التنبؤ بالأمطار.. في التراث الشعبي الفلسطيني
نظرة متأنية في الكثير من أمثالنا في التراث الشعبي المتعلقة بأحوال الطقس والمناخ، يُمكن أن نجد لها تفسيرات علمية مثيرة ابتداء من "أيلول ذنبه مبلول" ومرورًا بـ "إن قوست باكر.." وانتهاء بحكايات الرصد من خلال طيور ونباتات معينة.. ثم حتى لو لم تتطابق هذه الادوات مثل "طقس التشريب" مع العلم.. إلا أن هذه الطقوس وما فيها من تفاصيل دقيقة تجعلنا نُدرك أن أجدادنا تعاملوا مع الطقس والمناخ.. بشكل أعمق بكثير من تعاملنا اليوم الذي يقتصv على انتظار النشرة الجويّة، فقد ابتكروا الحكايات والطرائف ولم يكفوا عن التأمل.. بل تأملوا كُل شيء تقريبًا يُمكن أن يساعدهم على تنبؤ الأحوال الجويّة.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
طائر الزرزور |
مع أن أجدادنا لم يعرفوا الأقمار الصناعية ولا الـ"سوبر كومبيوتر" إلا أن ذلك لم يمنعهم من ابتكار وسائل فريدة و"غريبة" للتنبؤ بالأحوال الجويّة، والتي قد تبدو بالنسبة لفئة واسعة منّا مُجرد خرافات تتناقض مع العلوم الحديثة، إلا أن نظرة متأملة ومتأنية في الكثير من هذه الأمثال.. يُمكن أن نجد لها تفسيرات علمية مثيرة ابتداء من "أيلول ذنبه مبلول" ومرورًا بـ "إن قوست باكر.." وانتهاء بحكايات الرصد من خلال طيور ونباتات معينة.. ثم حتى لو لم تتطابق هذه الادوات مثل "طقس التشريب" مع العلم.. إلا أن هذه الطقوس وما فيها من تفاصيل دقيقة تجعلنا نُدرك أن أجدادنا تعاملوا مع الطقس والمناخ.. بشكل أعمق بكثير من تعاملنا اليوم الذي يقتصv على انتظار النشرة الجويّة، فقد ابتكروا الحكايات والطرائف ولم يكفوا عن التأمل.. بل تأملوا كُل شيء تقريبًا يُمكن أن يساعدهم على تنبؤ الأحوال الجويّة.
أيلول ذنبه مبلول
مع أن شهر أيلول ليس من الأشهر المطيرة، إلا أن هذا الشهر يحمل في طياته أخبار موسم المطر، بالأخص في آخر أيامه أو كما يُقال في "ذنبه" حيث تشتهر بين الفلاحين قول "أيلول ذنبه مبلول" كدلالة على أن آخر أيام أيلول تحمل معها شيئًا من المطر، والتي يُطلق عليها عادة "شتوة المساطيح" والتي تكون -حسب الموروث الشعبي- في عيد الصليب الذي يكون في 27 أيلول حسب التقويم الشرقي.
عند النظر في الأمثال الشعبية المتعلقة بالمناخ نجد أن لعيد الصليب حضورًا مميزًا، حيث يرتبط اسمه تارة ببدء موسم قطف الزيتون ويرتبط تارة بالأمطار فيُقال "إن صلّب الصليب.. لا تأمن الصبيب" ويُقال: "إذا ما شتت بعيدنا بنقطع إيدنا" تأكيدًا على أن المطر سيهطل لا محالة في هذه الفترة، بيد أن معطيات هطول الأمطار تشير أن هذه المقولة صدقت في سنوات محددة أو أماكن بعينها، فلو تأملنا معطيات هطول الأمطار في بلاد القدس والجليل في آخر عشرين عاماً، سنجد أنه كان هناك هطول للأمطار في آخر 10 أيام من شهر أيلول ولكن ليس بالضرورة أن تكون في يوم 27 أيلول.
