l تطبيق "الاقتصاد الأخضر" في الضفة والقطاع سيزيد إجمالي الناتج المحلي بمئات ملايين الشواقل وسيوفر مئات الملايين التي تستثمر حاليا لمواجهة العواقب الصحية والبيئية
 
 
مجلة الكترونية شهرية تصدر عن مركز العمل التنموي / معا
أيــــــــــــــار 2012 العدد-44
 
Untitled Document  

مؤتمر "ريو 20+": طاقة اقتصادية عظيمة تكمن في السلوك البيئي الأخضر
تطبيق "الاقتصاد الأخضر" في الضفة والقطاع سيزيد إجمالي الناتج المحلي بمئات ملايين الشواقل وسيوفر مئات الملايين التي تستثمر حاليا لمواجهة العواقب الصحية والبيئية
المؤشرات الاقتصادية التقليدية فشلت في توصيف جودة حياة الشرائح الشعبية ورفاهيتها توصيفا صادقا
التوجه الاقتصادي الأخضر والمقاوم يتطلب محاربة النزعة الاستهلاكية المهيمنة

جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية

غالبا ما زَعَمْتُ، كما زعم بعض الناشطين البيئيين والمفكرين المناهضين للعولمة والنيوليبرالية، بأن هناك تعارضا واضحا بين الاقتصاد الرأسمالي السلعي والبيئة؛ ذلك أن مفهوم "النمو" الاقتصادي يعد من أقدس مقدسات الاقتصاد الرأسمالي.  فأصحاب الأعمال والشركات والصناعات الرأسمالية، ومنظروهم ومناصروهم من سياسيين وأخصائيين اقتصاديين لم يهتموا خلال العقود الطويلة الماضية إطلاقا، ولا يهتم معظمهم حاليا، في كيفية إنجاز معدل "النمو" الذي يتحدثون عنه.  ففي سياق العمليات والنشاطات الاقتصادية والصناعية والتجارية والخدماتية التي أفرزت هذا "النمو"، ما مقدار الأذى الذي تسبب للهواء والأرض وسائر الموارد الطبيعية التي وفرتها لنا الكرة الأرضية؟  كما ما هو مقدار الاستغلال والاستعباد الذي لحق بالعمال والكادحين في سياق عملية مراكمة "النمو" المزعوم؟  فليس المهم أن نسأل أنفسنا "كم" هو مقدار "النمو"، بل السؤال الأهم: "كيف" تحقق هذا "النمو"؟  ومن هنا جاء مفهوم "النمو الأخضر" أو الاقتصاد الأخضر" الذي يهدف إلى صياغة تحالف جديد بين الاقتصاد والبيئة.
وبمناسبة انعقاد مؤتمر "ريو 20+" العالمي (في حزيران 2012) الذي سيتوج مرور عقدين على انعقاد المؤتمر الأول في البرازيل؛ حيث شكل آنذاك حجر الأساس في عملية تحريك "الجهود العالمية" لإنقاذ الكرة الأرضية- بمناسبة هذا المؤتمر، سنعالج مسألة الاقتصاد الأخضر من منظور بيئي وطني ينسجم مع مفهوم الاقتصاد المقاوم لشعب تحت الاحتلال، علما بأن مؤتمر "ريو 20+" سيتناول أساسا ما يعرف بالتنمية المستدامة والاقتصاد الأخضر.         
من البديهي أن الهدف الأساسي للمصانع والشركات التجارية هو الربح؛ إلا أن من غير المعقول أن تكون أرباحهم خسارة لصحتنا وبيئتنا جميعا.
لقد احتد الجدل العالمي، في السنوات الأخيرة حول ما يعرف بالنمو الأخضر أو الاقتصاد الأخضر.  ذلك أن "النمو"  في الاقتصاد التقليدي المهيمن عالميا، كان يعني أوتوماتيكيا إيذاء البيئة والموارد الطبيعية؛ إذ أن كل مصنع جديد يتطلب بنية تحتية وطاقة ومياه و"قار" لتعبيد الطرق.  بينما يفتش الاقتصاد الجديد، "الأخضر"، على طرق لفك الارتباط التاريخي بين "النمو" وتخريب البيئة.
