خاص بآفاق البيئة والتنمية
الجامعة الإسلامية في غزة
تعد التنمية مبدأً تنظيمياً لتحقيق أهداف المجتمعات والحفاظ على مواردها بمختلف أشكالها، كما أنها تمثل قضية إنسانية وأخلاقية قبل أن تكون قضية اجتماعية واقتصادية أو بيئية، وأضحت مصيرية ومستقبلية تتحكم في أوضاع الأجيال القادمة، وهذا هو شرط الاستدامة، فبرامج التنمية التي جوهرها استنزاف الموارد دون التفكير في مصير الأجيال الآتية؛ هي برامج رأسمالية لا تنتمي إلى برامج التنمية المستدامة، ومن هنا نجد عديدًا من تلك المجتمعات تسعى للتغيير الإيجابي والتقدم والتطوير؛ لإيجاد جوهر التنمية في جميع مجالاتها للوصول إلى أفكار جديدة، ولم تكن التنمية المستدامة تهتم بمجال واحد من مجالات الحياة، أو تقتصر على مرحلة معينة؛ بل كانت شاملة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والصحية والتقنية على وجه من التكامل والتوازن في جميع مراحل عمر المجتمع ومساراته التاريخية، بدءاً بالإنسان الذي هو محور التنمية وأساسها المتين، ثم العمران الذي يشمل البنية التحتية والمرافق واستثمار الموارد الطبيعية، والمحافظة على البيئة، إضافة إلى توفير بيئة آمنة ومستقرة ومحفزّة للإنسان، وتحسين مستوى الدخل الفردي والقومي لتحقيق الرفاه والرقي الاجتماعي، وكل ما فيه مصلحة ومنفعة لخدمة الإنسان ودفع الضرر عنه، وهنا يمكننا القول إن التنمية المستدامة المنشودة حالة ضرورية تستوعب التقدم العلمي والتكنولوجي وترتقي بالإنسان، وتحافظ على قيمه، وتمكنّه من العيش بسلام وتجنّبه البؤس والشقاء.
سبق دين الإسلام والشرائع الأخرى التي نزلت قبله؛ كل الأفكار البشرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، وذلك بالحفاظ على البيئة وتنمية الموارد، والتشجيع على إقامة مجتمعات مترابطة ومتماسكة تنعم بالأمن والاستقرار، وذلك بتحقيق العدل والمساواة بين جميع الأجيال، وأيضًا تحقيق التوازن بين البيئة والإنسان دون إفراط أو تفريط، والحفاظ على التوازن البيئي، وحماية الموارد المتاحة، كما حثّنا الإسلام على الرفق والرحمة بما حولنا من مخلوقات، وكذلك تحرى الصدق في جميع تعاملاتنا ليتحقق لنا وعد الله ونعيمه في الدنيا والآخرة.
وفي ضوء ما أفضت إليه مناقشات وتوصيات المؤتمرات واللقاءات الدولية والإقليمية بين عديد من الدول والمؤسسات، وعلى مدار عقود مضت، فقد اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة جديدة في مؤتمر قمة التنمية المستدامة عُرفت باسم "خطة التنمية المستدامة" لعام 2030، وهي خطة عمل شاملة استرشدت في الأساس بميثاق الأمم المتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وإعلان الألفية ونتائج مؤتمر القمة لعام 2005، على أن تنفذّها جميع البلدان، وهي تعمل في شراكة تعاونية، وتتضمن هذه الخطة 17 هدفاً عُرفت باسم "الأهداف العالمية للتنمية
المستدامة".
(SDGs) Sustainable Development Goals وبدأ تنفيذها مطلع عام 2016 وعلى مدى 15 سنة القادمة، لتحقق التوازن للتنمية المستدامة.
كما سلّطت الدراسة التي أجراها البنك الدولي عام 2002 الضوء على العلاقة بين التنمية والمعرفة، مبينّة أن نجاح عمليات التنمية مرتبط بقدرة الدول على بناء مجتمع المعرفة، والذي يمثل التعليم عمومًا الركيزة الأساسية لبناء هذا المجتمع.
كما أشار تقرير "التنمية الإنسانية العربية" في عام 2002 إلى انخفاض مستوى الدول العربية على مؤشر التنمية المستدامة.
وذكر التقرير أن أحد أهم الأسباب في هذا الانخفاض يعود إلى العجز المعرفي، وهذا العجز ناتج أصلًا عن تخلف وتقليدية نظم التعليم والبحث العلمي، وقلة قدرتها على التجديد والتحديث الذي يستوعب التطورات الحديثة في مجال المعرفة.
