إن أسوأ ما يحدث في حالة الانهيار الشامل للدول هو الاستثمار في هذه الحالة، وليست صدفة أنه كلّما تعمّقت حالة الانهيار، استقطبت أرضيّتها المزيد من المستثمرين.
في حالة لبنان، تتشابه حالة الانهيار الشامل مع حالة انهيار الدولة وسيطرة المافيات على مفاصلها، مع دخول شركات كبرى على خط الاستثمارات الكبرى.
مع هذه الأجواء، تستمرّ المساعي للاستثمار في الغاز والنفط التي شاهدنا أحد فصولها أخيرًا بإعلان تغيير بعض المستثمرين ومتابعة الحفر والاستكشاف من جديد.
بغضّ النظر عن حجم المصالح والصفقات الاستثمارية والسياسية التي تحصل في مثل هذه الظروف الوطنية والإقليمية والدولية، لا يُفترض القبول بتوقيع عقود أو القيام باستثمارات كبرى في حالة الانهيار.
قد يكون مفهوماً البحث والاستكشاف أولاً، إلا أن المشكلة تبدأ في تسليم الشركات كلّ شيء، ومن ثم المباشرة بالتسويق لخيارات كبيرة وخطيرة، قد تكون ملزمة في طبيعتها وتبعاتها لأجيال.
لا يتصل الأمر بإجراء دراسة الأثر البيئي السطحية لخيارات الحفر والاستكشاف، ومن ثم الاستخراج.
كما لا يتعلق بالتقييم البيئي الإستراتيجي الذي كُلّفت شركة بإجرائه في عام 2012، ولا بمحاولة تحصين هذا "التقييم" عبر القيام بمشاورات مع ما يُسمى المجتمع المدني والمساعدة على تأسيس جمعيات خاصة وتدريبها وتلقينها على كيفية استخدام المفردات المتخصّصة ذات الصلة، وتحضيرها صورياً من أجل إعلام المجتمع بما تريد وتحسين الصورة، وإظهار شفافية ما للمزيد من تخدير العقول واستغلال حالة الانهيار لجعل هذا الموضوع "خشبة الخلاص" الوحيدة للمنهارين، بعد تدريب بعض وسائل الإعلام أيضاً على كيفية تغطية أخبار الشركات ومن يدور في فلكها من خبراء وجمعيات وسياسيين وبرلمانيين، للمزيد من الترويج.
بحسب مرسوم "التقييم البيئي الإستراتيجي" الذي صدر في عام 2012، وفي المادة 12 منه، أُوكل دورٌ لوزارة البيئة لتقويم نتائج وآلية التقييم البيئي الإستراتيجي كل أربع سنوات، وتقييم نتائج وحسن تطبيق التقييم البيئي الإستراتيجي منفردة أو بالتعاون مع المجلس الوطني للبيئة عند إنشائه، وذلك لتحسين الأداء البيئي وتبسيط الإجراءات، مع العلم أن وزارة البيئة غير جاهزة للقيام بهذا الدور، لا في حالتها الماضية في أثناء اتخاذ هذا الخيار، ولا في حالتها الراهنة بعد الانهيار وترك الكثير من كوادرها للعمل خارجها أو خارج لبنان، وتقاعد بعضها الآخر.
علمًا أيضاً أن هناك خلافاً كبيراً على كيفية تحديد مفهوم "التقييم البيئي الإستراتيجي" الذي يُفهم بنظرنا إجراء التقييم قبل اتخاذ خيار التنقيب وليس بعده. أي أن لا تكون الدراسة والتقييم مجرد تبرير لخيارات كبيرة وخطيرة وتاريخية أخذتها أكثرية سياسية مسيطرة في حقبة تاريخية معينة.
