رئة العالم تحترق من التجارة… ورئتنا من "العمران"

حبيب معلوف
إذا سلمنا بالحقيقة العلمية التي تقول إن غابات الأمازون التي تحترق منذ فترة تشكل رئة العالم، فهذا يعني أن بلداً كلبنان -لديه أيضاً حرائقه التي تلتهم غاباته ومساحاته الخضراء بشكل مستمر وخطير- معني أيضا بمثل هذه الحرائق.
صحيح أن بعض التقارير العلمية شككت مؤخرا في أن هذه الغابات تنتج 20% من الاوكسيجين العالمي، إلا أن نصف هذه النسبة ليس بالأمر القليل أيضاً على صحة البشرية، خصوصاً إذا ما ربطنا ما يحصل لهذه الغابات - ولغابات العالم عموماً - بقضية تغير المناخ العالمي التي باتت تهدد حياة كل فرد على هذا الكوكب. انطلاقاً من ذلك، على الحكومة اللبنانية أن تأخذ موقفاً محدداً مما يجري وتراجع سياساتها واستراتيجياتها في هذا الاتجاه.
وتجدر الإشارة أن حرائق الغابات، لا سيما في هذه المنطقة الأكثر غنى بالتنوع البيولوجي، ليست جديدة، إلا بعددها وبمستوى قوتها والإهمال والتأخر في البدء بمعالجتها. فحتى أواخر آب الماضي كان عدد الحرائق الذي ضرب هذه الغابات قد تجاوز 80 ألف حريق خلال عام 2019، وهي تشكل زيادة أكثر من 90% بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي! كذلك حصل تأخر واضح في إدخال الطائرات والجيش للبدء بعمليات المعالجة في البرازيل.
وإذا ربطنا ما حصل بموقف الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو وبتصريحاته في حملاته الانتخابية لناحية عدم اعترافه بقضية تغير المناخ (أسوة بالرئيس الأميركي)، وبوعوده الانتخابية السابقة بفتح هذه الغابات أمام شتى أنواع الاستثمارات كالزراعة وتربية المواشي، إضافة إلى الصناعات الاستخراجية بسبب غنى هذه المنطقة بالمعادن الثمينة والنادرة، ومطالبته بمنح المزارعين الحق في حرق الغابات وتحويلها لزراعة المحاصيل، وفي طليعتها الصويا التجارية... لعرفنا أن موضوع احتراق هذه الغابات وأي غابة أخرى في العالم بات لا ينفصل عن صحة الأنظمة السياسية والاقتصادية، ولا عن صحة الكوكب أيضا.
وتجدر الإشارة إلى أن مفهوم السماح بالإحراق من أجل البستنة، بات مفهوماً عالمياً، إذ باتت تتقارب النسب التي تتحدث عنها التقارير الدولية وتلك المحلية، كمثل القول إن معظم الحرائق في العالم تصنف "مفتعلة" بنسبة تصل إلى ما بين 80 و90%. فكما تحرق الشركات الكبرى في العالم الغابات من أجل مشاريع زراعية تجارية كبرى، كذلك يتم افتعال الحرائق عندنا كل سنة من اجل البناء والاستثمار وما يسمى "التوسع الحضري".
لم يكن مستغرباً اهتمام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بهذه القضية أثناء انعقاد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع في بلاده في آب الماضي. ففرنسا كانت مهتمة جداً بتطبيق اتفاقية المناخ التي أبرمت في باريس عام 2015 وبمدى التزام الدول بها. ولطالما كان موضوع إدارة الغابات والمطالبة بوقف القطع العشوائي وغير النظامي في صلب مفاوضات المناخ التي تحصل كل عام بين الدول، إذ تعتبر الغابات، مثل المحيطات تماماً، خزاناً لثاني أكسيد الكربون المتهم الرئيسي بتغير المناخ. ولطالما تم التحذير، من خلال التقارير الدولية ذات الصلة، بأن قطع الغابات (لأهداف شتى) يتسبب في إعادة إفلات غازات الكربون في الجو وانتقاص القدرة على امتصاص هذه الغازات الخطرة، وبالتالي زيادة الانبعاثات المتسببة في الاحتباس الحراري.