بالبحث أكثر عن تفاعل الناس مع هذه الأمثال، نجد من يزعم أن هذه الأمثال كانت "أكثر صدقًا" في الماضي، بيد أنها لم تعد كذلك بسبب "التلوث" و"الاحتباس الحراري" وهي أمور غير دقيقة بالفعل، فالباحث الألماني "غوستاف دالمان" الذي زار فلسطين قبل 100 عام ونشر موسوعة ضخمة من سبعة مجلدات بعنوان "العمل والعادات في فلسطين" نجده يشير في الجزء الأول (الخريف والشتاء في فلسطين) أنه راقب معطيات هطول الأمطار لمدة 41 عامًا ووجد أنه لم يكن هناك مطر في 36 عامًا منها، ويشير أن الأيام الماطرة في أيلول هي في الغالب بين يومين أو لا شيء، ومعدل الهطول هو 0.8 ملم، مع أنه يشير من جهة أخرى إلى حدث مثير في عام 1878 وصلت فيه كمية الأمطار التي هطلت في هذا الشهر إلى 20 ملم، إلا أنه لم يهطل بعد ذلك مطر في شهر تشرين أول وفي تشرين ثاني حيث هطل 1 ملم فقط، ثم في كانون أول 76 ملم وهي نصف الكمية المتوقعة، وبالتالي لم تكن أمطار "أيلول" بشرى بموسم "ماطر"!
وتعليقًا على التسرّع في ربط كل حالة تأخر للأمطار أو حتى موسم جفاف بالاحتباس الحراري، يقول الباحث جورج كرزم في كتابه "التغير المناخي في الوطن العربي" : "الحقيقة أن موجات البرد القارس والصقيع، بل وانحباس المطر، تعد ظواهر مناخية مألوفة وطبيعية في منطقتنا، منذ آلاف السنين ولم يطرأ عليها لغاية الآن، أي تغير جوهري نوعي غير طبيعي، بل لو أجرينا مسحا مناخيا لمنطقتنا منذ أن بدأت عملية توثيق الطقس سنجد بأنه قبل عشرات السنين كانت الطبيعة أحيانا، تقسو أكثر من المواسم المطرية التي شهدناها في السنوات الأخيرة وهو ما تؤكده الأمثال الشعبية التي تعد بمثابة راصد جوي شعبي".
قوس قزح في الناصرة- جمال كيوان
الندى والتنبؤ بأحوال المناخ
حتى قبل حلول أيلول، كان بعض الفلاحين ينتظرون الأيام الست الأولى من شهر آب وهي ما تُعرف بالـ"الستة الآبيات" لاعتقادهم أن كميّة الندى التي تهطل كل صباح من هذه الأيام مرتبطة بكمية الأمطار في الموسم القادم، والمعادلة بسيطة: "كلما زاد الندى.. زاد المطر، والعكس صحيح" ويستمر الفلاح بعمليات رصد "الندى" وغيرها من الدلائل إلى أواخر شهر أيلول مُبتكرًا طرقاً ووسائل إبداعية للتبنؤ بكميّات المطر التي يُحتمل أن تهطل في كل السنة، بل ويراهن أن بإمكانه أن يعلم أي الأشهر بالذات ستكون كميّة الأمطار فيها أكثر.. من خلال "التشريب"!
وعن طقوس التشريب، يقول الباحث في التراث الفلسطيني حمزة أسامة العقرباوي أن التشريب هو طقس شعبي قديم، والتشريب لغة يعني الإشباع وتشريب الملح يعني "إشباعه بالماء" أما طقس التشريب فله شكل عام وأنشطة متعددة أشهرها وضع أكوام الملح في العراء ليلا وتكون بالعادة 7 أكوام، كل كوم يمثل شهر من شهر 10 حتى شهر 4 وهي الأشهر المطيرة التي تعرفها بلادنا. وذوبان الأكوام أو بعضها يدل على المطر وكل كوم ملح يدلل على مقدار المطر في شهره الذي يمثله.
يشير فريد طعم الله (مؤسس مجموعة "حكي القرايا") أنه يجرب هذه "الطقوس" كل عام، وحسب التجربة التي قام بها لهذا العام فإن التنبؤات الجوية في شهري ١١ و ٣ سيكونان الأكثر مطرا لهذا الموسم، ورغم هذه التوقعات إلا أنه أكد لنا في حديث خاص بأنه ليس بالضرورة أن تتطابق هذه النتائج مع الواقع، ولكن الأهم هو أن نلفت أنظار الناس إلى الموروثات الشعبية والتي تمتد جذورها إلى الفترة الكنعانية وأكثر، ثم نقاش هذه الموروثات ودعوة الناس للقيام بهذه التجارب "العريقة" بأنفسهم، وكل ذلك من أجل إحياء التراث.
