نظام التنجيع الطاقي... أسلوب متكامل في إدارة الطاقة بشكل عقلاني وذكي
باحثة_وكاتبة متخصصة في شؤون الطاقة_البيئة_التنمية

إن قضايا الطاقة، ما يرتبط بها من خدمات أساسية، وما ينتج عنها من مخاطر تغييرات مناخ ( خاصة قضية ثاني أكسيد الكربون) واستقرار الأسعار، وزيادة فرص العمل، وتحقيق العديد من المنافع الاقتصادية الأخرى، نقلت الحوار من المفاضلة بين الاقتصاد والبيئة؛ منذ سبعينيات القرن الماضي. وأصبح التحدي الأكبر يكمن في إيجاد نموذج يربط بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة.
وكانت غالبية الحلول المقترحة في مواجهة هذه المشاكل تكمن في هجران المصادر الهيدروكربونية (الطاقة الأحفورية) نحو مصادر طبيعية متجددة عبر سياسات الانتقال التدريجي. ورغم ما تتميز به مصادر الطاقات المتجددة من خصائص مختلفة، إلا أن هذه الخصائص أصبحت تعتريها معوقات من الصعب بمكان تجاوزها؛ فالأمر لم يعد مرتبطاً بصعوبات مالية أو تقنية، بل تجاوزته إلى معوقات مرتبطة بالتغيرات المناخية كالغبار والغيوم ومشاكل المياه والرياح، ما له تأثير على الإمكانية الفنية المستقبلية لهذه الطاقات ومدى نجاعتها في تلبية الطلب المتزايد على الطاقة.
ووفقا لهذه العوامل، يقرّ الإجماع الحالي بأن تحسين كفاءة الطاقة مطلوب لتغذية النمو الإقتصادي المتزايد خاصة في أسواق الدول الناشئة التي تعرف ارتفاعاً شديدا في استهلاك الطاقة، وفي الطلب على الموارد، مما يفرض مزيداً من الأعباء على البيئة... لهذا نجد أحد مصادر الطاقة، يمتاز بالقدرة على التأثير الشديد على كافة الأنواع الأخرى من المصادر.
وما هو معلوم، فإن نظام التنجيع الطاقي لا يتدفق كسائل عبر خط الأنابيب، ولا مثل الإلكترونات حول السلك، ولا يمكنك أن تضخه في سيارتك، أو تخزينه في صهريج... بل يسميه البعض نظام الطاقة الخامس، وآخرون يسمونه بالطاقة الرابع، في حين أن كثيرين لا يعتبرونه طاقة أصلا. ولكن من ناحية التأثير فهو مؤثر بلا شك. وهو ما يعرف بنظام التنجيع الطاقي أو إبداع الطاقة_ أي كيفية استخدام قدر أكبر من الذكاء في الإستهلاك، أو كيفية استخدام الطاقة بذكاء_ أي استخدام طاقة أقل للحصول على نفس التأثير بغض النظر عن نوع الطاقة المستخدمة.
فأياً كان الإسم فهو مصدر عالي يرتفع فيه الدخل ويزداد التنقل، لكن الحصول عليه ليس بالأمر الهين وليس بلا مقابل، إنه يتطلب إستثمارا للوقت والمال على حد سواء، فهو يشمل الكثير من التفاصيل الدقيقة والكثير من القواعد التنظيمية.
لذا فقبل التطرق للأبعاد المنشودة من نهج النجاعة الطاقية، سنحدد الخلفية التي قدم فيها طلب ترشيد استهلاك الطاقة، والإطار القانوني والتشريعي المؤطر لها، والمكاسب التي يمكن الحصول عليها.
1. الخلفية التاريخية لترشيد استخدام الطاقة
يمكن تلخيص فكرة ادخار الطاقة، والترشيد في استخدامها والتعامل معها على نحو عقلاني وذكي، من خلال الدراسة التي قدمها عالم الفيزياء أموري لوفينز(Amory Lovins) عبر ما يعرف بـــــ (Negawatt)، كمصطلح مضاد على مصطلح (Megawatt) المستخدم في الأسواق.
