خبراء المناخ الذين رصدوا الفيضانات وشدة الأمطار والتدفقات المائية السطحية الضخمة الأخيرة في الوديان والجداول الفلسطينية، مقتنعون بأن وتيرة مثل هذه الأحداث المناخية المتطرفة ستزداد في المستقبل مع تفاقم أزمة المناخ. ما شهدناه خلال الأسبوع الثاني من السنة الحالية كان بلا شك حدثا مناخيا غير عادي؛ وذلك تحديدا من حيث شدة الأمطار خلال فترات زمنية قصيرة. الأمطار الغزيرة والعنيفة خلال الأسبوع الثاني من كانون ثاني الماضي، جاءت بعد نحو أسبوع من موجة مطرية قوية أخرى (وبخاصة خلال الأيام 25، 26 و27 كانون أول 2019). وفي المحصلة هطلت كمية أمطار تراكمية كبيرة، وبخاصة في شمال فلسطين. هكذا كميات أمطار خلال منخفضين متتاليين، بفاصل زمني بينهما أقل من أسبوعين، هي فعلا استثنائية. وبحسب متابعات الأرشيف المطري لمجلة آفاق البيئة والتنمية، تبين أنه منذ بدء القياسات المطرية في فلسطين قبل نحو 80 عامًا (في الأربعينيات)، تم تسجيل كميات مماثلة في شمال فلسطين في حالتين فقط: كانون أول/ ديسمبر 1951 وكانون ثاني/يناير 1969.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تعدُّ كميات الأمطار التي هطلت في فلسطين خلال الأسبوع الأخير من عام 2019 وخلال الأسبوع الثاني من كانون ثاني الماضي، الأكثر شذوذا، منذ بدء القياسات المطرية في منطقتنا. خبراء المناخ الذين رصدوا الفيضانات، وشدة الأمطار والتدفقات المائية السطحية الضخمة في الوديان والجداول الفلسطينية، مقتنعون بأن وتيرة مثل هذه الأحداث المناخية المتطرفة ستزداد في المستقبل مع تفاقم أزمة المناخ.
خلال فترة الأيام الثلاثة بين 8 و10 كانون ثاني الماضي، شهدت العديد من المناطق الفلسطينية فيضانات غير مألوفة، وغرق وتدمير منشآت ومنازل، وبخاصة في قطاع غزة. ما شهدناه خلال الأسبوع الثاني من السنة الحالية كان بلا شك حدثا مناخيا غير عادي؛ وذلك تحديدا من حيث شدة الأمطار خلال فترات زمنية قصيرة. بعض المناطق في شمال قطاع غزة، مثل بيت حانون، جباليا وغزة الرمال شهدت هطولا مطريا بأكثر من 100 ملم خلال أقل من 24 ساعة. وقد تكرر هذا المشهد في مناطق فلسطينية أخرى أيضا. وخلال الثامن من كانون ثاني الماضي تحديدا، هطلت الأمطار الغزيرة المتواصلة دون توقف حتى ساعات بعد الظهر؛ حيث سجل ساحل فلسطين الشمالي (حيفا وما بعدها شمالا) والجليلين الغربي والأعلى والجولان الشمالي كمية أمطار هائلة بلغت 100-130 ملم خلال ساعات قليلة. وقد هطلت كمية مماثلة في بعض مقاطع الساحل الفلسطيني الجنوبي وصولا إلى شمال قطاع غزة حيث بلغت كمية الأمطار خلال ساعات قليلة ما يقارب معدل هطولها طيلة شهر كانون ثاني.
الأمطار الغزيرة والعنيفة خلال الأسبوع الثاني من كانون ثاني الماضي، جاءت بعد نحو أسبوع من موجة مطرية قوية أخرى (وبخاصة خلال الأيام 25، 26 و27 كانون أول 2019). وفي المحصلة هطلت كمية أمطار تراكمية كبيرة، وبخاصة في شمال فلسطين. خلال المنخفضين المتتاليين (نحو 6 أيام) وصلت كمية الأمطار في السهل الساحلي الشمالي إلى نحو 350-400 ملم، وفي الجليل الغربي والأعلى تجاوزت ألـ 400 ملم، بل سجلت بعض مناطق الجليل (خلال ذات الفترة) أكثر من 450 ملم. هكذا كميات أمطار خلال منخفضين متتاليين، بفاصل زمني بينهما أقل من أسبوعين، هي فعلا استثنائية. وبحسب متابعات الأرشيف المطري لمجلة آفاق البيئة والتنمية، تبين أنه منذ بدء القياسات المطرية في فلسطين قبل نحو 80 عامًا (في الأربعينيات)، تم تسجيل كميات مماثلة في شمال فلسطين في حالتين فقط: كانون أول/ ديسمبر 1951 وكانون ثاني/يناير 1969.
