزيرة والعواصف الهوجاء". وتذكر أن "نابلس تغرقها السيول". وينقل مراسل الصحيفة: "خُيِّل للناس أن المدينة ستغرق وكنت تسمع عويل النساء وصياح الأطفال من كل مكان فازعين باكين وقد انفجرت أنابيب المياه التي انشأتها البلدية حديثاً، فازداد البلاء، والمياه الآن تجري في الشوارع الكبيرة والصغيرة كأنها الأنهار وكان هديرها يصم الآذان". وقُدرت الخسائر في نابلس بنحو 150 ألف جنيه. وللمقارنة فقد ذكرت صحيفة "صوت الشعب" في عددها الصادر بتاريخ 9 شباط/فبراير 1935 أن الخسائر في مدينة بيت لحم قُدّرت بنحو 1400 جنيه.

صحيفة فلسطين - تاريخ 5.2.1935[1]
كان نصيب يافا من الخسائر كبيراً أيضاً، وذكرت صحيفة فلسطين حينها أن خسائر البحارة كانت فادحة ولا تقل عن 10 آلاف جنيه. كما ذكرت الصحيفة بأن برتقال يافا أصيب بأضرار عظيمة في تلك العاصفة بسبب تساقط الأثمار وتكسر أغصان الأشجار، وهي أضرار لم يكن بالمقدور تقديرها. ومما ذكرته الصحيفة أن الأسلاك الكهربائية تقطّعت في بعض الأحياء، وكانت الرياح مصحوبة برعد قاصف يصم الآذان.
لا شك بأن الخسائر المادية كانت كبيرة، ولكن الأرقام المنشورة عن الخسائر في الأرواح كبيرة هي الأخرى، مقارنة بكل العواصف والسيول التي ضربت فلسطين في آخر 100 عام. وتذكر صحيفة فلسطين يوم 6 شباط/فبراير أن عدد من غرقوا في نابلس والقرى 24 شخصاً، هذا غير الأشخاص الذين كانوا تحت الردم، وقد أكدت ذلك مصادر أخرى بأن عدد ضحايا العاصفة بلغ 30 شخصاً.
من الجدير بالذكر، أن معظم الصحف تحدثت حينها بأن سيول 1935 كانت الأشد منذ 10 أو 15 عاماً وقتها، وهو ما يشير إلى العاصفة الثلجيّة التي ضربت فلسطين سنة 1920، ويسميها بعض الأجداد "سنة الثلجة الكبيرة".

صحيفة صوت الشعب - 9.2.1935 [2]
سنة الحملة 1955: عاصفة كفر قاسم
مع أن سنة 1950 تُعتبر من أكثر السنوات التي سقطت فيها الثلوج مُنذ بدء تسجيل معطيات الطقس، إلا أن العاصفة المطرية التي حصلت في منطقتي بديا وكفر قاسم ليلة 8 تشرين الثاني/نوفمبر 1955، كانت سابقة تاريخية فريدة على مستوى فلسطين وبلاد الشام، إذ هطلت حوالي 255 إلى 260 ملم في يوم واحد في رقم قياسي لم يتكرر حتى يومنا هذا. وكي نتخيّل كمية المياه التي هطلت، يكفينا أن نذكر بأن ما يهطل في معظم المناطق الفلسطينية (باستثناء النقب والأغوار) هو بين 500 و700 ملم خلال عام. وبالتالي، فإن ما هطل في تلك الليلة كان نصف إلى ثلث ما يهطل طيلة العام في مناطق أخرى.
في بديا، بلغت كميّة الأمطار حينها 260 ملم، وفي كفر قاسم سُجلت حوالي 255 ملم، أما في دير استيا فكانت 240 ملم، وتم تسجيل كميّات قريبة من هذه في العديد من المحطات الموجودة في المناطق القريبة من نهر العوجاء (قضاء يافا).

