مقولات تُجِمع على أن المطبخ مختبرٌ علمي فيه البيولوجيا والكيمياء والفيزياء، حيث يتمازج النار والهواء والماء والأرض والتاريخ على نحوٍ مدهش. حقاً الطعام ابن بيئته ومطبخ القدس خير ما يُضرب فيه المثل.. مدينة ذات طعم عجيب، يوقن المرء إن ارتحل عنها أنها فوق قانون الزمان والمكان، وكأنها حقيقة ضمنية يقطع بها كل من عاش في أكنافها، وكأن ذلك الطعم مجبول بأسرارٍ تعجز نظريات العلم عن تحليلها. مجلة آفاق البيئة والتنمية تسرد تفاصيل حبٍ بشأن طعام القدس على لسان من عاشوا التجربة.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
 |
كعك القدس- تصوير محمد دويك |
يملك الطعام قوة لا نتوقعها، وليس من قبيل المبالغة أن يوصف الطبخ بأنه "واحدٌ من أعظم الاحتفالات في الحياة". ويقال أيضاً أن المطبخ بمثابة القلب الذي فيه تُسجّل ذكريات العائلة فيضفي إلى البيت روحاً.
مقولات أخرى تُجِمع على أن المطبخ مختبرٌ علمي فيه البيولوجيا والكيمياء والفيزياء، حيث يتمازج النار والهواء والماء والأرض والتاريخ على نحوٍ مدهش.
حقاً الطعام ابن بيئته ومطبخ القدس خير ما يُضرب فيه المثل.. مدينة ذات طعم عجيب، يوقن المرء إن ارتحل عنها أنها فوق قانون الزمان والمكان، وكأنها حقيقة ضمنية يقطع بها كل من عاش في أكنافها، وكأن ذلك الطعم مجبول بأسرارٍ تعجز نظريات العلم عن تحليلها.
مجلة آفاق البيئة والتنمية تسرد تفاصيل حبٍ بشأن طعام القدس على لسان من عاشوا التجربة.
مِنيو صباحي
مدينة لن تجد في جمالها مهما شرقّت أو غرّبت، استثنائية في هديتها الصباحية التي تكررها كل يوم عبر صنف من المخبوزات يأخذ الشكل الطُولي؛ مزين بالسمسم؛ مذاقه لا يستطيع أمهر الطهاة في أي مدينة أخرى تقليده؛ يتكون من ثلاثة مقادير دقيق وماء وخميرة؛ لا يحتوي على سكر ولا زبدة ولا شوكولاتة ولا فانيلا؛ ماؤه فيه سر، أما رائحته سلوا عنها شجر الزيتون؛ هل عرفتم ما هو؟.. إنه الكعك المقدسي الذي يصفه الإعلامي المقدسي أحمد البديري – مراسل قناة الغد- على طريقته.
حاولنا أن نجمع بعضاً من قطع هذه الأحجية؛ فقال البديري لــ "آفاق البيئة والتنمية": "الكعك المقدسي من الأطعمة التراثية التي تحتفظ بعبقها في الشكل والنكهة والرائحة؛ قاموس كلماتي يعجز عن وصف سحره؛ تفاصيله المميزة فقط يُحَسن تحضيرها بالمدينة العتيقة؛ وحين يُخبز خارج أسوار البلدة يفقد مسمى "كعك القدس"، مع أن المسافة لا تتعدى مئات الأمتار؛ إلا أن الاختلاف يظهر واضحاً في الطعم؛ يحاولون عبثاً تقليده؛ وقد تناولته من قبل في عمّان والخليل وكان لا يمت بصلة لكعكنا".
خبزٌ اُشتق اسمه من شكله الهندسي المشابه للكعك الذي يُحضّر في الأعياد؛ وهذا الشكل الطولي لا أحد يتقنه خارج البلدة القديمة؛ سألت البديري "تُرى هل السر في أن الكعك يعانق الأرض فيأخذ من عبقها؟".. ابتسامة مفعمة بالحماس تقفز إلى صوته مجيباً: "أحد أسراره تكمن في مكان خَبزه؛ فهو يُخبز فقط في أربعة مخابز بالبلدة القديمة تتنافس فيما بينها، أخبرني مرة أحد الخبازين أنه يُخبز على حطب خشب شجر الزيتون، مما يعطيه نكهة رائعة، وتلك المخابز قد يصل عمرها إلى 700 عام".
