تحوّلت مدننا وقرانا اليوم إلى كُتلٍ خرسانيّة صماء غالبًا، فلا حواكير في أكثر المنازل ولا مساحات خضراء عامة.. ثم تجدنا نفرح مع تزفيت كُل شارع حتى لو لم تكن فيه وسائل ذكيّة للتعامل مع الفيضانات، ويُخيّل إلينا أن "المصارف" تفي بالحاجة، ثم بعد هذا كُله نجد (أنفسنا) نغرق، ونسأل أنفسنا: لماذا بتنا نشهد الفيضانات مع كُل "مَطرة"، ولا نعي أن جعل مُدننا كُتل صمّاء هي أحد أهم أسباب تحوّل المدن إلى "جُزر حراريّة" صيفاً وبركٍ من الماء شتاءً.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
عندما نتأمل مُدننا وقرانا اليوم، نجدها قد تحوّلت إلى كُتلٍ خرسانيّة صماء غالبًا، فلا حواكير في أكثر المنازل ولا مساحات خضراء عامة.. ثم تجدنا نفرح مع تزفيت كُل شارع حتى لو لم تكن فيه وسائل ذكيّة للتعامل مع الفيضانات، ويُخيّل إلينا أن "المصارف" تفي بالحاجة، ثم بعد هذا كُله نجد (أنفسنا) نغرق، ونسأل أنفسنا: لماذا بتنا نشهد الفيضانات مع كُل "مَطرة"، ولا نعي أن جعل مُدننا كُتل صمّاء هي أحد أهم أسباب تحوّل المدن إلى "جُزر حراريّة" صيفاً وبركٍ من الماء شتاءً.
في سبعينات القرن الماضي، بدأ يتم دراسة العلاقة بين التخطيط الحضري وبين تحسين طُرق تصريف المياه بشكل مكُثف، وقد استمرت المُحاولات لتنضج في الثمانينات حين بدأ الحديث عن Low impact design في الولايات المتحدة الأمريكية لتطوير وسائل لتصريف مياه الأمطار بوسائل بسيطة وغير مُكلفة. في التسعينيّات تبنّت استراليا فكرة التخطيط الحضري الذي يأخذ تصريف المياه بالحسبان منذ مراحل التخطيط الأولى Water-sensitive urban design ، ومع بداية القرن وتحديدًا عام 2002 بدأ العالم بالحديث عن شبكات مستدامة لتصريف المياه Sustainable Drainage Systems، واليوم وفي أيامنا هذه تتبنى الصين واحدة من أهم الأفكار في هذا المجال وهي: المدن الإسفنجية.
مُعظم هذه الأفكار، وإن بدت مسمياتها مُعقّدة للوهلة الأولى، فإنها تعتمد على فكرة أساسيّة؛ بأن نزيد من المساحات النفّاذة للمياه ونزيد من وسائل تخزينها ولو لفترة مؤقتة إلى حين توقف المطر على الأقل، وبكلمات أكثر تخصصًا "تقليل التدفق السطحي Stormwater Runoff" والأولويّة في كُل هذا للأفكار البسيطة المستوحاة من الطبيعة، لا الأنظمة المعقدة.
المدن الأسفنجية
لو عُدنا لآخر الأفكار المتداولة بين مُخططي المُدن والمراكز البحثية، وهي فكرة المُدن الأسفنجية، سنجد الخبراء يتحدثون عن تحويل 80% من مساحات المدن إلى مساحات نفّاذة وقادرة على امتصاص المياه، ثم الاستفادة من 70% من مياه الأمطار، وذلك من خلال تغطية أسطح الأبراج بالنباتات ووجود الأراضي المخصصة للتخزين المؤقت لمياه الأمطار، وكذلك بناء أرصفة تسمح لمياه الأمطار بالتغلغل بداخلها ولا تدفعها نحو الشارع.