النمو الاقتصادي أمر هام، ولكنه ليس الأساس؛ إذ ما يجب أن يثير اهتمامنا هو جودة حياة الناس.  فالنمو الاقتصادي الذي يتسبب في تآكل وتدمير الموارد الطبيعية لا يساهم في تحسين جودة الحياة.  من هنا أهمية العمل على تبني وتطبيق مفهوم "النمو الأخضر" الذي يأخذ في الاعتبار صحة الناس والبيئة في آن معا.  وعندئذ، سيكون الاقتصاد والبيئة كلاهما رابحين.  ويمكننا القول بأنه في المدى البعيد لا مستقبل لاقتصاد غير صديق للبيئة. 
والسؤال، كيف يمكننا تجسيد مثل هذا الاقتصاد؟  بداية لا بد من التأكيد أن "النمو الأخضر" لا يعتبر مشروعا لتغيير البيئة، بل أساسا لتغيير الاقتصاد؛ وبخاصة ما يتعلق بمسألة المؤشرات الاقتصادية، علما بأن المؤشرات التقليدية فشلت في إعطائنا توصيفا صادقا لجودة حياة الشرائح الشعبية (غالبية السكان) ورفاهيتها ومدى تلبية احتياجاتها.
الاقتصاد الأخضر والكفؤ يعني بالدرجة الأولى استخدام الموارد الطبيعية بحكمة أكبر وتقليص تلوث الهواء.  وهنا يقع على عاتق الحكومات أن تلعب دورا مركزيا، من خلال إجراء التغييرات اللازمة في تشريعاتها وسياساتها، فضلا عن استثمار أموال عامة كبيرة في برامج تهدف بشكل أساسي إلى تحسين جودة حياة المواطنين وتحقيق رفاهيتهم.  وهذا يعني التوجه نحو الزراعة الخضراء التي لا تبدد الموارد الطبيعية وتشجع العودة إلى العمل في نطاق الحيازات الزراعية الصغيرة.  بالإضافة إلى قطاع الإنشاءات؛ وبخاصة لتحسين كفاءة استهلاك الطاقة. 
كما لا بد من الاستثمار سنويا في قطاع الأحراج والغابات الذي يعد مكونا أساسيا في النضال ضد التغيرات المناخية.  يضاف إلى ذلك، تحسين الأنظمة المائية ومعالجة المياه العادمة؛ مع التركيز بشكل خاص على التدوير ومحطات التنقية.
ويقدر بعض خبراء الاقتصاد الأخضر، بأن اتباع "اقتصاد أخضر" قد يولد نموا سنويا إضافيا يتراوح بين خمسة وعشرة بالمائة.  أي أنه سيكون أفضل بكثير من الوضع الاقتصادي الحالي.
وبخصوص الزراعة الفلسطينية تحت الاحتلال تحديدا، فغالبا ما نسمع أن التسويق الزراعي هو المشكلة الأكبر.  الحقيقة أن هذا ليس صحيحا، لأن الفائض الناتج هو في بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص فادح في معظم احتياجاتنا الزراعية التي تشكل العمود الفقري لأمننا الغذائي؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي أو الخارج.  ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها؟  فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع.  فهل نزرع المحاصيل الأساسية والاستراتيجية بكميات محدودة؛ في وقت نزرع فيه بشكل غير مدروس بعض المحاصيل الأخرى بكميات ضخمة لا لزوم لها، وتصديرها غير مضمون أساسا؛ لأننا لا نتحكم أصلا بالمعابر والحدود وعمليات التصدير ذاتها؟
كما أن الحيازات الزراعية الصغيرة أو ما يعرف بتفتت الملكية ليس بالمشكلة؛ إذ أن الزراعة الخضراء والمعتمدة على الذات تشجع، كما ذكرنا، العودة إلى الحيازات الصغيرة.  فمشكلتنا، إذن، تكمن في افتقارنا إلى سياسة إنتاجية وطنية تعتمد على مدخلات انتاج محلية، وتشجع الناس على العمل الزراعي وتنويع الانتاج الذي يلبي الاحتياجات المحلية بالدرجة الأولى.  وعندئذ، سنتحرر من عقلية البحث عن الخلاص من الخارج.

