خاص بآفاق البيئة والتنمية
رغم الضيق وحالة القلق والفوضى التي ارتبطت مع غزو جائحة فيروس كوفيد 19 لحياتنا منذ الأول من آذار الماضي، إلا أنها كانت فرصة للكثيرين للتصالح مع الطبيعة والبيئة من خلال ممارسات تعزز قيم جميلة ومستدامة، لا يقتصر أثرها على أصحابها فقط؛ بل تترددُ أصداؤها في فضاءات أوسع في المجتمع المحيط. نستعرض في هذا التقرير بعض المبادرات وآراء نشطاء ببعض مظاهر الصحوة البيئية.
|
|
أحواض ومصاطب زراعية أعدها هاشم السيد من أثاث منزلي مستعمل |
رغم الضيق وحالة القلق والفوضى التي ارتبطت مع غزو جائحة فيروس كوفيد 19 لحياتنا منذ الأول من آذار الماضي، إلا أنها كانت فرصة للكثيرين للتصالح مع الطبيعة والبيئة من خلال ممارسات تعزز قيم جميلة ومستدامة، لا يقتصر أثرها على أصحابها فقط؛ بل تترددُ أصداؤها في فضاءات أوسع في المجتمع المحيط. نستعرض في هذا التقرير بعض المبادرات وآراء نشطاء ببعض مظاهر الصحوة البيئية.
من خربة عطارة (مستعمرة "عطروت" الواقعة بين قلنديا وكفر عقب) شمال القدس المحتلة؛ قرر الشاب المقدسي "هاشم السيد" خريج الدراسات البيئية من جامعة "بن جوريون" في بئر السبع، استغلال ما تعلمه من علوم بيئية وزراعية مستدامة، وذلك خلال فترة الحجر حيث استقرّ مثل الجميع في المنزل، وقرر تجميد جميع حساباته على مواقع وسائل التواصل الاجتماعي والتفرغ لمشروع تعمير أرضه المحيطة بالبيت والتي كانت مهجورة ومهملة إلا من بعض الاشجار المثمرة.
|
|
أريج أبو غوش أنشأت مشروعا تجاريا صغيرا لتصنيع تحف جميلة من مواد معاد تدويرها |
أريج أبو غوش تتفنن في الزراعة باستخدام المواد المستعملة |
الزراعة في منطقة مختلفة عن باقي المناطق
لمنزل عائلة السيد المشيّد على مساحة نصف دونم قبل عام 1967 خصوصية معينة، فمن الجهة الشرقية يتواجد حاجز قلنديا العسكري، ومن الجهة الغربية روائح كريهة صادرة من مكب نفايات عطروت الذي أسّس أصلا بطريقة غير قانونية، ناهيك عن الملوثات المسرّبة من بعض المصانع عديمة الاكتراث بالآثار البيئية الضارة التي تفيض من مجارير الصرف الصحي وصولا للمياه الجوفية، وعلى بعد مئات الامتار؛ يظهر جدار الفصل العنصري الفاصل للقدس عن محيطها، ومن الجهة الشمالية مطار قلنديا المهجور وخنازير برية تعرض حدائق سكان المنطقة للخطر. أما في الشتاء، فتتدفق فيضانات المياه القذرة القابعة في الاتجاه الجنوبي لعبارات تجميع مياه الامطار بإتجاه الشوارع بين البيوت.
يقول الشاب السيد الذي يقترب من الثلاثين عاماً ويعمل في وظيفة مكتبية في القدس: "قررت ان أسافر في رحلة تأملية – روحانية مع الأرض تطبيقاً لرسالة الماجستير الخاصة بي والتي تبحث في دمج الانسان مع المكان وتعزيز شعور الفرد بالهوية والانتماء، وكانت منطقة النقب المأهولة بالتجمعات البدوية الفلسطينية هي المستهدفة، فباشرت باستثمار كوفيد 19 بشكل إيجابي من خلال إحياء أرض العائلة.
|
|
أريج أبو غوش تدور أي شيء قابل للتدوير وتستخدمه للتشتيل |
أريج أبو غوش تعيد استعمال القناني البلاستيكية للتشتيل |
ممارسات مستدامة
يصنع السيد الكومبوست من مخلفات الطعام وأوراق الاشجار والكرتون والأعشاب، وتمكن في فترة الحجر من زراعة العديد من الخضراوات من بذور ذاتية حصل عليها من مخلفات طعامه كـ البندورة، الخس، الفلفل الحار والحلو، الجزر، الكوسا، البطاطا، وغيرها.
