خاص بآفاق البيئة والتنمية
مقابل المنهج الزراعي الكيميائي والبلاستيكي هناك طريق آخر، طريق يجعل الفلاح معتمداً على ذاته، فيه ينتج بذوره بنفسه، ويتوقف عن استعمال الأسمدة الكيميائية، مستعينًا فقط بالأسمدة الطبيعية من روث الحيوانات، ويوقف اعتماده لاحقاً على الجرّار الزراعي في الحراثة، إضافة إلى توقفه عن استخدام المبيدات الحشرية والفطرية، فيبدأ التوازن الطبيعي في العودة، لتتراجع مشكلة الآفات، ويتوقف عن رش مبيدات الأعشاب، وتعود الخصوبة للتربة وتتحول النظرة للأعشاب من كونها مشكلة إلى مصدر للقش، لتغطية التربة وزيادة المادة العضوية فيها وتحسين حفظ الرطوبة في باطن الأرض، فتنمو الأرباح المختلفة؛ المادية والمعنوية والصحية والتحررية. ما بين المنهجين بونٌ شاسعٌ، فالأول منهج لا يصنع تنمية حقيقية ولا مستدامة؛ كونه يلوث التربة والماء والغذاء، وقبل ذلك كله يلوث الفكر ويحرفه ويقتل الإبداع، وهو تشويه للريادة في الزراعة ويؤدي إلى تراجع متواصل في الإنتاج. فيما المنهج الثاني هو عكس كل ذلك تماماً، منهج يعزز الاستقلالية والاعتماد على الذات، يحفظ التربة والماء ويعطي الغذاء الصحي الذي يحافظ على صحة الجميع، وتتنامى فيه إنتاجية الأرض باستمرار كلما تعمقت الممارسات التي تحفظ وتزيد المادة العضوية في التربة ومعها الكائنات التي تعيش داخلها، إنه منهج الفلاحة البيئية والزراعات الطبيعية.
|
 |
بعد ثلاث سنوات ما زالت الفلاحة أم عماد تجمع البلاستيك من أرضها |
تتحدث أمامنا بكل مرارة وحسرة وقد اغرورقت عيناها بالدموع، دموع من فقدَ الأمل في إحياء العلاقة بين روحها المُحبة للأرض وذاك الجزء من الأرض، حتى أن حديثها عنه صار ملازمًا لغصة في القلب.
تتحدث عن تلك الأرض وكأنها فقدت الأمل في أن تعود إلى سابق عهدها في الإنتاج، وأن يعود الأبناء والزوج لمساعدتها على العمل بها.
لم أصادف إنسانًا محباً للزراعة وللأرض، يحب قطعةً من أرضه، فيما يكره قطعة أخرى لا تبعد عن الأولى سوى عشرات الأمتار ولا تختلف عنها بالمواصفات.
كلتاهما أرض سهلية، وكان يفترض أنهما يتمتعان بالخصائص ذاتها، والشعور نحوهما بالألفة ظلّ واحدًا حتى عهد قريب.
القصة مثيرة، فالأبناء كرهوا الذهاب إلى المكان، بعد أن أرهقهم المشروع، نعم المشروع وربما أطلق عليه أصحابه "مشروعاً تنموياً" أو مشروع "تنمية مستدامة" أو "مشروعًا رياديًا" حسب الموضة الجارية حالياً، كثير من "العلكة التنموية" التي يجب وضع حد لها، لكون نتائجها تعود بالإحباط على الفلاحين، وعلى الكثير من الراغبين في الولوج إلى هذا العالم أو العودة للعمل الفلاحي من بوابة المشاريع "التنموية".
فما الذي حصل مع أم عماد في أرضها، في أثناء "المشروع" وبعده؟ (أم عماد اسم مستعار لكن القصة حقيقية)

الثمار المشوهة نتيجة مشروع أم عماد في دير بلوط والذي دعمته إحدى المؤسسات المحلية
"فراشات السهل" والإدمان الكيميائي
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وفي زيارة لسهل دير بلوط استوقفتني ممارسة زراعية لم تكن مألوفة في هذا السهل، حيث تعتمد الفلاحات عادة على الأساليب التقليدية المتوارثة في الزراعة البعلية لمحاصيل الخضار الصيفية. الممارسة "الجديدة" جاءت بناءً على توصيات المرشدين من المهندسين الزراعيين وتمثلت في ضرورة إضافة "نصف ملعقة" من السماد الكيميائي "سلفات الأمونيا/الأمونياك" مع بذور القثاء (الفقوس أو الكوسا البلدي)، أو مع شتلة البندورة البلدية.