وهكذا نجحت المخابز في الحفاظ على الطعم نفسه على مر السنين؛ معزياً السبب إلى أنها شُيدّت خِصيصاً لهذا الغرض؛ أي لم تكن في الأصل بيوتا أو دكاكين؛ مضيفاً في السياق نفسه: "حدثتني جدتي قبل موتها: "الكعك الّي اشتريته "يا ستي" اليوم هو الكعك نفسه الّي كنت أحضره لجدتي لما كنت صغيرة".

أحمد البديري مراسل قناة الغد في مدينة القدس
ويخبرنا الإعلامي الهائم في حب المدينة المقدّسة والذي يُفضل أن يشتري من مخبز معين يستطيب طعم كعكه، متحفظاً على اسمه، أن "الكعك يُخبز فجرا ويوزع صباحا خارج البلدة وبعد الثانية عشر ظهراً يتوقف بيعه؛ فالكعك يؤكل فقط صباحاً".
وثمة سر إلهي يوضحه بالقول: "لا تظنوا أن السر في الطحين أو الخميرة، ماء القدس يحتوي على نسبة عالية من المعادن مما يمنح جودة للكعك، لماء مدينتنا تركيبة متفرّدة لا توجد في بقية الأماكن".
"ماذا عن وجبة الإفطار التي يأكلها المقدسيون إلى جانب الكعك؟"، يحكي البديري: "هذا "المنيو الصباحي" في القدس القديمة يتكون أيضاً من بيض مشوي؛ حين يدخل المرء المخبز لشراء الكعك فإنه يحضر بمعيته البيض الذي يكون قد دخل إلى التنّور نفسه؛ ويأكل معه أهم ما في الوجبة "الزعتر المالح" ويبلغ الزعتر فيه نحو ثُلث والملح ثلثين؛ وهذا الأمر له علاقة بحالة الفقر التي عاشها الناس في الماضي؛ ففي هذه الوجبة البسيطة يتوفر البروتين والأملاح اللازمة".
ويشوقّ الراغبين بشد الرحال إلى "الأرض المباركة" على النحو التالي: "حين تخرج من المخبز لا بد وأن تشتري فلافل والذي يختلف عن المعتاد؛ فهو يأخذ شكل القرص وقوامه سميك وحشوته ثقيلة ولا يُقرمش؛ إذن لائحة الإفطار المشبعة تتكون من كعك وبيض وفلافل وزعتر مالح؛ ولو أننا طلبنا الوجبة نفسها في أي مكان آخر ستكون التكلفة أعلى".
 |
 |
تجفيف التين المقدسي |
|
لوز وتين
انتقلت مي خضر قاقيش إلى الإقامة في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عشرين عاما، إلا أن ذلك لم ينسها شوارع القدس العتيقة التي سيظل قلبها ينبض بها مع أنها تجوّلت في أنحاء شتى من العالم.
في مدراس البلدة القديمة نشأت، وكان من طقوسها اليومية الشراء من العربات التي تجر الكعك والفلافل والحلويات، أما المخلل والزيتون وبائع الجرائد فتلك أعذب ذكرياتها.
تقول مي لــ "آفاق البيئة والتنمية": "بعد انتهاء اليوم الدراسي كنت أذهب مع عمتي إلى بسطات الفلاحات لجمع المونة بما يجود به الموسم من ورق العنب والكوسا والبطيخ، وكانت حديقة بيتنا هي سبب تسمية مدونتي "لوز وتين" Almond and fig
كان جدي رحمه الله مهندسا زراعيا وزرع بيديه أشجارا كثيرة في بستاننا من أهمها شجرة اللوز، صدّقي أو لا.. أني ابتسم كلما تذكرّت جمال نوارّه وثمره الذي يكرمنا في الربيع باللوز الأخضر، يا لها من ذكرى رائعة. أما شجرة التين لطالما لعبنا تحت ظلالها "بيت بيوت" وتسلقنا عليها، بيئة بهذا السخاء حملّتني أمانة أن استثمر في مطبخي خيرات الطبيعة التي تربيت في أحضانها".
 |
 |
الثوم الطازج مع البطاطا |
الحمص المقدسي |
في عمر الثامنة عشر سافرت الشابة الفلسطينية إلى أمريكا لتلتحق بالجامعة، وفي كل زيارة إلى مسقط رأسها كانت أمها وجدتها تضعان في حقيبتها زيتاً وزعتر وملوخية ناشفة؛ وكم تشتاق لمنظرها حين كانت تفردها الجدة في شرفة البيت، ناهيك عن الفريكة الخضراء البلدية حين تنشفّها.