من تقرير تقني إسرائيلي عن "عاصفة كفرقاسم" في حوض نهر العوجاء (اليركون)[3]
المثير في هذه العاصفة المطرية، أنها امتدت على مناطق واسعة جداً، إذ يتوقع خُبراء الطقس والمناخ بشكل عام أن تنحصر مثل هذه العواصف المطرية في مساحة جغرافية صغيرة، بيد أنها في تلك الليلة امتدت ما بين يافا ودير استيا التي تبعد حوالي 35 كيلومترا عن شاطئ البحر.
تعتبر هذه العاصفة من الحوادث التي تم بحثها من قبل العديد من الخبراء، حيث لم تهطل قبل هذه العاصفة كميّة 220 ملم خلال 9 ساعات أو 170 ملم خلال 5 ساعات.
خلال إعداد التقرير، حاولنا البحث في الذاكرة الشعبية المرتبطة بهذه الحادثة، فوجدنا أن بعض الكبار يذكرون "سنة الحملة"، ويظنون أنها كانت في عام [4]1953 في منطقة بديا، علماً أن الأوصاف تنطبق على "عاصفة كفر قاسم".
يقول مراد سرطاوي (من قرية سرطة) على مجموعة "حكي القرايا" في موقع فيسبوك: "اعتقد أنه أطلق على هذه السنة سنة الحملة، إذ حصلت فيضانات غير مسبوقة في الأودية ومصبات المياه، وكثيرا ما حدثنا عنها والداي رحمهما الله (..) عندنا واد اسمه وادي محمد، زيتونه كنعاني معمر، وجرفت المياه الغالبية العظمى منه، وحدثنا أبي أن الحملة أتت ليلاً، وحينما خفت الأمطار والسيول ذهبوا الى الوادي ليشاهدوه، فكانت المياه قد وصلت منسوباً غير مسبوق، ربما تجاوز ارتفاعها 10 أمتار أو يزيد".
ويؤكد ذلك شقيقه عبد الباسط سرطاوي قائلا: "قالوا الختيارية -الله يرحمهم- إنها صارت في الليل، والوديان جرت من القم للقم (من عرق الجبل لعرق الجبل الثاني) بحيث أن شباب هذاك الوقت ما حدا تجرأ ينزل في المية من كثرها ورعب صوتها، وقالوا إنها أخذت ناس سنتها وراحوا فيها، وشاهدوا حجارة ضخمة على مجامع عروق الشجر، وكثير من الشجر على حفاف الوديان انقلعت وسحبتها المية، هذا ما أعرفه وعن كثير من الختيارية وكان الجميع نفس الكلام".
سنة 1992: سنة السبع ثلجات
إذا كانت عاصفة 1955 مُذهلة من حيث الأمطار التي هطلت في ليلة واحدة، فإن شتاء سنة 1992 كان من أبرز المواسم المطريّة التي يتكرر الحديث عنها، حتى قيل فيها بأنها "سنة السبع ثلجات"، كما أن الفيضانات التي حصلت في العديد من المناطق بلغت مستويات قياسيّة وكانت الأضرار كبيرة.
بدأت العواصف المطريّة في شتاء 1991، إذ هطلت 300-400 ملم في مناطق السهل الساحلي في الفترة بين 27 تشرين الثاني/نوفمبر 1991 و3 كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، ثم عاصفة أخرى استمرت يومين في الشهر ذاته، هطل فيها 300 ملم في جهة يافا، ولكن الفيضانات والأجواء العاصفة والثلوج كانت في مناطق مختلفة من البلاد كما جاء في صحيفة الصنارة بتاريخ 18 كانون الأوّل/ديسمبر 1992. ومع بدء عام 1992 وفي نهاية كانون الثاني/يناير 12 شباط/فبراير، بلغت كميّة الهطولات 300 ملم في الجبال، وصاحب ذلك فيضانات كبيرة، ثم ضربت عاصفة أخرى في نهاية شباط/فبراير هطل فيها 200 ملم.

من فيديو "قلنسوة تحت الماء - فيضان 1991"[5]
في تلك السنة غرقت قرية قلنسوة وتحوّلت إلى جزيرة، إذ غرق أكثر من 1000 منزل فيها بسبب فيضان مياه نهر اسكندر الذي يمر من القرية. وكانت تلك الحادثة من الأسباب البارزة التي جعلت العديد من الجهات تضطر إلى إيجاد حل من خلال توسعة الوادي ليستوعب كميّات كبيرة من المياه. كذلك نجد أن الثلوج التي هطلت في منطقة وادي عارة بلغت 40 سم، وقد أدت إلى قطع المواصلات في شارع (65)، وهو من الشوارع الرئيسية، كما أغلقت مدينة أم الفحم.

صحيفة الاتحاد - 10 شباط 1992
كانت الأضرار كبيرة جداً على الفلاحين في الداخل الفلسطيني، وتذكر صحيفة الاتحاد أن وزارة الزراعة قررت اعتبار المزارعين "ضحايا كارثة طبيعية". وذكرت صحيفة الصنارة الصادرة بتاريخ 14 شباط/فبراير 1992: "الثلوج التي هطلت في مطلع هذا الأسبوع، سببت لنا خسائر فادحة لم نستوعبها، وهذا ما قاله فياض دراوشة صاحب مزرعة أغنام كبيرة في قرية اكسال".
وأضاف: "الخسائر تقدر بما لا يقل عن 500 ألف شيكل، إذ انهارت المزرعة بكاملها، وتسببت في قتل 15 رأس غنم". كما أشارت صحيفة الإتحاد بتاريخ 12 شباط/فبراير من نفس السنة إلى انفجار عدادات المياه والسخانات الشمسية بسبب "الانجماد".
من اللافت أن الكبار في السن، ممن عاصروا "ثلجة 1950"، يؤكدون بأن الخسائر التي حصلت في ذلك 1950 كانت أكبر وأفدح من خسائر 1992.

