من الحواكير الى الأسطح الزرقاء.. كيف للزراعة الحضريّة أن تخفف من حدّة الفيضانات؟
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تعد كميّة الجريان السطحي لمياه الأمطار من أهم مسببات الفيضانات في بلادنا، وهذا يرتبط بشكل عام بالتزايد السكُاني، فكلما ازداد عدد السكان ازدادت المساحات المبنيّة والتي غالبًا ما تكون مساحات صمّاء غير نفاذة للمياه مثل الكثير من "الغابات الإسمنتية" التي نعيش فيها ونعرفها جيّدًا. ثم حتى لو كانت نفّاذة فغالبًا ما يتم "هندستها" بحيث تتخلص من مياه الأمطار بأسرع الطرق الممكنة. ونتيجة لكل هذا، فإن المساحات الخضراء التي كانت سابقًا تستوعب نسبة كبيرة من مياه الأمطار وكأنها "إسفنجة" تمتص فائض الأمطار قد تقلصت بشكل حاد، فمعظم المدرجات الزراعيّة التي بناها أجدادنا تحوّلت إلى مبانٍ صماء بعد أن كانت تُقلل من سرعة وكميّة الجريان السطحي لمياه الأمطار. إخفاق شبكات التصريف في كثير من الأحيان، ألجأ الخُبراء إلى التفكير بحلول لا مركزية مُكمّلة، من شأنها أن تسهم في حل المشكلة عند مصدرها، كأن يكون الحل على مستوى قطعة الأرض الخاصّة أو على مستوى الحارة والحي أو البلدة. المقالة التحليلية التالية تركز على الحلول الممكنة على مستوى قطعة الأرض الخاصة، وهو ما يُعرف بنظم التصريف الصغيرة.
|
للوهلة الأولى؛ قد لا تبدو أيّة علاقة بين الزراعة والفيضانات، ولربما كُل ما سمعناه عن هذا هو مدى الأضرار التي تسببّها الفيضانات للمساحات الزراعيّة.
وقبل أن نشرح كُنه العلاقة، لنقف قليلًا عند العلاقات المُركبة بين الظواهر المختلفة في الطبيعة من حولنا، إنها أكثر تعقيدًا مما نتخيّل! فالكثير من الفيضانات التي بتنا نشهدها، ترتبط بالتغييرات المناخيّة التي يشهدها العالم والتي بدورها تؤثر على درجة حرارة البحار؛ والبحر الأبيض المتوسط هو أحدها، والفيضانات التي شهدناها ونشهدها بشكل عام في شهر تشرين ثاني/نوفمبر مؤخرًا سببها ارتفاع درجة حرارة مياه البحر الأبيض المتوسط بدرجتين عن المعدل لهذا الشهر وهذا "كثير" كما جاء في تصريح لأحد الخُبراء. فزيادة درجة حرارة المياه يرتبط بزيادة البخار والتي تزداد بنسبة 7% لكل ارتفاع مقداره درجة مئوية في الحرارة، وزيادة بخار المياه تزيد في تواتر وشدّة الهطولات المطريّة والعواصف.
المساحات الخضراء.. إسفنجة مفقودة!
بالعودة إلى الفيضانات والزراعة، فإن الحديث سيجعلنا نغوص أكثر في مسببات الفيضانات في بلادنا وهو موضوع "كميّة الجريان السطحي لمياه الأمطار Stormwater runoff"، وهذا يرتبط بشكل عام بالتزايد السكُاني، فكلما ازداد عدد السكان ازدادت المساحات المبنيّة والتي غالبًا ما تكون مساحات صمّاء غير نفاذة للمياه مثل الكثير من "الغابات الإسمنتية" التي نعيش فيها ونعرفها جيّدًا.