"إن شغفي نحو طعام بلادنا ليس لأجل الطعام نفسه بل للذكريات التي تربطنا بتلك الأكلات، لأجل الرائحة التي تذّكرنا ببيت العائلة، حين أحضرّ المسخن أو المفتول أعيد ذكرياتي إلى فلسطين، لأن ما تحتويه هذه الوصفات من مكونات تربطني بالقدس رغما عن المسافات".. تقولها مي وهي تتنهد بآهات الغربة.
وحسب تجربتها، يفتح الطعام الطريق أمام نسج الأحاديث مع الجيران والأصدقاء سواء كان لهم معرفة مسبقة بالطعام الفلسطيني أم لا، وتشرح كلامها: "عندما ترسل أمي الزعتر لي وأحضّر منه المناقيش وأعطي جيراني وأحكي لهم عن موعد تحضيرها وطريقتها يخلق ذلك رابطة حميمة، ثمة قاعدة: لا أحد لا يحب الأكل، مما يجعل من الطعام وسيلة فعّالة للحديث مع الناس عن مكونات محددة وأسباب طهينا لأطباق بعينها، وجميعها أحاديث تقود إلى حضارتنا وبيئتنا وتاريخنا".
تأملّت صورة في مُدونة مي تُظهر فيها يدين مجعدّتين تحملان طبق المسلوعة، صورة فيها حكاية شعب، تتابع سردها: "حين أقدّم طبقا لشخص أجنبي أكون مَعنية بتحضيره من مكونات مصدرها فلسطين، حتى الأساليب القديمة في الطهي أحاول إحيائها، في ظل استبدال الأيدي العاملة بالماكينات، يهمني بشكلٍ ما أن أوثّق الأدوات التي استخدمتها جدّاتنا في بعض الأطباق".
 |
 |
الزيتون المقدسي المخلل |
الطريقة التقليدية لحفظ اللبنة في الزيت |
مونة الفلسطينيات لا مثيل لها
باستمرار؛ تزور مي قاقيش فلسطين بصحبة أبنائها حتى يتمسكوا بالأرض وبرائحتها وبطعامها، حيث تسكن عائلتها في بلدة الرام- قرية تقع إلى الشمال من مدينة القدس، فيما تستعد حينها للائحة طويلة من التذوق بدءاً من الفلافل والكنافة وأكلات الشارع، ومروراً بأكلات أمها، وليس انتهاءً بالسوق الشعبي، ومحال بيع البهارات التي تغريها بجلب تشكيلة كبيرة منها.
وعلى سيرة البهارات، يبدو أن تميم البرغوثي اختصر المشهد في بيت شعر: "في القدس رائحةٌ تُلَخِّصُ بابلاً والهندَ.. في دكانِ عطارٍ بخانِ الزيتْ، واللهِ رائحةٌ لها لغةٌ سَتَفْهَمُها إذا أصْغَيت".
وتضحك أثناء حديثها: "أملأ حقيبتي بالزعتر المحضّر على يد جدتي التي لا تنفكّ عن إهدائه لكل أفراد العائلة، كما أن جدتي "تزرّق" ورق عنب من "عريشة" بيتنا بعد حفظها في عبوات بلاستيكية، وبالتأكيد "بزر البطيخ" له أولوية في حجز مكانه بما أني مولعةٌ به".
 |
 |
المسلوعة المقدسية |
باذنجان مقدسي محشي |
ومهما بحثت في أمريكا عن أنواعٍ جيدة من السماق والمفتول والزيت والزيتون، فإنها لا تجد مثلها في فلسطين، لذا تحرص على جلب المكونات "الفريدة" من وطنها الأم، على سبيل المثال: قد تجد المفتول في الأسواق الأمريكية إلا أن ما يكون مُحضّراً على يد الفلسطينيات الريفيات له نكهة أخرى، وفقاً لها.
وعما يحمله الطعام الفلسطيني من خصائص، تؤكد أنه يستغرق وقتاً في التحضير لكن نتائجه بديعة في "لّمة العيلة"، محاولة توعية المتابعين لديها على مواقع التواصل الاجتماعي أن بعض الوصفات تحتاج إلى وقت وخبرة مثل المحاشي، ويسعدها أن ترى نساءً من ثقافات أخرى تحاولنّ تقليدها، مثل صبية من فيتنام حضرّت الملفوف والمحشي مع أبنائها، "أكلات من هذا النوع صعبة بلا شك على الجيل الجديد وتستلزم أدوات خاصة ومهارة في الحفر، كان إنجازاً جميلا أن أثير إعجاب الآخرين بأطباقنا، وحماسهم لتجريبها".. تقفز فرحةٌ من صوتها وهي تتحدث.