من الجدير بالذكر، أن هناك تباين في الأحاديث المنتشرة عن هذا الطقس بين البلدان المختلفة، فالباحث د.أحمد بدر الشريدة يشير إلى عدد من الضوابط لإجراء هذا الطقس، مثل تحديد موعد لها وهو ليلة 22 أيلول (ليلة الاعتدال الخريفي) وأما الملح فيجب أن يكون من الملح الصخري الطبيعي كما ويجب أن يوضع الملح على سطح حجر البازلت الذي لا يتأثر بالرطوبة وأما القبضات فتكون - حسب الباحث - 8 قبضات، كل قبضة شهرًا شتويًا واحدًا، كالتالي: تشرين الأول، تشرين الثاني، كانون الأول، كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان، أيار .
أ7 أكوام الملح في العراء ليلا مرقمة من شهر تشرين أول حتى نيسان للتنبوء بمقدار الأمطار خلال هذه الفترة
التراث والعلم.. هل يلتقيان؟
حتى بين المُهتمين بالتراث، سنجد من يصف هكذا "تجارب" بالتخلف والخرافات ويطالبنا بالعودة إلى العلم والمعرفة، وعمومًا فإن هذه التجارب - سواء صدقت أم لم تصدق - فإنها تشير إلى وسائل إبداعية للتنبؤ بالأحوال الجويّة في ظل غياب الوسائل التكنولوجيّة وأجهزة الرصد المتقدمة، والتي لا تصدق دائمًا هي الأخرى، وهو ما يدفعنا للبحث الدائم عن وسائل أخرى مُكملة أو مُساعدة لعمليّة الرصد الجوي التقليدية.
من بين الأمثال الشعبية البارزة في مجال التنبؤ بالأحوال الجويّة والتي يُمكن أن ترتبط بالعلم هي مقولة "إن قوّسّت من باكر إحمل عصاك وسافر ، وإن قوّست من عشيّه دوّر ع قرنه دفيّه !" حيث نجد أن "قوس قزح" يستخدم كمؤشر على حالة الطقس للساعات القادمة، وفي محاولة لتفسير هذا القول تفسيرًا علميًا يقول الباحث فوزي ناصر حنا : "يظهر قوس قزح من الناحية المعاكسة للشمس إذ يظهر صباحاً في الغرب وعصراً في الشرق، ويدلّ ظهوره على أن درب أشعة الشمس مفتوحة أي لا غيم يحول دون وصول الأشعة ، أي أن السماء صافية" ويضيف موضحًا: "صفاء السماء نهاراً يعني أمرين أولهما وصول أشعة الشمس التي تبعث الدّفء، والثاني انعدام المطر بانعدام الغيم، فيمكننا الخروج إلى حيث نريد !- هذا الشقّ الأوّل ، أمّا في الليل فانعدام الغيم يعني انعدام الغطاء الذي يمنع ارتفاع الهواء الدافئ ونزول الهواء البارد ولأن هذا الغطاء غير موجود ، يتم تبادل الهواء بسرعة مما يؤدّي إلى انخفاض كبير في درجات الحرارة ، فتكون ليلتنا باردة جدّاً !"
بالإضافة إلى ذلك، نجد عدداً من الأعياد المسيحية ترتبط بمواسم الأمطار مثل عيد التجلي عيد الصليب وعيد القديس جورجيوس وكذلك عيد البربارة، وهذا النمط من الرصد، يعتمد على خبرة تراكمية أكثر من أن يكون حقائق علميّة ثابتة ويمكن أن تحصل فترات لا تكون صائبة، بيد أنه بالإمكان النظر إليها كمؤشر أولي، ففي عيد التجلي يُقال: "عيد التجلي بقول للصيف ولي" فعيد الصليب (27 أيلول) يرتبط ببدء موسم المطر وقطف الزيتون، وهناك أمثال كثيرة ترتبط به مثل "إن صلبت خربت" و"لا تقطع العنب للزبيب إلا تيمر الصليب" ، أما عيد القديس جوارجيوس (16 تشرين ثاني) فيُقال: "بعيد اللد اللي ما شدّ يشدّ" وبحسب الباحث فوزي حنا فإن المطر يشتد في هذه الفترة وتوحل الأرض وتصبح الزراعة الشتوية مغامرة، لذا فهذا هو الحد الفاصل بين الزرع الناجح والمغامرة، لذا قيل للفلاح إنه الوقت لكي يعمل كي لا يندم لاحقًا. غالبًا ما ينزل المطر قبل العيد بعشرة أيام (الوسم البدري)، أو بعد عشرة أيام (الوسم الوخري)، أو يكون في اليوم نفسه، وهناك مثل آخر يرتبط بهذا العيد "في عيد لد، يا مطر بيهد يا صيف بجد". في عيد البربارة (17 كانون ثاني) فيُقال: "بعيد البربارة تطلع الميّ من خزوق الفارة" ويعني المثل أنه في هذا العيد يفترض أن يكون المطر غزيرا.