قام السيد الذي ترى في بيته كثيراً من قطع أثاث دورّها لأصص؛ بتشييد سياج على مدخل منزله وأرضية من قطع خشبية جمعها من أطراف الطرق، كما صنع طريقا يربط باحة المنزل بجميع اتجاهاته من أحجار من الطبيعة، وعمل على تأسيس نظام تجميع مياه الامطار باستعمال أنابيب وخزانات لم يعد اصحابها يستخدمونها، وأنشأ مصاطب زراعية كتقنية حديثة باستخدام دواليب قديمة، وقام بصناعة زرب كنوع من الحنين للطبخ على طريقة الأجداد.
يأمل السيد بتطوير مزرعته على نظام (الزراعة المائية-السمكية) في البيوت أو المحميات البلاستيكية لتكون محطةً لاستقبال مجموعات وفئات مختلفة لزيادة الوعي الزراعي، من خلال ورشات العمل الارشادية وخاصة للمساحات الضيقة، وأعالي الأسطح والشرفات.
"أشعر ان الروح ارتدت لي حين قمت بإحياء ارضنا المهملة، وأن قدمي على الأرض اصبحت ثابتة وراسخة أكثر، خاصةً أن أرضي محاطة بكل رموز الاحتلال" ختم السيد.
|
|
الناشط البيئي فريد طعم الله في مزرعته بقرية قيرة قضاء سلفيت |
أي شيء مجوف تستخدمه أريج أبو غوش للتشتيل |
تخضير كل ما يمكن تخضيره
أريج أبو غوش، سيدة فلسطينية تملك مكتباً خاصاً في رام الله يختص في مجال الاعلان والتصميم الجرافيكي، استغلت فترة الحجر لتمارس هوايتها (القديمة الجديدة) في اعادة التدوير والزراعة، حيث أنشأت صفحة على الفيسبوك لقوارير وأصص زراعية من مواد معاد تدويرها "أريج الميني جاردنز" أو حديقة صغيرة.
"هذه الصفحة تعبر عن دمجي لهوايتين اعشقهما الزراعة والأشغال اليدوية، حيث ادمجهما مع بعض فتشكلان منتوج فني ينبض بالحياة " تقول أريج.
ما يميز أريج أنها لا تلقي أي شيء مجوّف يمكن ان يحتضن تراباً وبذوراً، فتراها تخضّر كل يمكن تخضيره، من قناني بلاستيكية، أوانٍ قديمة، علب حديدية، علب لبن، أكياس خيش، خشب زيتون وبلوط حيث تقوم بعمل تجاويف فيه، حتى علب القهوة "الانسبرسو" الصغيرة تفرغها من البن وتزرع فيها البذور.
|
|
تحف فنية من مواد أعيد تدويرها في منزل هاشم السيد |
أواني زراعية صنعتها أريج أبو غوش من أوعية معدنية مستعملة |
علاقة أريج -التي يعكس اسمها معنى الرائحة العطرة للزهور- مع الزراعة بدأت من خلال مادة التدبير المنزل في الصفوف الثانوية، ثم تعمقت من خلال منحتها الدراسية لتعلم الطب المخبري في بلغاريا، حيث فُتِنت بقناعة هذا الشعب ونبذه للاستهلاك غير المبرّر، واهتمامه بإنتاج غذائه بنفسه وخاصة في الأرياف، وامتهانه لصناعة الحرف اليدوية بكثرة، مشاهدات كان لها أكبر الأثر على حياتها بعد عودتها للوطن.
كانت صفحة أريج على الفيسبوك، بطاقة عبورها للمدارس، حيث بدأت منذ عام بتعليم نشاطات لا منهجية عبر انتاج أعمال فنية من مواد معاد تدويرها في مدرسة في كفر عقب، حيث لا تركز فقط على العمل الفني بحد ذاته؛ بل الرسالة منه والمتمثلة بالتوعية بضرورة تخفيف الضرر البيئي، وزرع مفاهيم في طريقة التفكير تجعل المستهلك يفكر في كل شيء يستهلكه وأثره على البيئة. كما تتطوع أريج في ذات المجال، في جمعية رعاية الطفل في رام الله عبر استهداف الأطفال وتعليمهم إعادة التدوير وصناعة السماد من مخلفات الطعام.
"انا أؤمن أن الأرض كافيةٌ لطرد أي طاقة سلبية، حتى في قمة تعبي واستيائي النفسي من أمور معينة، أشعر بالراحة حين أمارس الزراعة، فقد تحولت من هواية لنهج حياة امارسه يومياً" تختم اريج.
|
|
زراعة الخضار في حديقة هاشم السيد خلال جائحة كورونا |
سياج حول حديقة هاشم السيد من مواد معاد تدويرها |
اللجوء إلى الأم
يؤكد الناشط البيئي ومنسق مجموعة حكي قرايا على الفيسبوك "فريد طعم الله" لمجلة آفاق البيئة والتنمية، تزايد المبادرات الزراعية والبيئية في فترة انتشار الوباء منذ آذار الماضي، ويبرر ذلك لكون الأرض تمثل بالنسبة للإنسان الأم او الملاذ، وحين يقع الانسان في أزمة فهو يلجأ لأمه، وهذا تماماً ما حدث في الانتفاضة الاولى والثانية والفترات العصيبة التي مر بها المواطن الفلسطيني، حيث كان دائماً يعود للأرض.