وسبق أن وصف تقرير البنك الدولي - وإن كان قديماً - مستوى التنمية الحقيقي والواقعي في الدول العربية بــ "المنخفض"، ما يعني أن حال التنمية المستدامة اليوم كما هو، ومؤشرات التنمية تؤكد أن مستوى التغيير والتطوير ما زال يسير ببطء شديد، رغم الإمكانات التي تمتلكها الدول.
وتعد الجامعات أيضًا من أهم المؤسسات التي يمكن أن تساهم في تقليل الفجوة العلمية والتقنية، وذلك يتأتّى بالتنافس فيما بينها، الأمر الذي يجعلها تخطو لتطوير مخرجاتها التعليمية والبحثية.
ولقد أضحى البحث العلمي يؤدي دوراً كبيراً في تحقيق التنمية عن طريق الربط بين البحوث التطبيقية في الجامعات وإحداث التنمية الشاملة، فضلًا عن مساعدة الجامعات للمؤسسات الإنتاجية والاجتماعية، ومساهمتها في عمليات البناء والتطوير وحل مشكلات المجتمع.
ومع الأزمات المتعددة التي يعاني منها قطاع التعليم العالي في الضفة الغربية وغزة، وعلى رأسها الأزمة المالية، وكذلك ارتفاع نسب البطالة، علاوة على وجود أزمة هوية مرتبطة بعملية إنتاج المعرفة مع الظرف الاستعماري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم مؤسسات التعليم العالي نشأت في عهد الاحتلال الإسرائيلي وبمبادرات محلية ووطنية، ونمت وتطورت بسرعة حتى وصل عدد مؤسسات التعليم العالي المرخصة في الضفة والقطاع إلى 53 جامعة وكلية جامعية ومتوسطة تقريباً.
وفي دراسة حديثة أجريتها أخيرًا، مطلع عام 2023م، أظهرت نتائج الدراسة أن هناك حاجة لتطوير جهوزية الجامعات الفلسطينية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة من وجهة نظر القيادات الجامعية في محافظات قطاع غزة، حيث كانت النتائج متوسطة في جميع مجالات الدراسة، والتي تضمنت المجال الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، وذلك نظراً للظروف والأزمات المستمرة التي تعاني منها محافظات غزة، والتي تؤثر بدورها على أداء عمل الجامعات الفلسطينية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، ما يستدعي منا وقفة حقيقية نتطلع بواسطتها إلى ضرورة ربط عمليات التخطيط الإستراتيجي لمؤسسات التعليم العالي الفلسطينية بأهداف التنمية المستدامة، ونشر ثقافة التنمية المستدامة في مجتمعنا.
في حين قدّمت الدراسة أيضاً إستراتيجية مقترحة لتطوير جهوزية الجامعات الفلسطينية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة تقوم على أسس علمية ومنهجية، وبرزت إلى حد كبير في الحاجة الماسة لتطوير تلك الجهوزية للجامعات، وقد عكست جميع أهداف التنمية المستدامة بتحديد أوجه القصور ونقاط الضعف في المجالات كافة، سابقة الذكر.
ولبناء تلك الإستراتيجية استخدمت المنهج البنائي، فضلًا عن إجراءات منهجية عديدة، وذلك بالرجوع إلى المصادر الأساسية وتحليل بعض المصادر التي تمثلّت في الخطط الإستراتيجية لبعض الجامعات الفلسطينية، وكذلك إستراتيجية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في فلسطين لعام (2020-2023)، إلى جانب نتائج الدراسة الميدانية، ونتائج تحكيم مجموعة من الخبراء والمحكّمين ذوي الاختصاص.
تلك الإستراتيجية تقوم على فلسفة تستند إلى استثمار الموارد في البيئة الجامعية، ودعم مكانة الجامعة بالبرامج الأكاديمية النوعية، وتحسين الخدمات المقدمة للطلبة والعاملين والمجتمع المحلي على حد سواء، مع توظيف التكنولوجيا وتطويرها، وتحقيق الاستدامة، والسعي لتعزيز علاقات الشراكة والتعاون الأكاديمي والبحثي مع المؤسسات المحلية والعالمية.
لقد انطلقتُ في بناء تلك الإستراتيجية نتيجة عدة مبررات، كان أبرزها حاجة الجامعات الفلسطينية إلى ضرورة تحقيق المواءمة بين مخرجات الجامعة من الخريجين وسوق العمل ولا سيما مع الحصار المفروض على قطاع غزة منذ سنوات، مما يتطلب استثمار الموارد المتاحة والحفاظ عليها لاستدامتها؛ وذلك بنشر موسّع ومعمّق لثقافة التنمية المستدامة في المجتمع الفلسطيني، وتلك المسئولية المجتمعية تقع في جزء كبير منها على كاهل الجامعات الفلسطينية.