محركات نمو جديدة
لا بد للتوجه التنموي الأخضر أن يفرز محركات نمو جديدة تزيد كثيرا فرص العمل، وأن يشجع الإنتاج الزراعي المعتمد أساسا على مدخلات إنتاج محلية، سواء البذور المحلية والبلدية والمخصبات والمبيدات العضوية وما إلى ذلك.  بالإضافة إلى تحفيز وتشجيع الصناعات القديمة القائمة كي تتحول نحو عمليات إنتاج أكثر نظافة، وإنشاء وتطوير صناعات جديدة خضراء، وخلق أسواق جديدة للسلع المحلية الخضراء، وبخاصة السلع الزراعية والغذائية.     
وبهدف رسم سياسات واستراتيجيات اقتصادية فلسطينية تصب في طاحونة الاقتصاد الأخضر، لابد، كخطوة أولى، أن يلتقي اللاعبون الأساسيون في الاقتصاد والسوق على طاولة مستديرة، يعكفون، خلال بضعة أشهر، على بلورة وثيقة مفاهيم تفصيلية تُحَوِّل النوايا الحسنة إلى خطة عمل منظمة.
إن أي تحرك فلسطيني في هذا الاتجاه، لا بد أن يشخص الأدوات الموصى بها لاستعمال الموارد البيئية المتاحة استعمالا حكيما، كأداة لتطوير الفعل التنموي المحلي.
ونتيجة تبني وتطبيق سياسات وآليات الاقتصاد الأخضر، يمكننا توقع زيادة في القيمة المالية لإجمالي الناتج المحلي بمئات ملايين الشواقل؛ فضلا عن توفير مئات الملايين الإضافية التي تستثمر حاليا لمواجهة العواقب الصحية والبيئية.
إذن، يمكننا القول إن طاقة اقتصادية عظيمة تكمن في السلوك البيئي الأخضر.  فعلى سبيل المثال، يمكن لسوق العمل الفلسطيني أن يستوعب آلاف فرص العمل الجديدة في مجال سوق النفايات فقط، إضافة إلى استخدام المواد الخام التي تبلغ قيمتها مئات ملايين الشواقل وتبدد حاليا وتدفن في مكبات النفايات.
وفي هذا السياق، نُذَكِّر بما أشرنا إليه سابقا في هذه المجلة؛ إذ أن العديد من الأبحاث الحديثة، أثبتت أن تدوير النفايات الصلبة الجافة (المعادن والزجاج والبلاستيك والورق والكرتون...) مُجْدٍ اقتصاديا ويوفر فرص عمل خضراء، أكثر من عملية دفن النفايات. وحيث أن النفايات تتولد في إطار المجتمع المحلي؛ فإن تدويرها يوفر فرص عمل في نطاق ذات المجتمع أيضا، علما بأن التدوير كثيف العمل، وذو فعالية اقتصادية، ويزيد إنتاجية موارد الطبيعة، وبالتالي يساهم في رفع إجمالي الناتج المحلي.
ومن الناحية الاقتصادية، تدوير النفايات الجافة أفضل من دفنها؛ لأن في ذلك توليد عدد أكبر من فرص العمل الخضراء.  وبالمقارنة مع دفن النفايات الجافة؛ فإن تدوير الأخيرة قد يزيد نسبة التشغيل بأكثر من 40%-50%.
وعلى سبيل المثال؛ دفن ألف طن نفايات جافة (معادن، بلاستيك، زجاج، وورق) بالمتوسط، يولد نحو 17 فرصة عمل.  وفي المقابل، تدوير كمية مماثلة من النفايات يوفر نحو 25 فرصة عمل؛ أي بزيادة 47%.
الجدير ذكره، أن عمليات جمع ومعالجة جزء هام من النفايات غير العضوية، مثل البلاستيك والمعادن والورق والكرتون والزجاج، تزدهر في مختلف أنحاء الضفة الغربية، علما بأن نسبتها لا تتجاوز 30 – 40% من إجمالي النفايات الصلبة.
وفي المقابل، تتدنى جدا نسبة تدوير النفايات الرطبة (العضوية) في الضفة؛ علما بأن النسبة المرتفعة للنفايات الصلبة ذات الأصل العضوي في الضفة الغربية، والتي تتراوح بين 60 – 70% من إجمالي النفايات الصلبة، يفترض أن تجعل مشاريع تصنيع "الكمبوست" وسيلة أساسية لتقليل حجم النفايات الصلبة، بحيث يمكن لعملية التصنيع هذه أن تزيد كثيرا معدل التدوير، علما بأن تصنيع "الكمبوست" يتطلب تقنية بسيطة وغير مكلفة.   