ثم حتى لو كانت نفّاذة فغالبًا ما يتم "هندستها" بحيث تتخلص من مياه الأمطار بأسرع الطرق الممكنة وكنتيجة لكل هذا، فإن المساحات الخضراء التي كانت سابقًا تستوعب نسبة كبيرة من مياه الأمطار وكأنها "إسفنجة" تمتص فائض الأمطار قد تقلصت بشكل حاد، فمعظم المدرجات الزراعيّة التي بناها أجدادنا تحوّلت إلى مبانٍ صماء بعد أن كانت تُقلل من سرعة وكميّة الجريان السطحي لمياه الأمطار.
كما أن الحواكير وآبار الجمع التي احتوتها كانت تستوعب كميّات كبيرة من مياه الأمطار؛ حتى المناطق التي كانت تتجمع فيها مياه الأمطار ويعرفها الناس بـ" البالوع" أو ا"لمنقاع " وغيرها قد اختفت تقريبًا. وبالتالي فإن كُل تلك المساحات الزراعيّة كانت تساهم بشكل كبير بالتخفيف من أضرار الفيضانات وهو ما يُعرف بـ flood mitigation.
رسم توضيحي: الفرق بين معامل الجريان السطحي runoff في المناطق الخضراء (10%) والمناطق المبنيّة الصماء (55%).
أثر الحدائق والحواكير.. !
الحقيقة، التي لا بُد من ذكرها بل والتأكيد عليها، هي أنه لا يُمكن لأي حاكورة ولا حتى لكل الحواكير والمساحات الخضراء في أي مدينة أو قرية أن تمنع الفيضانات.. ولهذا عندما نستخدم مُصطلح التخفيف من أضرار الفيضانات (بالانجليزية: flood mitigation ) فإننا نعني ذلك بالضبط، لأن الحقيقة المؤسفة أنه لا يمكن منع الفيضانات بتاتًا.. ففي الطبيعة هناك نسبة من المياه تبقى على سطح الأرض وتجري فوقها وتسمى "معامل الجريان السطحي" وتتراوح قيمتها في المناطق الخضراء والزراعية ما بين 0.08 إلى 0.3 ؛ بينما في المناطق المبنية تكون بين 0.6 إلى 0.85 في المناطق الصمّاء (المبنيّة).
وبالتالي فإن غزارة الأمطار قد تؤدي إلى الفيضانات ذات يوم؛ قد يحدث ذلك غدًا أو بعد غد أو بعد 100 عام.
وعلمًا أن شبكات التصريف يجري تصميمها بحسب شدّة هطولات مطريّة متوقعة لكل 10 أعوام أو 50 عام (فترة التكرار) والأفضل تصميم الشبكة للشدة المتوقعة لفترة تكرار 100 عام.
أين مُشكلتنا؟ أننا بتنا نشهد الفيضانات بوتيرة كبيرة. وشبكات التصريف لم تعد تحتمل حتى الهطولات المطريّة المتوسطة.
فمثلًا في أحد الفيضانات في مدينة عمّان؛ شُكلّت لجنة خاصّة لبحث ما عُرف حينها بـ" فيضانات وسط البلد" ووجدت أن الشدّة المطريّة لا تُبرر الفيضانات (12 ملم في الساعة). حتى في مدن أخرى، فإن شبكات التصريف التي كلّفت الملايين قد صُممت كي تحتمل شدّة مطريّة تصل إلى 25 ملم في الساعة، ولكن عندما ننظر إلى غزارة الأمطار في السنوات الأخيرة نجد أن غزارة (شدة مطريّة) مثل 50 ملم في الساعة كان تحصل بمعدل مرّة كل 100 عام فإنها اليوم تحصل بوتيرة أكبر بكثير.
فقد شهدت مدينة طولكرم في السنوات الأخيرة هطولات مطريّة وصلت شدّتها إلى 73 ملم في ساعة وفي مدينة حيفا تم تسجيل 88 ملم في الساعة وفي مدينة عسقلان 92 ملم في الساعة؛ وتلك أرقام ضخمة مقارنة بما تقدر عليه الشبكات (25 ملم في الساعة).