المُثير أن كُل هذه الأفكار التي تبدو "مفهومة ضمنًا" قد غابت عن أذهان المخططين لفترات طويلة جدًا، بل إن أكثر المخططين والمهندسين لا زالوا - حتى اليوم - يعملون وفق مبدأ "التخلص بأسرع وقت ممكن من مياه الأمطار"، وينظرون إلى مياه الأمطار الجارية وكأنها "نفايات" كما ينظرون إلى "مياه الصرف الصحي"، ويغيب عن أذهانهم أنها مورد مُهم وثمين، تمامًا كما كان ينظر إليها أجدادنا قبل مئات وآلاف السنين.. باعتبارها "خير وبركة"!
هذا التوافق بين الطرح المعُاصر والقديم، نجده حاضرًا حتى في أذهان الباحثين الذين يعكفون على تطوير فكرة "المُدن الأسفنجية" في الصين. حيث نُشرت عام 2018 دراسة حول الدروس المُستفادة من نظام تصريف المياه في مدينة صينية قديمة؛ وأشارت إلى أن النظام القديم شمل كُل ما يجب أن يشمله أي نظام من التوجيه إلى التنقية والتخزين، وذلك بالاعتماد على مواد "متينة" وكذلك "نفاذة" في بناء برك التجميع والقنوات وكذلك أسوار المدينة التي بُنيت بهدف حماية المدينة من الفيضانات.

بالعودة إلى تُراثنا الفلسطيني، نجد عدداً من الوسائل "المُلهمة" التي يُمكن أن تساهم في تحسين إدارة تصريف مياه الأمطار، وجعل مُدننا بل وحتى قرانا -التي تمر بمرحلة "تحضّر/تمدّن" (urbanization) بوتيرة متسارعة جدًا - أكثر استدامة وأقل عُرضة لمخاطر الفيضانات.
الحواكير والمساحات الخضراء
لطالما اعتدنا أن ننظر للحواكير باعتبارها مصدراً "للأمن الغذائي" من خلال توفيرها احتياجاتنا الغذائية اليوميّة، كما أن للحواكير وأشجارها فوائد جمّة في توفير مساحات مظللة. إلا أن هذه الحواكير لم يُنظر لفوائدها الممكنة في مجال الصرف، وهو ما بات واضحًا اليوم بعد أن تحوّلت ساحات المنازل إلى مساحات صمّاء حيث تم "صبّها بالباطون" أو "تبليطها"، وهو ما يزيد من "التدفق السطحي"، وبالتالي توجيه معظم هذه الكميّات نحو الشوارع وشبكة المجاري/الصرف مما يؤدي غالبًا إلى إخفاقها في استيعاب كُل الكميّات، بما أن الكثير من البيوت تخلّت عن فكرة وجود حدائق/حواكير في منزلها.
بالإضافة إلى مسألة التغلغل، فإن للأشجار والنباتات خاصية مميزة تُعرف بـ النتح التبخري Evapotranspiration وهي تُلخص كميّة المياه التي تُعاد إلى الغلاف الجوي بفضل النباتات. في الرسم التوضيحي التالي، يُمكن أن نرى بشكل واضح كيف أن انعدام المساحات الخضراء و"الحواكير"؛ يُمكن أن يساهم بزيادة التدفق السطحي من 20% إلى حوالي 55% ، وبالتالي زيادة احتمال حدوث فيضانات في الحيز العمراني.

أثر الكثافة العمرانية وانعدام المساحات الخضراء على التدفق السطحي
بالإضافة إلى أهمية الحواكير، فإن موضوع الأسطح الخضراء أو زراعة الأسطح تعتبر من أهم المواضيع المطروحة اليوم وتذهب التقديرات إلى أن السطح الأخضر يُمكن أن يمتص حتى 40% من كمية الأمطار السنوية، بالإضافة إلى أنها تقوم بتخفيف تدفق المياه عند هطول الأمطار بغزارة وكذلك تنقيتها بشكل أولي من الملوّثات.