إعادة النظر
لذلك، كان بين البنود المتداول بها دائماً بين الدول، كيفية تمويل حسن إدارة الغابات وحمايتها من القطع الجائر والحرائق، كمطلب دولي لتخفيف الانبعاثات المتسبّبة في تغير المناخ. وسجّلت أكثر من مئة دولة تعهدات (بعد مؤتمر باريس) بإجراءات تتعلق بتغيير استخدام الأراضي وحماية الغابات كجزء من مساهمتها الوطنية لمكافحة تغير المناخ. ولطالما كانت الدول المحتضنة لأهم الغابات في العالم، مثل البرازيل والبيرو وبوليفيا والباراغوي… تطالب بمساعدات وتعويضات مالية من الدول الغنية لحماية هذه الغابات. وهذا ما يفسر السجال التاريخي الممتد بين رؤساء الدول النامية وتلك المتقدمة، لا سيما حول "تمويل" سبل التخفيف من انبعاثات الأرض، أو تمويل عمليات التكيف مع قضية تغير المناخ.
وبينما كان بعض التقارير يتهم البلدان الفقيرة وسكانها المحليين بإزالة الغابات، ويقترح عليها أساليب حياة بديلة، كانت تقارير أخرى أكثر عمقاً، تعتبر أن المسبب الرئيسي لإزالة الغابات ليس الطرق القديمة والتقليدية في العيش، وان اعتمدت على الإزالة أو الإحراق لأسباب زراعية صغيرة أو لصناعة الأخشاب، بل مشاريع الزراعات التجارية الكبيرة، حين تأتي شركات كبرى بمشاريع زراعية كبرى لأصناف محددة مطلوبة عالمياً، مثل الصويا أو الذرة، وتستغل الغابات والدول والسكان المحليين معاً.
فبحسب تقارير الفاو عن وضع الغابات في العالم (لا سيما تقرير العام 2016)، فإن الزراعة التجارية لكبريات الشركات العالمية في المناطق المدارية وشبه المدارية وأميركا اللاتينية، مسؤولة عن نحو 40 إلى 70% من إزالة الغابات، بالمقارنة مع 10% بسبب التوسع الحضري!
وهذا ما يفسر أسباب تعثر إيجاد السبل من أجل حماية الغابات ومحاربة قضية تغير المناخ. وهذا ما يؤكد مجدداً أن موضوع حماية الغابات مرتبط بالأمن الغذائي العالمي، إضافة إلى الأمن الصحي، وأن هناك حاجة إلى إعادة النظر في اقتصاد السوق وقواعده، إذا أردنا أن نحمي المناخ والغابات وديمومة الحياة على هذا الكوكب.
وبما أن لبنان ملتزم رسمياً باتفاقية باريس المناخية، عليه في هذه المناسبة أن يراجع حساباته لناحية طرق حمايته وإدارته لمساحاته الخضراء. وإذ يعتبر التوسّع الحضري في لبنان أخطر من التوسع الزراعي وأخطر من حرائق الغابات، وقد يتسبّب شق الطرقات وإنشاء المشاريع الاستثمارية التجارية المسماة "سياحية" في تشتيت الغابات والأحراج وقطع تواصلها وتدمير الوديان بالردميات، إضافة إلى الدمار الذي أحدثته سياسة السدود السطحية المدمرة… فعلى وزارة البيئة في الحكومة اللبنانية أن تعيد النظر في إستراتيجيتها وتعرض على الحكومة توجهات أخرى معكوسة تماماً في المشاريع المسماة إنمائية، لحماية ما بقي من مساحات خضراء والإسهام فعلاً في مكافحة تغيّر المناخ المحلي والعالمي، قبل أن نفقد رئتنا في لبنان كلياً ونختنق.