ترى مي أنها محظوظة بإقامتها في دولة تجمع من كل قطر أغنية، من أوروبا الشرقية وأفريقيا وغيرها من الشعوب التي تجلب جزءا من حضاراتها معها، ففي ولاية شيكاغو التي تقطنها؛ يعيش الكثير من البولنديين الذين يهتمون بحفظ الخضراوات بطريقة المخللات، مثل الملفوف والخيار تماما كما يفعل أهل فلسطين.
وتعرب عن فخرها بأن مونة الفلسطينيات لا يوجد لها مثيل على صعيد البهارات، والخضراوات والأجبان والألبان والفواكه المجففة والمربيات مثل المشمش والتين، ناهيك عن اللبنة المدحبرة التي تُحفظها في زيت الزيتون، مشيرة إلى أن خزانة المونة الموجودة في بيتها؛ هي نفسها التي في منزل عائلتها.
وطبقاً لكلامها فإن من المكونات التي تضفي لأطباقها لمسة رائعة زيت الزيتون والسماق، والليمون والثوم والنعناع.

سلة مي قاقيش العضوية
لا أحد يمكنه سرقة القصص
الطهي الذي اتخذته مي هواية وسنحت لها من خلاله فرص عمل مثل تطوير الوصفات وتصويرها، منحها الجرأة لاقتراح مبادرة تكللّت بالنجاح بإطلاق هاشتاج Aprilsforfoodarab؛ إذ يُعد شهر إبريل/ نيسان هو موعد احتفال للعرب في أميركا، ومن هنا فكرت من منطلق أن الطعام لغة مشتركة بين الناس؛ الأبيض والأسود، العربي والأجنبي، وبالتالي هو موضوع شيق للتواصل بين أشخاص من كافة أنحاء العالم، موضحة: "عبر هاشتاج أطلقناه قبل عام؛ نجحنا في تشجيع الراغبين للحديث عن طرق الضيافة واحتفالات الطعام والحلويات وما الذي تعنيه بعض الأصناف الشعبية في تراثهم، مشروعي بالمختصر منبر لأي إنسان يود رواية قصص عن بلاده، ربما هي قصص صغيرة لكنها تعني الكثير للمغتربين.
تشرح ذلك بالقول: "مثلا الحمص الذي يباع بكثرة في أميركا، له قصة عند الفلسطيني الذي لا ينسى كيف كان يصف أمام المحال العتيقة في طابور يوم الجمعة لأجل أن يظفر بصحن منه، ومن هنا تأتي أهمية التوثيق لأن أكلنا يُسرق، وأنا أقول قد يكون الطعام سهلا في سرقته لكن لن يستطيع أحد سرقة القصص، ونحن الوحيدون الذين بوسعنا المحافظة عليها عن طريق روايتها".
 |
 |
مي قاقيش |
جدة مي قاقيش |
وفي سياق آخر تبتكر مي مذاقات جديدة كلما عادت من جولة في الحسبة أو السوق الشعبي، لأنها تطبخ من المكونات المتوفرة في موسمها والتي تلهمها بأفكار لأطباق مميزة، فاليقطين لا يتوفر بحجم صغير كما في فلسطين، وبالتالي لا تحشوه بالطريقة المعهودة، مما يفتح الخيارات على أفكار غير مألوفة، وإذا ما لمحت فاكهة أو خضار أو نوع بهار جديد لا تتردد في شرائه حتى لو لم تعرف عنه الكثير، فيما تبحث في طرق استخدامه عند من جربوا، وفي كل ذلك تتبّع فضولها لاستكشاف مزيد من المكونات.
وتعزف مي على أوتار حكمة تستحق التوقف عندها: "الأكل ليس فقط لنشبع البطون، إنه تعبير عن ذواتنا، وتجربة حقيقية إن تناولناه بكافة حواسنا وراعينا فيه طريقة التقديم الجذابة والطعم الشهي، وفرصة ثمينة لأحاديث تتجاذب الأسرة أطرافها على مائدة واحدة".
وفي نهاية حديثها تؤكد أن للطعام الفلسطيني بهجة ترتبط بإحياء التراث، ففي عيد الفصح تحّضّر الكعك والمعمول، وفي موسم الزيتون نتشارك مع أبنائها في دقه بالحجارة، وعند تحضير المسخن تحكي لأولادها كيف كانت جدتها ترّق المطبق بزيت الزيتون على طاولات كبيرة، وهكذا تحيي الذكريات في الجيل الجديد.