وبحسب موقع الأرصاد الجوية الفلسطينية (الرسمية)، بلغت، في أواخر كانون ثاني الماضي، كمية الأمطار التراكمية في بعض المناطق الفلسطينية معدلها السنوي العام تقريبا، وذلك مثلا في بيت حانون (97%) وجباليا (99%)، بل إن الأمطار التراكمية في بعض المواقع الأخرى (في أواخر كانون ثاني) تجاوزت المعدلات السنوية العامة لتلك المواقع، مثل غزة الرمال (102%)، الفارعة (107%)، قلقيلية (104%) وسيلة الظهر (113%). وخلال نحو ثلاثة أسابيع (الفترة بين 11/1/2020 و4/2/2020) ارتفع كثيرا مقدار الزيادة في النسبة المئوية (لكمية الأمطار التراكمية قياسا بالمعدل السنوي العام)؛ فعلى سبيل المثال، بلغ مقدار الارتفاع في القدس 30% (خلال الفترة المذكورة سابقا)، وفي نابلس 29% وفي رام الله والبيرة 28%، وفي جنين 24% (بيانات الأرصاد الجوية الفلسطينية: 11/1/2020 و4/2/2020).
كميات الأمطار الضخمة التي هطلت تحديدا خلال فترة الأيام الثلاثة بين 8 و10 كانون ثاني الماضي تسببت في ذروة التدفق المائي الهائل في الوديان والجداول. في بعض الوديان والجداول تم تسجيل أقوى التدفقات المائية منذ بدء القياسات في أواسط القرن العشرين. لكن، رغم الظواهر المناخية الأخيرة، لا يمكننا الجزم بشكل مطلق أن الأزمة المناخية العالمية هي سبب تلك الظواهر، إذ أن العلاقة السببية للأحداث الجوية الأخيرة (المتطرفة نسبيا) بأزمة المناخ معقدة؛ علما أن العلماء يحللون اتجاهات تفاقم الأحوال الجوية المتطرفة على مدى عقود. ولغاية الآن، لم يحدد بعد اتجاه واضح لتكرار حدوث الأحوال الجوية المتطرفة، بل من المتوقع حدوث ذلك في المستقبل مع تفاقم أزمة تغير المناخ.

غزة
علاقة الأحوال الجوية المتطرفة بأزمة المناخ
يعتقد بعض خبراء المناخ بأن الأحوال الجوية الأخيرة ترتبط أيضًا بأزمة المناخ. وفي الوقت الذي ساد أوروبا شتاء دافئ نسبيًا حتى وقت قريب، إلا أن الوضع كان مختلفًا في مناطق أخرى ، بما في ذلك فلسطين. الطقس العاصف في بلاد الشام وفلسطين يرجع إلى تدفق الهواء البارد إلى منطقتنا والتقائه مع البحر الأبيض المتوسط الدافئ نسبيًا، وبالتالي البحر الأكثر سخونة يغذي السحب ببخار الماء، ما يولد غيومًا مطيرة. هذا العملية الأخيرة هي فعلا نتيجة للتغيرات في التيارات البحرية والهوائية المرتبطة بالتغيرات المناخية.
خلال فترة هطول الأمطار الطويلة نسبيا، في الأسبوع الثاني من كانون ثاني الماضي، كانت شدة الأمطار كبيرة والتدفقات المائية في الوديان قوية؛ لكن ما نتوقع حدوثه في سياق أزمة المناخ هو هطولات مطرية قصيرة وعالية الكثافة، نتيجة لتسخين الهواء وامتصاص كمية كبيرة من بخار الماء الذي يتحول إلى مطر.
وهنا، من الضروري الإشارة إلى أنه، وبسبب حجم البناء الهائل في الضفة الغربية (وبخاصة البناء الاستيطاني)، والكثافة الإسمنتية العالية جدا في قطاع غزة (بسبب الكثافة السكانية المرتفعة)، فإن مساحة الأرض التي تتسرب منها مياه الأمطار آخذة في الانكماش المتسارع، وبالتالي فإن الأحداث الجوية غير الاستثنائية في شدتها يمكن أن تتسبب في فيضانات خطيرة - وبخاصة في المناطق الساحلية.
في الوقت الذي لا يزال من الصعب الربط المباشر بين أحداث الطقس الاستثنائية وظاهرة الاحتباس الحراري في فلسطين تحديدا، فإن اتجاهاً واضحا لتصاعد الأحداث المناخية المتطرفة أصبح سمة بارزة في مناطق مختلفة بالعالم. فأوروبا إجمالا، سجلت أحوال طقس حارة بشكل متطرف خلال فصل الشتاء، بينما تشهد جنوب أوروبا اتجاهاً نحو تفاقم شدة الأمطار في أشهر الصيف.