كما أشار المزارع والصحفي في ذات الوقت، والذي يملك أرضاً يمارس فيها الزراعة في قريته قيرة في محافظة سلفيت، إلى أن الأزمة المالية التي يمر بها الشعب الفلسطيني جعلت الناس تعيد النظر في طريقة استهلاكهم ما يعتبره أحد ايجابيات الوباء، فخفّ الاستهلاك والترف، وصار هناك صحوة تفكير في البعد الاخلاقي لما يستهلكه الإنسان، فعاد لممارسات صديقة للبيئة مارسها أجداده لقرون، وكسر الحاجز بينه وبين الأرض فأخذ يزرع ويأكل من انتاجه.
|
|
فناجين قديمة تستعملها أريج أبو غوش لزراعة أشتال جميلة |
لينا اسماعيل تعيش حياة متصالحة مع البيئة |
الحنين لتراث الأجداد
الناشطة البيئية ومسؤولة البرامج في مؤسسة دالية للتنمية المجتمعية "لينا اسماعيل" تتحدث بنبرة اطمئنان عن التحولات الإيجابية على الصعيد البيئي في فترة وباء الكورونا، وذلك تفسّره بوفرة الوقت وصفاء الذهن الذي لم يكن موجوداً في خضم الحياة الصاخبة والضاجة بالعمل وتلبية حاجات الأسرة والبيت ما قبل الحجر، ما أتاح الفرصة للتفكير بأمور "جديدة قديمة" فيها نزعة حنين للماضي، فبرزت أسرٌ تعد أكلات الجدات الموسمية والشعبية، وعاد الكثيرون للزراعة وتأمل غذائهم يكبر أمام أعينهم من خلال زراعة شرفتهم وحدائقهم وأراضيهم، وتعمق البعض في طبيعة الاستهلاك والتساؤل الأهم: هل هو ضروري وأخلاقي؟ وصار هناك اعادة نظر في بعض الامور ومنها علاقة الانسان بأرضه وقضيته، واستغلال الأمور المؤجلة والمتروكة، ومنها الأرض والزراعة.
ومن تجربتها الشخصية في حيّها، فقد ظهر تفكير جماعي عزز الروابط الاجتماعية بصورة لم تكن من قبل، فعلى سبيل المثال برزت افكار تدعو لاستغلال الأراضي المتروكة بالزراعة، وبالرغم من عدم تطبيق ذلك عملياً لأسباب تتعلق بالمياه والالتزام الموزع على المتطوعين، الا ان مجرد التفكير ومعاينة الأراضي وبحث طرق انجاح المشاريع أمر لم يكن في السابق. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعناية بالكلاب الضالة، حيث لاحظت لينا بداية حس انساني عالي عبر الاهتمام بالكلاب الضالة واطعامها وتوفير بيت لها.
|
|
مشروع هاشم السيد في مدرسة فلسطينية بصحراء النقب |
مشغولات أريج أبو غوش من مواد معاد تدويرها |
كناشطة بيئية ومتطوعة في أكثر من ملتقى زراعي؛ لا يختلف نمط حياة لينا عن عملها المؤسساتي والميداني، فهي تعيش مع رفيقتي سكن وتمارسن جميعاً سلوكيات صديقة للبيئة، فلا استهلاك للبلاستيك ولا أغذية مغلفة أو معلبات من الخارج، بل التسوق بأكياس قماشية او عبوات من المنزل يتم تعبئتها بالمواد الغذائية، ولا طعام من خارج المنزل بل أكل بيتي، حتى الخبز فقد وجدن مطحنة فلسطينية تنتج دقيقاً من قمح محلي بلدي، وقمن بتصنيع الخبز بانفسهن.
وأكدت لينا أن الصحوة جاءت لدى البعض ما قبل كورونا، من خلال فئة شابة بدأت بالزراعة البيئية عبر تضمن اراضٍ زراعية كتوجه رافض للنظام الحالي الاقتصادي والسياسي، ووإيماناً منهم بأن السيادة على الغذاء هي الطريق للتحرر.
|
|
ممرات أرضية من مخلفات خشبية في حديقة هاشم السيد |
هاشم السيد يسخر دراساته البيئية لمساعدة محيطه السكني، لكنه يبدأ أولا من حديقته |