في سنة 1976، نشرت مجلة فورين أفيرز(Foreign Affairs) مقالة تتحدى الاقتراحات المريعة التي يستند إليها مخططو الطاقة، تحت عنوان (إستراتيجية الطاقة: الطريق الذي لم يسلكه أحد)، حيث قدم عالم تصوراً لعالم يعتمد كفاءة محسنة للطاقة، وتقنيات متجددة بدلا عن الوقود الأحفوري والطاقة النووية، وذلك قبل أن يبدأ مخططو الطاقة التقليدية يأخذون هذه الطاقات والتقنيات الجديدة مأخذ الجد، كان لوفينز قد شرع في رسم الخطوط العريضة لاقتصاد يقوم على طاقة مستقرة وقابلة للاستمرار.
وفي سياق هذه الدراسة جرى لأول مرة نحت مصطلح نيكاواط (Negawatt)، الذي يرمز إلى تلك الكمية من الطاقة، التي يمكن للإنسان التخلي عن استهلاكها، أي التي يتم توفيرها. وكان ملخص النداء الذي وجهه لوفينز،"أن الكميات الممكن التخلي عن استهلاكها عظيمة، وأن المرء قادر على التخلي عن استهلاك هذه الكميات العظيمة من دون أن يكون مجبراً على التضحية بالمنافع التي يجنيها من الطاقة. وقد كان يقصد هنا أن يتم تزويد المساكن والعمارات بمولدات الكهرباء الصغيرة، كبديل عن توليد الكهرباء والحرارة بكلفة باهظة في المعامل المركزية، لأنه من العبث إنتاج طاقة بكلفة باهظة وتبديد حوالي ثلثي الطاقة المستخدمة في توليد قوة الكهرباء لا لشيء؛ إلا من أجل تزويد مسكن يقع في مكان بعيد من المعمل أو عن الشبكات العامة.
وفي نظره أن يتم تجهيز العمارة أو المنزل بمحرك يعمل بأحد مصادر الطاقة المتعارف عليها، وأن يستغل المرء الحرارة المنبعثة في سياق توليد المحرك للتيار الكهربائي لتسخين المياه سواء لأغراض التدفئة أو لأغراض منزلية أخرى. وهو ما يعرف حالياً بتقنية التهجين، أي مشاركة مصدرين مختلفين أو أكثر من مصادر توليد أو تخزين الطاقة الكهربائية لتأمين التغذية الكهربائية.
وفي نفس الإتجاه، توصلت العديد من المعاهد بألمانيا خلال فترة التسعينات إلى نتائج مشابهة، خاصة معهد فوبرتال للمناخ والبيئة والطاقة، حيث تم تأسيسه كإطار مؤسساتي يسهر على تحليل العلاقة القائمة بين المدخلات من الطاقة من ناحية، والمدخلات من المواد الأخرى من ناحية أخرى، فمن خلال المعطيات والنتائج اتضحت، على نحو جلي، العلاقة المختلفة القائمة بين استهلاك السلع واستهلاك البيئة والطاقة، وثبت أنه بالإمكان خفض استهلاك الموارد الاقتصادية إلى النصف حتى وإن ارتفع المستوى المعيشي إلى ضعف المستوى الحالي، أو بتعبير آخر، أن بالإمكان مضاعفة الرفاهية بنصف ما يستهلك حالياً من الطاقة. كانت أصبحت هذه المعطيات والنتائج الأرضية المتينة لصياغة مقاربات وأساليب نظام الطاقة أكثر نجاعة وفاعلية.
2. التشريعات والإطارات المنظمة لنجاعة الطاقة
يقصد بالنجاعة بوجه عام، القدرة على إحداث تأثير بأسلوب يتضمن قصدية منظمة تمكّن من تحقيق هدف نفعي. وتحدد أيضا كإستراتيجية لتنظيم طريقة العمل والتي تتطلب توفير مجموعة من المستلزمات، وجملة من الوسائل وكذلك التحكم في المجهودات.
لذا يجب عدم الخلط بينها وبين الكفاءة ولا أن يستخدما بالتبادل. فقد تكون استراتيجية ما فعالة ولكنها ليست كفؤاً أي أنها تحقق أهدافاً ولكن بخسارة، وعدم كفاءتها تؤثر سلبا على فاعليتها، من ثم يمكن القول بأن الكفاءة ترمز إلى كيفية إنجاز العمل بغض النظر عن النتائج. بينما الفاعلية أو النجاعة هي مدى تحقيق المنشأة للأهداف المسطّرة، طبقا لمعايير يتم تحديدها مسبقا[5].