في ذاك اليوم سألتُ فلاحة ستينية: "لماذا تحتاجين لوضع هذا السماد مع البذور والأشتال عند زراعتها؟ أجابت: "لِلقو" وقَصَدَت "لتقوية النبات".
قلت حينها لها ناصحًا ومحذرًا: "لكن العكس سيحصل، وستبدأ الكثير من المشاكل في الظهور، ومنها فقدان النباتات القدرة على تحمل الآفات وستصبح جاذبة لها، بعدها ستبدأون في رش المبيدات الكيميائية، ونتيجةً لكل ذلك ستتراجع كثيراً خصوبة التربة وستقتلون أساس الإنتاج وأصله التربة".
لم يكن الحديث مقنعاً للفلاحة، فكيف لملعقة سماد صغيرة أن تفعل كل هذا وتؤدي لتلك النتائج مستقبلاً؟!
يومها كانت أيضاً الحراثة ما زالت تتم باستخدام الدواب وليس الجرار الزراعي، أما اليوم فلم يبق للدواب مكاناً، فقد احتل الجَرّار كل المكان لفِلاحة الأرض، مما زاد من مشاكل أرض السهل في بلدة دير بلوط في محافظة سلفيت، وفاقمها كما في أماكن أخرى.
تتميز الزراعة في تلك الأرض أن من يقوم بها النساء، وهذا يشكل عنصر جذب للمؤسسات العاملة في مجال التنمية والعمل الريفي الزراعي ويطلقون على الفلاحات اسم "فراشات السهل"، لكن تلك الفراشات قد بدأن رحلة "الإدمان الكيميائي" منذ سنوات مع دخول الإرشاد الزراعي والعمل التنموي، فجاءت المؤسسات المحلية والدولية "وأهدت" النساء مضخات الرش الكيميائي والمبيدات (أحتفظ بصور أخبار توزيع تلك المواد والأدوات التي نشرتها المؤسسات نفسها).
وأعود بالذاكرة هنا إلى سنين مضت عندما وزعت جهة ما مبيدات الأعشاب على فلاحين في إطار نشاط لمشروع عنوانه: "التكيف مع التغيرات المناخية" لرشها في حقول القمح، في منطقة تشكل حوض تغذية لمياه جوفية، ترتوي منها محافظة كاملة!.
أم عماد وورطة المحاصيل المشوّهة
تتميز أرض سهل دير بلوط أنها ما زالت حتى اللحظة محفوظة وبعيدة عن غزو البناء لها، ولسنا نحن من كان السبب في حماية تلك الأرض من الزحف الإسمنتي، لأننا حين أصبح الأمر بيدنا، حولنا بغباءٍ وقِصر النظر والفساد أخصب الأراضي لمناطق بناء، كما حصل في سهل طمون وسهل مرج ابن عامر، وفي أريحا وسهل بالوع البيرة وبيتونيا والكثير الكثير من الأماكن، حيث تقع أخصب الأراضي الزراعية السهلية.
عمل النساء هنا، ميزةٌ تجعل المؤسسات تتوجه لهذا المكان وتقدم مشاريع "التنمية" لخلق "قصص النجاح"، التي يمكن وضعها في مربعات داخل التقارير السنوية، أو تقارير المشاريع التي تُقدم لجهات الدعم المالي.
فالنساء هنا يعملن في الأرض وهذا يساعد في إقناع الممولين، والنساء ناجحات في عملهن وهذا يريح المؤسسات في إقناع المستفيدين وللحديث عن قصص النجاح، التي في جزء منها وهمي، وبالعودة إلى أم عماد فقد كانت هي المرّشحة للمشروع.
فرحت أم عماد لأنها اُختيرت لتنفيذ "المشاهدة" الواعدة وإدخال الممارسات "الحديثة والعلمية" لمزرعتها، فحسبما قيل لها بأن المحصول سيتضاعف وسيكون الإنتاج مبكراً، وبموجبه يصبح العائد أكبر والدخل أعلى.
كل مواد "المشاهدة الزراعية" ستحصل عليها مجاناً، وما عليها سوى العمل وتنفيذ ما يُطلب منها- وهذا عنصر إقناع، وبالتأكيد فإن النوايا طيبة والهدف تحسين دخل الفلاحة، وجعل الفلاحات الأخريات يشاهدن النتائج فيقلّدنها في المواسم التالية، ليتحقق لهن دخل مرتفع مثل أم عماد، وقد تلخصت "المشاهدة" في استخدام البلاستيك.