لو تأملنا إحدى ابرز الحكايات التي ترتبط بالطقس فيما يُعرف بـ "ايام العجائز" أو "المستقرظات" حيث يُعتقد أن شهر شباط أزعج عجوزًا، فاتفق شباط وآذار لينتقما منها، فقال شباط: آذار يا ابن عمي.. أربعة منك وثلاثة مني تنخلي الواد على العجوز يغني" والتي تبدو لأول وهلة بأنها "خراريف ختياريّة" أو "خرافات" إلا أنها بنظرة أخرى ليست إلا وسيلة ذكيّة لحفظ تغييّرات الطقس من خلال حكايات لطيفة وهذا الرسم البياني يوضح كمية الأمطار التي هطلت في منطقة كفربرا خلال عام 2009 ويشرح الحكاية علميًا بأبسط وأفضل شكل، حيث نرى كيف أن كميّة الأمطار في آخر أيام من شهر شباط كانت غزيرة جدًا، وكذلك في أول أيام من شهر آذار!
الأمطار في الأيام المستقرظات
من الباصول والديدان إلى الزرزور ونجم سهيل
ليست كميّات الندى والمواسم الدينية وحدها الإشارات التي يعتمدها الفلاح في الرصد الجوي كما تؤكد الباحثة نادية مصطفى البطمة في كتابها "فلسطين الفصول الأربعة" بل هناك مؤشرات أخرى مثل ظهور الديدان الاسطوانية واسمها الشعبي "أبو مغيط" حيث تبحث عن الرطوبة والماء في التربة، كما ويعتقد الفلاح أنه عندما يرفع البقر رأسه ويشم الهواء القادم من الغرب فإن معنى ذلك اقتراب المطر، وحصول العواصف في أول العام الزراعي نذير بنزول المطر.
تضيف الباحثة أن ظهور نجم سهيل في المساء يعتبر مؤشراً على بداية موسم الأمطار فيقول المثل: "لإن طلع سهيل لا تأمن السيل لو أنه طال الليل" و "طلع سهيل آوي الخيل" وهناك استدلالات يستدلون بها على جودة الموسم، نتبينها من بعض هذه الأمثال الشعبية وقد طور الفلاح الفلسطيني خبرة علمية وتطبيقية في استقراء الأحوال الجوية وربطها بحركة النجوم.
تشير الباحثة كذلك أن الفلاح الفلسطيني يستفيد من معاينة بعض أنواع الطيور المهاجرة للرصد الجوي حيث يقول المثل "سنة الزرزور احرث في البور" والزرزور طير يهاجر إلى بلادنا في التشارين (بعد موسم الزيتون) وإذا جاء هذا الطير يعني أن السنة سنة خير وبالإمكان زراعة كُل الأرض حتى الصخرية منها وغير المستصلحة. أما بالنسبة لطائر القطا فهو لا يُبشر بالخير غالبًا، فظهوره كما يوضح المثل الشعبي "في السنة القطا بيع الغطا" أي أن السنة ستكون دافئة والأمطار قليلة، بالإضافة إلى أن هذا الطائر يأكل كثيرًا من الحب المبذور لدرجة أن هناك مثل شعبي آخر يثبط من عزيمة الفلاح قائلًا "سنة الحمام افرش ونام"!
إلى جانب كُل هذه "الأدوات" فإن فريد طعم الله يلفت انتباهنا إلى نبته مميزة كانت تستخدم في الرصد الجوي وهي زهرة لها أسماء كثيرة مثل العيـرون أو الباصـول او العنصـل او الغيصلان، وهي زهرة خريفية تظهر في بداية شهر أيلول تستخدم في موروثنا الزراعي الفلسطيني للاستبشار بقدوم المطر ولذلك تسمى "عود الري" أو "مبشرة الشتا" ، وكلما كانت أكثر طولاً، كلما كان متوقعاً أن يكون موسم المطر أكثر غزارة.
ختامًا، رغم كثرة الأدوات والوسائل والحكايات والأمثال التي نوقشت في هذا التقرير، إلا أن هذه كلها ليست إلا جزءاً بسيطاً من هذا العالم الغني والمثير.. بل والمُلهم جدًا لنا اليوم، ليس للتأكد أو نفي وقوع الأمطار، بل لمحاولة ابتكار وسائل رصد أكثر "إبداعا" مستقبلًا.. فرغم كُل التطور العلمي والتقني.. إلا أن العالم لا زال بحاجة للكثير من الإبداع في هذا المجال.