إن إخفاق شبكات التصريف في كثير من الأحيان، ألجأ الخبراء إلى التفكير بحلول لا مركزية مُكمّلة، من شـأنها أن تسهم في حل المشكلة عند مصدرها، كأن يكون الحل على مستوى قطعة الأرض الخاصّة أو على مستوى الحارة والحي أو البلدة، وفي هذه المقالة سوف نركز على الحلول الممكنة على مستوى قطعة الأرض الخاصة، وهو ما يُعرف بنظم التصريف الصغيرة "micro drainage system" وتكون عبارة عن مرافق تقوم باحتجاز (Retention) أو إعاقة (Detention) نسبة من مياه الجريان السطحي إلى حين انقضاء العاصفة، تمامًا كما لو أنها إسفنجة، وهذا بالضبط ما يُمكن للحواكير والحدائق وزراعة الأسطح وغيرها من مساحات نفاذة أن تفعله.
كيف نزيد من نجاعة المساحات الخضراء؟
المهم، وربما المسألة المفصليّة في هذا الشأن هي كميّة المياه التي يُمكن لهذه المساحات الخضراء استيعابها وهو ما يتعلق بعوامل كثيرة مثل مساحة الحاكورة/الحديقة ونوع التربة وخصائصها وحتى طريقة تصميم الحديقة.
1)المساحة:
بشكل عام يُنصح ألا تقل هذه المساحة عن 15% من مساحة قطعة الأرض، أي لو كانت مساحة الأرض 500 متر مربع فإن المساحة الخضراء يجب ألا تقل عن 75 متر مربع. وهذه النسبة هي الحد الأدنى، بيد أن النسبة الموصى بها غالبًا هي 33%، وهذه المساحة يُمكن ألا تكون حديقة بالمفهوم التقليدي، لنجعل مثلًا مصفّ السيارات مساحة نفاذة للمياه ويُمكن للمسطحات المرصوفة أن تُرصف بالمواد النفاذة للمياه Pervious Pavement بدلًا من المواد الصمّاء.
2)نوع التربة واستخدام الكومبوست
هناك أنواع تربة لا تساعد كثيرًا في تخفيف الفيضانات، وبالتالي يجدر بنا الاهتمام بهذه المسألة جيدًا، فهناك أنواع يُمكن أن تحتفظ ما بين 100 وحتى 230 لتر لكل متر مكعب من التراب وذلك عند احتوائها على 3% من الدُبال (Humus).
وعلمًا أن الدُبال بشكل عام هو الجزء المتحلل بشكل كامل من الكومبوست (وبالطبع، يُمكن صناعة الكومبوست منزليًا)، وما يميز الدُبال في الكومبوست قدرته على الاحتفاظ بكميّة كبيرة جدًا من المياه تصل إلى 3 أو حتى 5 أضعاف وزنه.
فلو أضفنا 25 كغم من الكومبوست لكل متر مربع في الحاكورة فإن "الدبال" وحده يُمكن أن يخزن حوالي 15 لترًا من مياه الأمطار. أيضًا وجود كساء عضوي organic mulch فوق التربة كبقايا القهوة أو حتى ترك بقايا التعشيب فوقها يُمكنها أن تزيد من حفظ التربة للمياه؛ ناهيك عن تحقق فوائد جمّة للنبتة، وللتربة والكائنات الحيّة فيها.
رسم توضيحي: أثر زيادة المادة العضوية (من خلال الكومبوست مثلا) على احتفاظ التربة بالمياه بالمقارنة مع التربة التي تفتقر إلى المادة العضوية(المصدر)
3)تصميم الحديقة "الإسفنجية"
تصميم الحدائق يُمكن أن يلعب دورًا محوريًا في هذا الشأن، دعوني أضع بين يديكم الأفكار التالية:
- يُمكن أن تُجعل مساحة البيت وكأنها حوض تصريف صغير Drainage basin بحيث يحتفظ بداخله معظم الأمطار التي تسقط فوقه، لتُوصل المساحات الصماء مع المساحات النفاذة، مع التخطيط المسبق لكميّة الأمطار التي يُمكن معالجتها في هذا الحوض، وكيفية التخلص من الفائض في حالة وجود هطولات مطرية غزيرة جدًا.