البرك الشتوية.. من البالوع إلى البيوفلتر
في الكثير من المُدن الفلسطينية، كانت هناك مناطق مُنخفضة يتجنب الناس السكن فيها كما "البالوع" في مدينة البيرة و"المنقاع" في مدينة اللد، وكذلك البِرَك الشتويّة في الكثير من القرى الفلسطينية، وهذه كُلها يُمكن أن نستحضرها ونحن نقرأ عن الـ Pond (برك جمع المياه) وأهميتها في الدراسات والمقالات العلميّة، فهذه البرك تساهم في تخزين المياه، ترشيحها وتغلغلها في التربة وكذلك تنقيتها بشكل طبيعي.
للأسف، الكثير من هذه البرك تم تدميرها دُون الأخذ بعين الاعتبار أهميتها في النظام البيئي وتصريف مياه الأمطار. اليوم يدعو الخُبراء إلى إيجاد هكذا مساحات بطرق ذكية مثل خلق مساحات خضراء منخفضة بحيث يتم استغلالها لتخزين المياه بشكل مؤقت. ويُنصح أن تحتوي هذه المساحات على طبقة من الحصى بسُمك 50 سم، ومن فوقها تكون طبقة للبستنة، كما يُنصح أن يكون أسفل طبقة الحصى ماسورة لتصريف المياه التي لم تتغلغل في التربة.
في نفس هذا السياق، ينصح كذلك بأن الحدائق العامة في المدن تكون مُنخفضة كي يتم توظيفها في تخزين المياه بشكل مؤقت، بالأخص وأن ما يحصل اليوم هو العكس تمامًا حيث يتم التخلص من مياه الأمطار إلى الشوارع المحيطة.
هذا لا ينحصر في الحدائق، فالدوّارات المرورية يُمكن استغلالها كذلك في هذا المجال وتحويلها من مُجرد مكان ذو وظيفة مرورية أو جمالية فقط إلى مكان متعدد الوظائف؛ بما في ذلك امتصاص مياه الأمطار بدلًا من تجمعها في الشوارع.
لزيادة نجاعة هذه المساحات الخضراء، يُمكن إضافة طبقات بخصائص مُختلفة وأنواع مُختلفة من النباتات الخاصة التي تساهم في زيادة نجاعة تنقية المياه من الملوثات.
في هذا السياق نجد الكثير من الدول حول العالم تعتمد نظامًا يُدعى "بيوفلتر" والذي يعمل من خلال توفير سلسلة مراحل معالجة بشكل طبيعي، حيث يتكوّن عادة من 5 إلى 7 طبقات مختلفة. سُمك كل طبقة 1.2 متر وفوق هذه الطبقات تُزرع مجموعة من النباتات ذات الخصائص الفريدة في تنقية المياه وتصل إلى 12 نوع. هذا يُتيح للمياه أن تتغلغل بعد أن تمر بكل الطبقات وقبل أن تصل إلى خزّان المياه الجوفية. هذا النظام قادر على استيعاب 300-400 ملم في الساعة ولذلك يُمكنه استيعاب مياه الأمطار من حارة كاملة. من الجدير بالذكر أن هكذا نظام مُكلف نوعًا ما) 450 ألف شيقل لوحدة بيوفلتر مساحتها 87 متر مربع(.
بالعودة إلى البالوع والمنقاع، نجد عميعاد ليبيدوت وهو أحد أبرز البيئيين الإسرائيليين ينتقد السياسات المائية الإسرائيلية التي توجهت في السنوات الأخيرة إلى الاستثمار بشكل مُذهل في مجال تحلية مياه البحر رغم كُل الآثار البيئية والصحيّة السلبية، بينما تُهمل الاستثمار في تحسين النُظم البيئية التي تساعد في تغذية المياه الجوفية ولا تكلف جُزءًا بسيطاً من المليارات التي أُنفقت على محطات التحلية. هذه النُظم هي "البرك الصغيرة" الطبيعية.