أولاً: تغطية الأرض بالبلاستيك لثلاثة أهداف، الأول الحد من نمو الأعشاب، والثاني حفظ الرطوبة في التربة، والثالث الاحتفاظ بالحرارة لتسريع نمو النباتات.
ثانياً: إنشاء أنفاق بلاستيكية منخفضة بارتفاع يتفاوت من ٥٠ إلى٧٠ سم، من أجل تدفئة إضافية للنباتات وحمايتها من الطيور في بداية نموها.
مكثت أم عماد نحو أسبوعين تفرش الأرض بالبلاستيك الأرضي وتدفن جوانبه في التربة، ثم عملت على تثبيت الأقواس المعدنية المنخفضة وتركيب البلاستيك عليها وتثبيته كذلك بالتربة.
ساعدها في ذلك الأبناء والزوج على مضض، فهذه طريقة لم يعتادوا عليها، وقد كلّفهم العمل الكثير من العناء والتعب، ثم انتقلت أم عماد ومعها العائلة إلى مرحلة انتظار النتائج.
أم عماد تراقب وتتابع وتترقب، والأبناء متوجسون. بدأت النباتات في النمو، ومع ارتفاع الحرارة لاحظت أن نباتات القثاء "الفقوس" أخذت تتضرر وتحترق أوراقها ولم تعرف ما العمل!
اتصلت بالمهندس المشرف وأرسلت له صور النباتات، فقال لها: أسرعي واِرفعي البلاستيك، وفي النهار عليكم فتح الأنفاق (وعددها كبير)، وفي المساء إعادة إغلاقها، لكن النباتات احترقت من الحر وماتت.
قال لها "أعيدي زراعة الأرض"، ففعلت.
التعب ازداد ومعه الإحباط، ثم نفور الأبناء من العمل ورفضهم القدوم للأرض ومساعدة أمهم.
بدأت النباتات تنمو من جديد بعد إعادة زراعة البذور مرة أخرى، وبدأت رحلة ترقب الإنتاج الوفير، الذي سيمتد لفترة أطول من المتوقع، لأن الرطوبة محفوظة في التربة، نتيجة للبلاستيك الذي غطَّى الأرض ومَنَعَ التبخر، هكذا قيل لها.
انقضى الوقت ومرت الأسابيع ليظهر الإنتاج المنتظر، وبكل أسىً تتحدث أم عماد عن النتيجة، فقد جاء المولود مشوهاً، وإذ به ثمار بأشكال تراها لأول مرة في حياتها كما قالت، ثمار مشوهة عجيبة لن يشتريها أحد.
 |
 |
البلاستيك المستعمل من أرض مشروع أم عماد في دير بلوط |
النباتات الميتة التي احترقت بفعل الحرارة الناتجة عن أنفاق البلاستيك |
الحكم على النتائج
"في كل الأحوال المهم هو العائد المادي، فلو كان مجزياً، سأستطيع النظر في وجوه أبنائي وزوجي، وسيكون التعب مبرراً، لكن هنا كانت خيبة الأمل الكبرى، مبيعاتي السنوية بلغت نحو ٣١٠ دولاراً فقط" تقول أم عماد.
"كم كان العائد في السابق من نفس الأرض" أسأل أنا؟
تنهيدة عميقة وإشاحة للوجه، لتخفي دموع عيونها ونظرة في الأفق البعيد وحسرة، النظرة المنكسرة نفسها رأيناها في عيونها ونحن نعرض على مجموعة من نساء القرية فيلماً فلسطينياً عنوانه: "الثورة غير المحكية… السيادة الغذائية في فلسطين"، أجابتني السيدة: "في السابق كانت مبيعاتي السنوية يتفاوت قدرها من ١٧٠٠ إلى ٢٠٠٠ دولار.
وواصلت حديثها: "الخسارة المادية لم تكن هي الغصة الكبرى، لقد كرهتُ الأرض، لم أعد أحب المجيء إليها، لأن أبنائي وزوجي يلومونني ويرفضون القدوم لهذا الجزء من أرضنا، فقدوا الثقة بي ولا يريدون الآن مساعدتي، ويهزأون من كل مشاريعي وأفكاري، هذه الأرض عزيزة علي لأني ورثتها من أهلي، لكن لم نعد نطيق القدوم إلى هنا أنا والعائلة، ومنذ ثلاث سنوات أحاول تنظيف الأرض من بقايا البلاستيك، وحتى الآن لم تنظف منه، وفي كل مرة نحرث الأرض تخرج لنا قطع البلاستيك من جديد، لتذكرّني بخيبة الأمل والخسارة بجوانبها المتعددة".