فهذا الخيار الذي اتخذته هذه "الأكثرية" هو خيار استبدادي وغير ديموقراطي بمعايير الديموقراطية البيئية، لأن أكثرية اليوم المقرّرة بخيار له تبعات لأكثر من مئة سنة مقبلة، هي أقلية بالنسبة إلى الأجيال المقبلة ولا يمكنها أن تقرّر عنها، وخصوصاً إذا كان الأمر يتصل باستخراج موارد غير متجدّدة كالغاز.
ثم إن حجم المخاطر أكبر بكثير من حجم العوائد المتبقية للشعب، بعد أن تأخذ الشركات حصة الأسد من هذا الاستثمار.
وإذ يُفترض أن يكون التنقيب في أعماق بعيدة جداً، فإن ذلك سيزيد من المخاطر وسيترتب عليه حوادث تسرّب خطيرة ومدمرة للكثير من الأنواع البحرية والشاطئية، قد تطيح بأيّ مكتسبات محدودة.
مع العلم أن في بحرنا بحراً من الثروات الحيوانية والنباتية، من الثدييات البحرية والسلاحف والأسماك والطحالب، وهو مصدر مهم ومؤثر على نوعية الهواء، وتغمر مياهه مواقع طبيعية وأثرية مهمة، ستكون عرّضة لدمار كبير.
إذن هناك مخاوف كبيرة من أن تطال أي كارثة تسرّب في أثناء الحفر والاستخراج والنقل والتكرير والتخزين، سائر المواطنين اللبنانيين عمومًا، والذين يعيشون أو يعتاشون على طول الشاطئ خصوصًا، ولا سيّما العاملين في قطاع الصيد البحري والقطاعات السياحية والشحن البحري، إضافة إلى تسبّب صعود هذا القطاع بضرب قطاعات أخرى، وبخاصة تلك المذكورة.
لم تُقيّم جميع المخاطر على ما يبدو، في وقت لم تتبلور فيه بعد الخيارات، وليس في هذا البلد "المشلّع" سياسياً واقتصادياً واجتماعياً أية استراتيجية شاملة للبيئة ولا للتنمية المستدامة والطاقة، ولم نفهم ما إذا كان الغاز المفترض استخراجه للاستخدام الداخلي أو للتصدير، وغير ذلك من الأسئلة المصيرية.
ومن ضمن حساب وتقييم المخاطر، لم يعد مفهوماً إذا كان خيار التنقيب والحفر والاستخراج مشروعاً يتسبّب بالمزيد من الحروب أم هو مشروع سلام؟
وجد بعضٌ في الترسيم الذي ساهمت شركات كبرى في تسهيل حصوله مقدمة للسلام، لكن هذه الشركات نفسها (مع مثيلاتها) حالت دون إبرام اتفاقيات دولية ملزمة لإنقاذ المناخ العالمي حتى الآن وساهمت مباشرة أو غير مباشرة في زيادة الانبعاثات العالمية من هذا الوقود المنوي حفره وفي زيادة الكوارث المناخية التي قُدّرت كلفة خسائرها وأضرارها بتريليونات الدولارات، لتتجاوز وتمحو أي مكتسبات متوقعة.
وغير مفهوم حتى الآن لماذا لم يدخل في عملية التقييم خيار ترك هذا الغاز تحت الأرض والماء، والمفاوضة عليه مع من يفترض أنهم تسبّبوا بكوارث المناخ، في حين تُعوّض البلدان النامية وغير النفطية المتضرّرة من تغيّر المناخ، إذا وفّروا المزيد من الكربون في الجو؟
لماذا لا يفكر لبنان بعد الاستكشاف، في بيع الكربون المفترض بدلًا من الحفر؟ هذا الموضوع طُرح لأول مرة أخيرًا في ورشة عمل نظمتها وزارة البيئة لتقييم نتائج قمة شرم الشيخ المناخية الأخيرة، وقد أصدر المجتمعون توصية أساسية تطلب فيها من السلطات المعنية استكمال الاستكشاف عن النفط والغاز والتريّث في الاستخراج لحين دراسة البدائل بعد دراسة المخاطر وإمكانيات التعويض المناخية.