يقول "لبيدوت" في مقالة نشرها: "تخيلوا ماذا لو كان لدينا 100 ألف موقع صغير، كُل واحد منها بسعة 10 كوب. طيلة العام يُمكن لها أن تمتلئ 5 مرات وكل واحد منها يُمكنه أن يغذي المياه الجوفية بـ 50 كوب من المياه. وبالتالي فإن هذه البِرك سوف توفّر 5 مليون كوب للمياه الجوفية".
المؤسف أن الكثيرين منّا، يتابعون السياسات المائية الإسرائيلية بانبهار دُون التأمل في الصور الكاملة، ودون التفكير في مدى الفائدة التي يُمكن أن تكون بإتباع خطوات أبسط و"ارخص" والأهم أنها تُعيد النظام البيئي إلى طبيعته، فهي تقلل سرعة المياه المتدفقة وتسمح بتغلغلها في التربة، كما تقلل انجراف التربة وتُنعش التنوع الحيوي في المنطقة.
آبار الجمع
حتى وقت قريب، كانت آبار الجمع من وسائل الصمود المعتمدة في كُل بيت من بيوت فلسطين تقريبًا، وكان هناك مُتخصصين في بنائها بشكل مخروطي يضمن توزيع الأحمال بشكل متوازن داخل البئر الذي يصل عُمقه إلى خمسة أو ستّة أمتار. ففي بعض المناطق تصل كميّات الأمطار إلى 650 ملم، أي 650 لتر لكل متر مربع، وبعملية حسابيّة بسيطة نجد أن البيوت الذي تصل مساحة أسطحها 100 متر يُمكن أن يجتمع في آبارها 65 كوب من المياه، مُعظم هذه الكميّات وفي المُدن خاصة لا يُستفاد منها ويتم التخلص منها في شبكات الصرف/المجاري.
في ألمانيا ليس هناك اليوم آبار جمع كالتي نعرفها في بلادنا، ولكن يُفرض على السكان ضريبة إضافية إذا كانت مُعظم قطعة الأرض التي يمتلكونها من مساحات صمّاء (باطونية/اسفلت ..)، تصل هذه الضريبة إلى 2 يورو لكل متر مربع سنويا وبالتالي فإن هذا يحثّ الكثير من السُكان على التوجه لمكاتب الهندسة من أجل أن توفر لهم نُظم تصريف وتخزين لمياه الأمطار بشكل مُستدام وآمن تدعى Mulden-Rigolen-Systeme والتي تأتي بأشكال وأصناف مختلفة، وأحدها يمكن أن نعتبره نسخة مُحدّدة من نظام الآبار ، كما هو موضّح في الرسم التالي:

http://equiposdejardin.com/depositos-de-agua-de-lluvia/dep%C2%97sitos-de-agua-de-lluvia
ختامًا، ليس هناك حل واحدٌ سحري للفيضانات، بل هي حلول متعددة ينبغي ملاءمتها بما يتلاءم مع البيئة المُحيطة تمامًا كفكرة المُدن الأسفنجية التي طورها الصينيين. ثم إن الحديث عن الحواكير أو البركة الشتوية أو حتى الآبار وغيرها من التقنيات التي لم يتسع المقال لها هُنا مثل "المصاطب" و"السناسل"، لا يعني بالضرورة العودة إلى صورتها النمطية في أذهاننا، بل يُمكن أن تأخذ أشكالا أخرى بحسب الظروف والبيئة المُحيطة، فالحواكير يُمكن أن تترجم على شكل "زراعة الأسطح"؛ وآبار الجمع" يُمكن أن تتحول إلى نُظم حصاد مياه الأمطار مثل نظم Mulden-Rigolen-Systeme في ألمانيا.