ويمكننا القول هنا إننا بحاجة إلى أن نسير في اتجاهين، يبدأ أولهما في تحقيق الإصلاح والتكيف والتوافق معه، والثاني الانطلاق نحو إحداث نقلة نوعية في تطوير جهوزية الجامعات الفلسطينية.
وبالتحليل البيئي لجهوزية الجامعات الفلسطينية برزت أهم نقاط القوة في امتلاك الجامعات خططًا إستراتيجية تتضمن بعض أهداف التنمية، مع وجود قيادات جامعية أكاديمية وإدارية مؤهلة وأنظمة تدعم التغيير والتوجه نحو الاستدامة، وتوفير تقنيات تكنولوجية حديثة، ومرافق خدماتية متعددة في الجامعات تساهم في تحقيق التطور والنمو المستدام.
في حين ظهرت بعض نقاط الضعف وجوانب القصور في ضعف عمليات التمويل للمشاريع والمبادرات التي تخدم الطلبة والخريجين، وقلة البرامج الأكاديمية التي تدعم النظم البيئية والمائية، وضعف مشاركة الجامعات في التخطيط التعاوني لمعالجة المشكلات البيئية والصحية والأزمات المختلفة التي تواجه محافظات غزة.
وقد تضمنت الإستراتيجية الوصول إلى بيئة جامعية رائدة تحقق الاستدامة، وتسهم في بناء المجتمع الفلسطيني وتستثمر طاقاته، إلى جانب رسالتها التي تسعى إلى الارتقاء بمستوى أداء الجامعات الفلسطينية وذلك بتطوير بيئتها وخدماتها الجامعية، وتوظيف البحث العلمي المنتج، مع تعظيم إسهاماتها المجتمعية في ضوء شراكة نوعية فاعلة، في حين شملت بعض القيم وتمثلت في الشراكة والتعاون والتنافسية والمسئولية المجتمعية والإبداع والتميز.
ولبناء الإستراتيجية بصورتها المتكاملة صِيغت أربع غايات إستراتيجية تضمنت في طياتها اثنى عشر هدفاً، مع إبراز إجراءات تحقيق تلك الغايات والأهداف والأنشطة ضمن آليات محددة.
ويمكن القول إن هناك بعض المتطلبات العامة أو الضمانات التي يمكن أن تسهم في نجاح تنفيذ الإستراتيجية في حال توفرها، وكذلك تعد مكملة لعملية الرقابة، والتي تتمثل في ضرورة تخصيص بعض الموارد المالية المناسبة، وتوفير البنية التحتية اللازمة، إضافة إلى نشر الثقافة بين العاملين للمساهمة في عمليات التنفيذ وكسب تعاونهم، وتفعيل الشراكة بين الجامعات ومؤسسات المجتمع المحلي المختلفة على المستوى الوطني والدولي.
وقد أوصت الدراسة بضرورة تبني وزارة التربية والتعليم العالي والجامعات الفلسطينية والمؤسسات ذات العلاقة الإستراتيجية المقترحة والسعي لتطبيقها، لما لها من دور فعال في تطوير التعليم العالي والعملية التعليمية، وكذلك المنافسة مع الجامعات المحلية والعالمية، وضرورة تطوير سياسات الجامعات وأنظمتها لتتلاءم مع أهداف التنمية المستدامة، بربط عملية التخطيط الإستراتيجي لمؤسسات التعليم العالي بأهداف التنمية المستدامة، وكذلك دعم المشاريع الصغيرة ومبادرات الأعمال للطلبة والخريجين وإيجاد فرص عمل لهم بواسطة مراكز حاضنات الأعمال والتكنولوجيا ومراكز الأبحاث والمشاريع، مع ضرورة وضع برامج إرشادية وتثقيفية وتوعوية للمجتمع الفلسطيني بأطيافه ومؤسساته كافة، لتساعدهم على تطوير أعمالهم في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والبيئية والمجالات الأخرى، وتوجيه البحث العلمي في الجامعات إلى دراسة المشكلات المجتمعية والبيئية المحلية والعالمية ومعالجتها بالاستناد إلى نتائج البحوث والدراسات العلمية النوعية.
وختاماً فإن الدور التنموي للجامعات يتحقق بمراجعة العمليات والوظائف الأساسية للجامعة ذات العلاقة بالمجتمع، والتي تتضمن إنتاج معرفة متقدمة يمكن بها فهم العالم والتوجه نحو العالمية، وكذلك تعزيز التدريس المستدام والنشاط البحثي الذي أصبح من أهم اتجاهات العالم اليوم، ومن ثم التوجه نحو الانفتاح المعرفي والمشاركة الجيدة مع الجامعات المختلفة، والتطلع نحو إنتاج المعرفة ونشرها وتطبيقها بما يحقق التنمية المستدامة للمجتمع.