أظهرت الدراسات في الولايات المتحدة أنه منذ عام 1880 يوجد اتجاه طويل الأجل لارتفاع شدة هطول الأمطار. ولاختبار ما إذا كان الاحترار العالمي يؤثر على مثل هذه الأحداث؛ أعد الباحثون بعض النماذج التي تحوي إضافة ثاني أكسيد الكربون إلى الجو، وبعضها الآخر دون إضافة، علما أن الغاز الأخير يعتبر غاز الدفيئة الرئيسي في الغلاف الجوي. نتيجة هذه التجربة البحثية؛ بينت أن الاحترار العالمي لعب دورا هاما في مثل هذه الأحداث.
خطط تفتقر للإرادة السياسية المستقلة
في المستوى الفلسطيني، يمكننا القول بأن فصول الشتاء أصبحت أكثر بردا وكثافة مطرية في فترات زمنية قصيرة. وفي المقابل، أصبحت فصول الصيف أكثر سخونة وجفاف، وذلك بالمقارنة مع فصول السنة قبل ثلاثين-أربعين سنة. وبحسب خبراء المناخ الدوليين (IPCC)، ستشهد فلسطين، خلال السنوات الخمس القادمة، ارتفاعا بمقدار درجة مئوية واحدة، ونحو أربع درجات مئوية حتى أواخر القرن الحالي، إذ ستهبط كمية الأمطار بمقدار عشرات بالمائة عن معدلها السنوي خلال السنوات الأخيرة. وبالطبع، سينعكس هذا الأمر سلبيا على جميع مناحي الحياة في فلسطين، ابتداء من المياه والصحة، مرورا بالزراعة والتنوع الحيوي، وانتهاء بالطاقة. ولدى اقترابنا من أواخر القرن الحالي، ستشهد المناطق الفلسطينية مزيدا من شح المياه والتصحر وتفاقم سوء الأحوال الصحية الناتجة عن حالات الإسهال والجفاف وبعض الأوبئة مثل الكوليرا.
ورغم أن آثار التغير المناخي في مختلف أنحاء بلاد الشام متشابهة إلى حد كبير، إلا أن الفلسطينيين تحديدا في الضفة الغربية وقطاع غزة أكثر حساسية وعرضة لآثار التغير المناخي بسبب واقع الاحتلال الاستيطاني. فالاحتلال الإسرائيلي يعد أكبر مهدد للتوازن الإيكولوجي والمناخي في فلسطين، كما يتجلى ذلك في الجدار الكولونيالي العنصري، ونهب الأراضي والموارد الطبيعية والمياه والتوسع الاستيطاني المتواصل؛ وبالتالي الافتقار الفلسطيني للسيادة السياسية والوطنية على الأرض والموارد والمياه والغذاء، ما يجعل الفلسطينيين أكثر انكشافا للتقلبات المناخية.
وللمقارنة، انبعاثات ثاني أكسيد الكربون للفرد الإسرائيلي تعد من الأعلى عالميا، إذ تبلغ نحو 11 طناً سنويا للفرد (صحيفة هآرتس، 20/9/2018)، بينما انبعاثات الفرد الفلسطيني لا تتجاوز 0.5 طن سنويا؛ أي أن متوسط انبعاثات الفرد الإسرائيلي تعادل 22 ضعف انبعاثات الفرد الفلسطيني؛ بل هي أكبر من معظم الدول الأوروبية حيث المواصلات العامة والحفاظ على الطاقة أكثر تطورا من "إسرائيل".
يضاف إلى ذلك هشاشة وعجز الحكم الذاتي الفلسطيني الذي لا يتمتع بإرادة سياسية مستقلة تمكنه من العمل باتجاه تخفيف المخاطر المناخية. ورغم ذلك، صاغت السلطة الفلسطينية خططا للسياسات البيئية، كان آخرها عام 2016، وقد ورد فيها بأن السلطة ستخصص 3.5 مليار دولار لخطط التكيف مع التغير المناخي خلال السنوات العشر القادمة. ولم تتضمن الخطط مؤشرات لكيفية الحصول على هذه الأموال!
خلاصة القول، ما لم يتمتع الفلسطينيون بالسيادة السياسية والوطنية على أراضيهم ومواردهم الطبيعية والمائية، فلن يتمكنوا من التكيف الفعال مع التغير المناخي، وبالتالي سيظلون مكشوفين لمخاطر انعدام الأمن الغذائي والمائي.