أما النجاعة الطاقيّة، هو ذلك الأسلوب المتكامل في إدارة قطاع الطاقة وتأمين خدماتها وتمديدها بطريقة آمنة تخدم المجتمع والبيئة لتشمل جميع مجالات الحياة، في الصناعة، النقل والمواصلات وفي البيت؛ أي ذلك النموذج الذي يربط بين الاقتصاد والمجتمع والبيئة، ويعزز عنصر الأمن ويحقق درجة عالية من الفاعلية... أي كل الإجراءات الواجب إتباعها للحد من الهذر في منظومات الطاقة في مختلف مراحلها بدءاً من محطات تحويل الطاقة وانتهاءً بالأجهزة الطرفية المستهلكة للطاقة.
ومن الدول التي سارعت إلى هذا الأسلوب، نجد الصين وضعت صراحةً كفاءة الطاقة على رأس سياسة الطاقة لديها، مع استهداف مضاعفة الكفاءة. كما وضع الإتحاد الأوروبي هدف للوصول إلى تحسين كفاءة الطاقة بنسبة 20 في المائة بحلول عام 2020. وفي روسيا وضع الرئيس ديمتري ميدفيدف هدفا لخفض كثافة استخدام الطاقة في الإقتصاد الروسي بنسبة 40% بحلول عام 2020. وفي الولايات المتحدة ركزت إدراة أوباما على إستثمارات كفاءة الطاقة بوصفها محرك النمو الإقتصادي.
وأيضا المغرب من خلال القانون رقم 09-47 المتعلق بتطوير النجاعة الطاقية. إذ تم تحديده في المادة الأولى بـــ " كل عمل مؤثر إيجاباً على استهلاك الطاقة كيفما كان نشاط القطاع المعني، بهدف: التدبير الأمثل للموارد، التحكم في الطلب على الطاقة، الرفع من تنافسية النشاط الاقتصادي، الاستعمال العقلاني للطاقة..." وذلك من أجل خلق باقة طاقية متنوعة بين الموارد وإحلالها بالتدريج لبلوغ 52 في المائة بحلول عام 2030.
3. أهم المكاسب الفعلية للنجاعة الطاقية
أحد أسباب الثقة بإمكانات نظام التنجيع الطاقي، يكمن في حجم ما تم تحقيقه بالفعل. خاصة أن البعد الحقيقي في تبني هذا نظام الكفؤ، أنه لا يفرض بالضرورة نوعا معيناً من الطاقة.
فغالبية العلماء يدعون إلى التنوع في توزيع مصادر الطاقة في الشبكة حيث أنها إذا انهارت إحدى الشبكات المزودة فسوف تؤثر تأثيرا يسيرا على الأخرى أو على شبكة الطاقة ككل، ولن يؤدي إلى انهيار شبكات الطاقة وبالتالي تضرر اقتصاد المجتمع بالكل.
خاصة وكما أشرنا سابقا، أن الإعتماد على الطاقات المتجددة لوحدها كمصدر أصبح له معوقات تعود إلى التغيرات المناخية وأيضا الموقع الجغرافي، وبعضها متغيرة ولا يمكن التنبؤ بها إلا بشكل محدود؛ وبعضها له كثافة طاقة مادية منخفضة ومواصفات فنية مختلفة عن الوقود. لذا فغالبية الدول تفضل ذلك المزج الذي يضم تركيبة من المصادر الأحفورية (النفط والغاز والفحم) أو الوقود الحيوي وتدعمه بالمصادر المتجددة (الطاقة الشمسية والريحية والمائية...)، لتفادي تهديدات الانقطاع من خلال مورد احتياطي أو ما يعرف بالطاقة الاحتياطية، هذا النوع من الطاقة يكون غالباً مخزناً في بطاريات كمصدر موثوق حتى يتيح التغطية الكاملة، ويخدم أكثر المناطق النائية.