الإتحاد - 9 آذار 1992[6]
شتوة نيسان 2006: تسونامي وادي عارة
مع أن الفلسطيني يستبشر غالباً بشتوة نيسان وله فيه أمثال شعبيّة تمدحها مثل "شتوة نيسان بتحيي الأرض والإنسان"، و"شتوة نيسان بتسوى السكة والفدان" إلا أن شتوة نيسان 2006 تسببت بوفاة 5 فلسطينيين،[7] بينهم عروسة شابّة لم يمض على زواجها الكثير، وكانت حاملاً بمولودها الأول.

صورة غلاف صحيفة صوت الحق والحرية بتاريخ 7.4.2006
اختلفت كميّات الأمطار باختلاف المناطق في تلك العاصفة، إلا أن منطقة وادي عارة نالت حظاً وافراً منها، إذ هطلت حوالي 120 ملم خلال 3 ساعات فقط، وهو رقم قياسي كما ذكر الخبراء حينها بأن ما حصل لا يُمكن تفسيره، بالأخص بسبب وقوع العاصفة في شهر نيسان. وأما كبار السن، ففي مقابلة مع الحاج أحمد ياسين (80 عاماً) قال: "ربما في الستينيات وقع شيء مشابه، (الحملات قضت على الأشجار) ولكن لم يقع دمار وخراب كما وقع يوم الأحد".
في قريّة مصمص ومشيرفة (في وادي عارة) كانت الأضرار الماديّة كبيرة جداً. ووفقًا لتقارير صحيفة صوت الحق والحرية بتاريخ 7 نيسان/أبريل 2006، فقد "كانت قرية مشيرفة الأكثر دماراً في الممتلكات حيث تعرض أكثر من 40 منزلاً في القرية للدمار التام، ولم يبق من هذه المنازل سوى جدرانها، كما أن عدداً من المنازل هوت فيها جدران كادت تودي بحياة عائلات لولا لطف الله". وأما في قرية مصمص فقد "قدّرت الخسائر بنحو مليوني شيكل حيث انهار 15 جداراً بالكامل، كما أن حوالي 50 منزلاً تضررت وغرقت بالكامل، هذا بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بشوارع القرية والبنى التحتية فيها خاصة في الشارع الذي يربط بين قريتي مصمص ومشيرفة".
في مدينة ام الفحم، قدّرت البلديّة الأضرار بنحو 10 مليون شيكل، هذا غير حادثة انجراف الفتاة سحر محاميد، وهي عروس في الأشهر الأولى من زواجها حين خرجت مع زوجها من حي البيار (السلطانة)، فانطفأ محرك السيارة من شدة تدفق المياه، التي دخلت السيارة، فحاولت وزوجها الصعود للسقف، ثم لم تمض لحظات إلا وجرفتهما المياه فعلق زوجها بشبك أما هي فقد انجرفت مع التيار وعُثر على جثتها على بعد حوالي 6 كيلومترات بالقرب من قرية خور صقر.
لعل أخطر ما في "تسونامي وادي عارة"، أن الطقس في ذلك اليوم لم يكن يوحي بسقوط رذاذ من المطر وإن كان غائمًاً، وبالتالي فإن حدوثه كان كارثياً للأهالي في وادي عارة.

صحيفة الصنارة بتاريخ 14/4/2006
عاصفة أليكسا 2013
خلال تقريرنا "غزّة المحاصرة بين 2008 و2024.. تاريخ من القصف والسيول!"، ذكرنا أن فيضان 2013 كان "أسوء" فيضان يضرب فلسطين وقطاع غزة بشكل خاص مُنذ عام 1953، وقد بلغت الخسائر في محصول الفراولة فقط نحو 5.5 ملايين دولار خلال أربعة أيام من العاصفة "أليكسا".
ختاماً، خلال إعداد التقرير لم نجد تقارير فلسطينية متخصصة في تاريخ الفيضانات والسيول في العصر الحديث، بينما هناك أبحاث كاملة أجريت عن الكوارث الطبيعية لفترات تاريخية متقدمة مثل كتاب "تاريخ الكوارث في بيت المقدس" للأستاذ المقدسي بشير بركات، وبحث "الكوارث الطبيعية في بلاد الشام ومصر" للباحث محمد صلاح، وهو ما يُمكن تسليط الضوء عليه لاحقاً في تقارير قادمة، فما حصل قبل 100 عام أو 1000 عام من كوارث، يُمكن أن يتكرر خلال السنوات القادمة وبوتيرة أعلى مع تزايد حدّة وتبعات التغييرات المناخية.
[3] כרך א' הידרולוגיה מתוך תכנית האב לניקוז רשות ניקוז ונחלים ירקון – פלגי מים – 2017
[4] يحتاج الأمر فحصًا أكثر دقة للتأكد من سبب ارتباط هذه الكارثة بعام 1953.