- تصميم "أحواض الزراعة المرتفعة" وهو ما يُعرف بـ Raised beds يمكن أن يساعد التربة في الاحتفاظ بكميّة أكبر من الأمطار وامتصاصها كما الإسفنج، وهي طريقة ينصح بها خبراء الزراعة المستدامة و"بيرماكلتشر".
رسم توضيحي: كيفية تصميم الحدائق المطرية (المصدر)
- إنشاء الحدائق المطريّة يُعد من أهم العناصر في نظم التصريف المستدامة، وغالبًا ما تكون في مكان منخفض داخل الساحة تُصرف إليه مياه الجريان السطحي (الأمطار).
وبموجب هذا النوع من الحدائق يتم تأسيس الحديقة المطريّة من خلال طبقات خاصّة من التربة على أن تكون فيها نسبة الرمل عالية وكذلك المواد العضوية من خلال الكومبوست (بعد إزالة حوالي 15-30 سم من التربة القديمة) لتغدو مُنخفضة أكثر من بقيّة المساحات كي تستوعب أكبر قدر من المياه الذي لا يلبث غالبًا أكثر من 48% منه ليتغلغل في أعماق التربة فيغذي المياه الجوفيّة بعد أن يكون قد تنقّى من 90% من المُلوثات. كي تكون هذه الحدائق ذات فعاليّة، ينبغي ألا تقل مساحتها عن 5% من مساحة الأسطح الصماء داخل قطعة الأرض.
- إنشاء حدائق الأسطح: مع أن الفكرة قد تبدو مقتصرة على الزراعة فوق السطح؛ ولكن الحقيقة أن هذا المجال قد تطوّر بشكل كبير في السنوات الأخيرة، والحديث لم يعد منحصرًا في فكرة الزراعة على السطح، بل تحول إلى تأسيس منظومة بيئية متكاملة فوق أسطح المنازل، فمنافعها تشمل إثراء التنوع الحيوي داخل المدن وكذلك إنتاج الغذاء، هذا غير المساهمة في الحفاظ على درجة حرارة معتدلة في المباني وبلا شك التخفيف من حدّة الفيضانات.
ولأن موضوع الفيضانات يعد من المواضيع الطارئة فقد تم تطوير ما يُسمى بـ "الأسطح الزرقاء" والتي تُوظّف بشكل أساسي لاستيعاب أكبر كم من مياه الجريان السطحي؛ لدرجة أن بعض الأسطح تصل قدرتها الاستيعابية إلى 45 لتر لكل متر مربع.
وبالتالي إذا كانت الفيضانات التي تحصل في مُدننا بسبب هطول كميّة المطر في فترة زمنية قصيرة ما بين 50 أو 100 لتر لكل متر مربع، فهذا يعني أن "الأسطح الزرقاء" يمكنها استيعاب كمًا هائلًا من مياه الجريان السطحي وبالتالي المساهمة بشكل كبير في الحد من أضرار الفيضانات، خصوصًا في المناطق المكتظة.
رسم توضيحي باللغة الألمانية عن فوائد زراعة الأسطح الخاصة Extensive Green Roofs على التخفيف من الفيضانات، توفير الطاقة وتقليل الضوضاء وكذلك زيادة التنوع الحيوي (المصدر)
أخيرًا، فإن الكثير من خُبراء الهندسة التقليديين، غالبًا ما كانوا - ولا يزال بعضهم - يُشكك بجدوى مثل هذه الأفكار والحلول. وإن آمنوا فإن بعضهم يُقلل من أهميتها لاعتقادهم أن مساهمتها هامشيّة، وهو ما دفع الخُبراء إلى بحث هذه "التقنيات المستدامة" لتصريف مياه الأمطار بشكل أعمق، فكانت النتيجة أن هذه الحلول تطوّرت بشكل كبير، وعلى رأسها "حدائق الأسطح" التي تستحق منّا أن نكتب عنها أكثر.. إنها برأيّ من أفضل الحلول التي يُمكن أن ترجع غاباتنا الأسمنتية لتكون مدنًا خضراء إسفنجيّة.