          

انسجام فلسفة الاقتصاد الأخضر مع نموذج الاقتصاد المقاوم
في السياق الفلسطيني، تنسجم فلسفة الاقتصاد الأخضر مع نموذج الاقتصاد المقاوم الذي يستند أساسا على تدعيم البنية الإنتاجية الزراعية والصناعية الوطنية الشعبية التي تتميز بالتنوع الإنتاجي وتوفر الأمن الغذائي للناس، وتتمحور داخليا في السوق المحلي، وتنتج الإحتياجات الأساسية للشرائح الشعبية بالاعتماد على مدخلات الانتاج المحلية، وبالتالي تحررنا من التبعية لمدخلات الانتاج الخارجية. وعمليا، يشكل هذا التوجه مدخلا واقعيا وممكنا لفك الارتباط بين الاقتصاد الفلسطيني والاقتصاد الاسرائيلي.  وفي المحصلة، يعني اقتصاد المقاومة تشجيع وتنمية ثقافة الإنتاج والإدخار كبديل لثقافة الاستهلاك والإلحاق المهيمنة حاليا في مختلف المستويات. 
وفي بلد كبلدنا، "متخلف" تنمويا ورازح تحت الاحتلال الاستيطاني وفقير بالموارد الطبيعية، لا مجال ولا مستقبل للحديث عن تنمية اقتصادية زراعية سوى في إطار اقتصاد إنتاجي نظيف من الكيماويات الزراعية، ومتمحور داخليا، ومتحرر من التبعية للمدخلات الخارجية وفي مقدمتها البذور الصناعية الإسرائيلية ومستلزماتها الكيماوية؛ أي اقتصاد أخضر مقاوم للاحتلال.  وهذا ما نعنيه بالضبط، في السياق الفلسطيني، بالزراعة العضوية (أو البلدية) المتداخلة والمتنوعة والبيئية التي توفر الاحتياجات الغذائية الأساسية النظيفة للناس، بحيث نتحرر من رحمة الاقتصاد والسوق الإسرائيليين، وبالتالي نحقق السيادة الغذائية للناس، الأمر الذي يعد شكلا أساسيا من أشكال السيادة السياسية.
ويتطلب التوجه الاقتصادي الأخضر والمقاوم، محاربة النزعة الاستهلاكية المهيمنة والمتمثلة ليس فقط في شراء المنتجات الإسرائيلية والأميركية بل حتى السلع الكمالية المحلية، وبالتالي لا بد من نشر الوعي التنموي والاستهلاكي البيئي الذي يعني ترشيد الاستهلاك وتكريس نمط استهلاك بيئي وطني، عبر تثقيف أنفسنا في بيوتنا ومدارسنا وجامعاتنا ومؤسساتنا العامة وغيرها، على استهلاك المنتجات الفلسطينية والعربية البيئية الضرورية التي يمكن أن تستبدل تدريجيا المنتجات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى.
إن محاربة النزعة الاستهلاكية والتقليل إلى الحد الأدنى من مشترياتنا، والتركيز على شراء منتجات غذائية محلية، بلدية وموسمية تم إنتاجها من مواد طبيعية، والالتزام إجمالا باقتناء السلع المحلية التي تعرضت لأدنى قدر من التصنيع ولم تسافر مسافات طويلة، وأُنْتِجَت بطريقة عضوية وأخلاقية وتحتوي على حد أدنى من التغليف القابل لإعادة الاستعمال والتدوير- إن الالتزام بكل ذلك يعد أقل كلفة، ويقلل من نفقات المواصلات، ويدور نقودنا داخل بلدنا ويعزز التجارة المحلية، ويصب في طاحونة الحفاظ على مواردنا المحلية ويقلل من التلوث البيئي والصحي، ويساهم في الحد من استهلاك الطاقة، ناهيك عن انسجام هذا التوجه مع اقتصاد الصمود والمقاومة.

التعليقات

مع أن مفهوم الاقتصاد الأخضر قد يبدو جديدا إلا أن جوهر المفهوم ومبادئه تعد الوجه الآخر لأنماط الحياة والزراعية البلدية في فلسطين وسائر أنحاء البلاد العربية ...

كاظم سلمان

 

شكرا جزيلا با أستاذ جورج على إبداعك الكتابي وإضافاتك النوعية الدائمة والمتواصلة للفكر البيئي العربي، وبخاصة تعريبك للفكر البيئي العالمي ووضعه في السياق العربي والفلسطيني...بل وبلورة أطروحات ونظريات بيئية تنموية مبتكرة خاصة بك ...

مازن عسلي

 

الأسم
البريد الألكتروني
التعليق
 

 
 

 

 
 
الصفحة الرئيسية | ارشيف المجلة | افاق البيئة والتنمية