أشاح بعينيه جانباً، فأمسكت بذقنه وقلت له: ألم يخبرك أبوك بالمثل القائل "العينين مغاريف الكلام"؟. حين يكلمك شخص انظر في عينيه.
سألني: "ماذا تريد؟"
أريدك أن تقف إلى جانب أمك وتساعدها.
يرد عماد "الابن الأكبر" بقوله: "لقد ساعدناها كثيراً، مللنا العمل وأرهقنا، أسبوعان ونحن نحفر ونضع البلاستيك، والنتيجة كانت التعب ولا شيء غير التعب، ومنذ ثلاث سنوات متتالية تلّح أمي علينا أن نأتي ونجمع قطع البلاستيك من التربة، لقد خربت الأرض وخسرنا. لا أريد مشاريعها، لا أريد أن أرى المؤسسات هنا، إذا جاء أحد يطلب منا أن نضع البلاستيك مرة أخرى سأطرده".
أسأله: هل تقصدني؟
يرد بسؤالٍ آخر: هل تريد منا أن نضع البلاستيك؟
واستمر حوارنا:
- لا، فأنا ضد هذا، أريد أن "نحيي الأرض" ونعيد لها عطاءها، أن ننظفها مما علق بها، فهل ستساعدنا؟
- سأحكم على النتائج.
- اتفقنا
الحكم على النتائج والحكم على الممارسات، هذا هو المعيار الذي يجب أن يوجه عملنا مع الفلاحين ومع الأرض، وليس بيع الأوهام وتصوير الفشل على أنه نجاح.
وإذا كررنا نفس الأعمال وانتظرنا نتائج مختلفة، عندئذ لن نكون إلا أصحاب فكر غبي، هكذا على الأقل قال آينشتاين: "من الغباء أن تكرر نفس الفعل وتنتظر نتائج مختلفة".
هذه المشاهدات تُنفذ من سنوات في أماكن مختلفة لإدخال البلاستيك إلى الزراعة البعلية، التي تقوم على تقليل مدخلات الإنتاج الخارجية وليس زيادتها.
زراعة كانت تعتمد فقط على بذور بلدية ينتجها الفلاح بنفسه ويحتفظ بها للموسم التالي، سماد طبيعي من روث الحيوانات، وحيوانات لفلاحة الأرض وحرثها.
أما اليوم فقد تغيرت ولم يبقَ فيها ما هو طبيعي غير البذور، فقد أدخلنا السماد الكيميائي إليها، وأدخلنا الجرّار الزراعي، فظهرت الآفات، ثم استخدمنا المبيدات الحشرية والفطرية، وأخيراً اكتملت مرحلة التدمير بإدخال مبيدات الأعشاب.
إنه منهج يكرّس ويزيد اعتماد الفلاحات والفلاحين على عناصر الإنتاج الخارجية من أسمدة ومبيدات كيميائية وبلاستيك، وهي عناصر التدمير للتربة الزراعية وصحة الناس وتلويث البيئة بكل مكوناتها والقضاء على التنوع الحيوي.
هي عناصر تُدخِل الفلاح في دوامة من المشاكل وترهق ميزانيته وتقلل أرباحه، حتى تصل به للخسارة في مرات كثيرة.
وعلى الرغم من النوايا الحسنة لدى من يروّج لمثل هذه المشاريع، فإن النتائج على المدى المتوسط والبعيد كارثية. ففي هذا المكان ومرة أخرى، ظهر نوع من الأعشاب البرية، التي أخذت تغزو الأرض، وهو عشب الباذنجان البري، فاجتمع الخبراء قبل سنوات لإيجاد طريقة لمكافحته، وكان الحل باقتراح وتجربة أنواع مختلفة من مبيدات الأعشاب، والنتيجة كيماويات جديدة تدخل في قاموس الفلاحات هنا- مبيدات الأعشاب -، ولم تنجُ أم عماد من ذلك أيضاً، التي ابتاعت لترًا من مبيد "فعال" ثمنه ٢٣٠ دولار، تحديدًا من الداخل الفلسطيني المحتل ليكون أصلياً وليس مغشوشاً، ومجدداً خسرت المال وأضيف الباذنجان البري إلى رصيد الحسرات.