وهذا النوع يعرف بنظام التهجين، ومن الأمثلة البارزة والمثيرة في هذا مجال نجد وسائل النقل الهجين التي تجمع بين البنزين أو الديزل والطاقة الكهربائية. وجاءت فكرة النقل الهجين في إطار تدارك الأخطاء ومحاولة المزاوجة بين التطور والحفاظ على البيئة، لذلك حاول أصحاب مجال النقل بصفة عامة وصانعو السيارات بصفة خاصة استقاء إلهامهم من الأرض و تصميم سيارات تكون هي الترياق للتنفيس عما يعانيه ويلاقيه كوكب الأرض من زخم وسائل النقل، ونجد أكثر وسائل النقل انتشارا ما تعرف بالسيارات الهجينة (سيارة المستقبل من أجل مستقبل أفضل).
وكما يعد قطاع البناء إحدى واجهات إعمال مفهوم النجاعة الطاقية. والمثال البارز في هذا الإطار ما يعرف بتقنية الطاقة الشمسية السلبية، وهي تعمل على دمج تصميم المبنى مع العوامل البيئية، حيث تتيح احتجاز أو استبعاد الطاقة الشمسية، من خلال تصميم هياكل ومكونات البناء (الجدران والنوافذ، والأسقف وإلى ذلك) يمكن لهذه الاستخدامات أن تشمل تدفئة الفضاءات الداخلية للبيوت والبنايات، وتسخين الماء للاستخدام المنزلي وتوفير الحرارة للمعالجات الصناعية أو البخار لتوليد الكهرباء.
ويثق الخبراء كل الثقة أن استعمال العوازل الحرارية عند بنائها وتصميمها وفقاً للقواعد العلمية التي تتلاءم مع المناخات السائدة، يؤدي إلى تقليل كمية الطاقة المستهلكة فيها مع الاحتفاظ في ذات الوقت بأجواء ملائمة ومريحة داخلها.
والأمر نفسه معمول به في المجال الصناعي، وذلك باستخدام تكنولوجيات متطوّرة، والاستعمال المُعاد للنفايات الصناعيّة والنواتج المرافقة، للتطلُّع إلى إجراء عمليّات إنتاج باستهلاك الحد الأدنى من الطاقة.
وفي الأخير، يمكن القول أن النجاعة الطاقيّة تقوم على مبدئين أساسين، الأول هو أن نحصل على الكثير من القليل، فهي مصدر الطاقة المستقبلي الأكثر أهمّيّة وهي في متناول أيدينا، لذا يجب أن تكون في جميع مجالات الحياة، في الصناعة، النقل والمواصلات وفي البيت... والثاني أن نضع في الإعتبار أن نظام التنجيع الطاقي لا يحكمه إستعمال نوع معين من المصادر بل الأسلوب والطريقة المستعملة هي المحدد الأساسي.
الهوامش:
ثابت عبد الرحمان إدريس: كفاءة وجودة الخدمات اللوجيستية، الدار الجامعية الإسكندرية، 2002
جميلة مرابط: الطاقات المتجددة وغير المتجددة وتداعيات التحول، أطروحة دكتوراة في القانون العام. جامعة سيدي محمد بن عبد الله-كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-فاس،2018.
ظهير شريف رقم 1.11.161 صادر في فاتح ذي القعدة 1432(29 سبتمبر2011) بتنفيذ القانون رقم09-47 المتعلق بالنجاعة الطاقية. صدر بالجريدة الرسمية عدد 5989 (24 أكتوبر2011).
حبيب الحضري: الطاقات المتجددة وعلاقاتها بالتنمية المستدامة، مركز النشر الجامعي، 2009
كولن كامبيل وآخرون: نهاية عصر البترول مجلة عالم المعرفة العدد 307 سبتمبر 2004
دونالد اتكين: التحول إلى مستقبل الطاقة (الكتاب الأبيض)، ترجمة هشام محمود العجماوي، المنظمة الدولية للطاقة الشمسية 2005
نبيلة بروال: النقل والبيئة-السيارات الهجينة- بحث لنيل شهادة الماستر، كلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير، جامعة الحاج لخضر، 2011
الرسوم مأخوذة من كتاب مدخل إلى الطاقة إدوارد. س. كاسيدي: مدخل إلى الطاقة (ترجمة صباح صديق الدملوجي)، مركز دراسات الوحدة العربية، مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية،2007.
Pierre Kohler: L’imposture verte, Paris, Albin Michel. (2007). p378.
Estelle Lacona et jean Taine et Bernard tamain: les enjeux de l’énergie de la: géopolitique au citoyen, édition DUNOD,2009.