 |
 |
من تفاصيل المشاهدة في مشروع أم عماد في دير بلوط |
هكذا تبدو المشاهدة الهزيلة لمشروع الزراعة البلاستيكية والكيميائية في دير بلوط |
اِحذروا من "الوهم التنموي"
في مقابل هذا المنهج هناك طريق آخر، طريق ومنهج يجعل الفلاح معتمداً على ذاته، فيه ينتج الفلاح بذوره بنفسه، يتوقف عن استعمال الأسمدة الكيميائية ويستعين فقط بالأسمدة الطبيعية من روث الحيوانات، ويوقف اعتماده لاحقاً على الجرّار الزراعي في الحراثة، ويتوقف عن استخدام المبيدات الحشرية والفطرية وفي إثره يعود التوازن الطبيعي، وتتراجع مشكلة الآفات، وكذلك يتوقف عن رش مبيدات الأعشاب، فتعود الخصوبة للتربة وتتحول النظرة للأعشاب من كونها مشكلة إلى مصدر للقش، لتغطية التربة وزيادة المادة العضوية وتحسين حفظ الرطوبة في باطن الأرض، فتنمو الأرباح المختلفة؛ المادية والمعنوية والصحية والتحررية.
ما بين المنهجين بونٌ شاسعٌ، فالأول منهج لا يصنع تنمية حقيقية ولا مستدامة، فهو يلوث التربة والماء والغذاء، وقبل ذلك كله يلّوث الفكر ويحرفه ويقتل الإبداع، وهو تشويه للريادة في الزراعة ويؤدي إلى تراجع متواصل في الإنتاج. فيما المنهج الثاني هو عكس كل ذلك تماماً، إنه منهج يعزز الاستقلالية والاعتماد على الذات، يحفظ التربة والماء ويعطي الغذاء الصحي الذي يحافظ على صحة الجميع، تتنامى فيه إنتاجية الأرض باستمرار كلما تعمقت الممارسات التي تحفظ وتزيد المادة العضوية في التربة ومعها الكائنات التي تعيش داخلها، إنه منهج الفلاحة البيئية والزراعات الطبيعية.
هكذا ستعود أم عماد وعائلتها لحب ذلك الجزء من أرضها، وبهذا تكون المشاريع "مستدامة"، وهكذا أرى "الريادة" في العمل الزراعي.
فإن كانت هناك مؤسسات تتبنى أو تردد هذه المفاهيم في الريادة والاستدامة وحماية البيئة ودعم الفلاحين، فعليها أن تتوقف عن "علك المشاريع"، التي صُرفت عليها ملايين الدولارات، مشاريع ترّوج لزراعات أحادية كيميائية، وأخرى تروّج للزراعة المائية التي يُشوّه فكر طلاب المدارس بها، كما الفلاحين أو هواة الزراعة، وقد توقفت الغالبية الساحقة منها، بعد خسارة المال والجهد والأعصاب والمواد المستعملة، التي تحولت لنفايات.
الأمثلة كثيرة وتستدعي الوقوف والعودة للتفكير، عند كل من يحمل الفكر التنموي ويدّعي الترويج للاستدامة في الزراعة أو الحفاظ على البيئة أو التنمية، فكثير من الجهات انحرفت عن كل هذا الفكر عند الممارسة على الأرض. نحن بحاجة لفكر تنموي أكثر جذرية نعكسه على أعمالنا، وليس مجرد شعارات تتردد في ردهات الفنادق في ورش العمل والمؤتمرات، فمتى ستتوافق أفعالنا على الأرض مع أقوالنا؟
ومرة أخرى أقول إن الكثير من الأعمال المؤذية، تأتي من نوايا حسنة عند أصحابها، وهذه النوايا الحسنة لا شك فيها، ولكن مرة أخرى أعيد أن من الغباء تكرار نفس الأعمال وانتظار نتائج مختلفة.
على أمل أن تعود أم عماد لتحب أرضها ويعود الأبناء والزوج لمساعدتها، ليتجلى الأنموذج الحقيقي لفلاحة ترّسخ حب الأرض، والاعتماد على الذات، وإنتاج غذاء يشفي الروح قبل الجسد.
وعلى أمل أن تعيد الكثير من المؤسسات تقييم عملها ونتائجه، وأن تعود المؤسسات وتنظر في عيون أم عماد لتبدي أسفها: "نعتذر عما سبّبناه لكم، لم نقصد ذلك وسنصحّح المسار".
وعلى أمل أن تعود مؤسسات، كانت الأبرز في تبني فكر تنموي حقيقي وتدافع عن البيئة وعن تحرير الفلاحين، من شوائب الفكر الزراعي الاستعماري، إلى سابق عهدها ولجذريتها، وتتوقف عن الانجرار خلف مشاريع "الوهم التنموي"، فيكفينا ما نعانيه من أوهام في واقعنا الفلسطيني، نحن بحاجة لفكر زراعي تنموي يحرر العقل من أوهام الزراعة الكيميائية، فهي زراعة استعمارية، تستعمر العقول قبل الحقول، والتحرر منها واجب وعلى رواد التنمية حمله.