كان الفلاح الفلسطيني قديما سيد قراره، لا يحتاج مساعدة من أحد ولا يطلبها، من أجل استمراره في عزف سمفونية الحياة المنسجمة مع الطبيعة ومع وعيه الباطني، إلا من أقرانه الفلاحين ضمن منظومة العلاقات الاجتماعية التعاونية المتآزرة المتآلفة. بتلك المعارف، وذاك الانسجام استطاع الاستمرار والبقاء والتقدم، حتى اعترف بقدراته العدو الإسرائيلي، القادم من بلاد الغرب المتقدم. فها هو ڤولكاني (إلعازاري ڤولكاني، الذي سمي على اسمه معهد ڤولكاني الإسرائيلي)، في كتابه "مزرعة الفلاح" الصادر عام ١٩٣٠، يتحدث عن تجارب قام بها في معهد التاريخ الزراعي والطبيعي، وقارن بين الأساليب الزراعية الغربية، التي جاء بها المستوطنون اليهود الآتون لاستعمار فلسطين، وبين الأساليب الزراعية التي طورها الفلاح الفلسطيني لتأتي النتائج بتفوق الأساليب الفلاحية الفلسطينية.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية

عوامل كثيرة أدت إلى تراجع القطاع الزراعي الفلسطيني، وعوامل أدت إلى فقدان المعارف الزراعية المتوارثة، التي طورها الأجداد عبر مئات السنين. تلك المعارف جاءت من تجارب عملية، لكنها كانت تعبر عن حالة انسجام بين الإنسان وبين الطبيعة، معارف تدفقت من وعيه الباطني، ليعزف بها سمفونية حياة فلاحية منسجمة مع طبيعته، القائمة على البساطة، وإيجاد الحلول من محيطه القريب.
تلك المعرفة، التي ذابت وتبخر الكثير منها في العقود الخمسة الأخيرة، لتحل محلها "معلومات" مفروضة، تم إسقاطها على المزارع والفلاح، سلخته عن المعارف، التي بناها الأجداد بخبراتهم ومعارفهم، المرتبطة بالمكان وما حوله وما يؤثر به. حينها كان الفلاح سيد قراره، لا يحتاج مساعدة من أحد ولا يطلبها، من أجل استمراره في عزف سمفونية الحياة المنسجمة مع الطبيعة ومع وعيه الباطني، إلا من أقرانه الفلاحين ضمن منظومة العلاقات الاجتماعية التعاونية المتآزرة المتآلفة.
بتلك المعارف، وذاك الانسجام استطاع الاستمرار والبقاء والتقدم، حتى اعترف بقدراته العدو الإسرائيلي، القادم من بلاد الغرب المتقدم. فها هو ڤولكاني (إلعازاري ڤولكاني، الذي سمي على اسمه معهد ڤولكاني الإسرائيلي)، في كتابه "مزرعة الفلاح" الصادر عام ١٩٣٠، يتحدث عن تجارب قام بها في معهد التاريخ الزراعي والطبيعي، وقارن بين الأساليب الزراعية الغربية، التي جاء بها المستوطنون اليهود الآتون لاستعمار فلسطين، وبين الأساليب الزراعية التي طورها الفلاح الفلسطيني لتأتي النتائج بتفوق الأساليب الفلاحية الفلسطينية.
بعد استعمار كامل فلسطين من قبل الحركة الصهيونية، بدأت الزراعة الفلسطينية تتأثر بشكل كبير بالعلوم الزراعية الدخيلة، ففقدت الكثير من أصالتها وفُقدت الكثير من المعارف الزراعية المتوارثة، إضافة إلى فقدان الكثير من المحاصيل البلدية، نتيجة فقدان بذورها، وصولاً إلى الوقوع بالكامل تحت تأثير الزراعة الكيماوية الدخيلة، مع كل ما صاحبها من استخدام للبذور الهجينة ولاحقاً المعدلة وراثياً بالترافق مع الاستخدام المكثف للكيماويات الزراعية من أسمدة ومبيدات.
لقد دخل المزارع الفلسطيني في الدوامة، دون إرادته، بل وقع تحت تأثير عمليات ممنهجة، أظهرت بريق الزراعة الكيماوية وجعلته يتخلى عن معارفه طوعاً، ليستبدلها بوصفات جردته من إبداع تطور عبر أجيال. وتسلح المروجون لتلك الأساليب الزراعية بمقولات حول ضرورة تعظيم الإنتاج، بهدف "القضاء" على المجاعة (وهي مجاعة متزايدة، تظهر تضليل كبير يمارسه المروجون للبذور المعدلة وراثياً وما يصاحبها من استعمال للكيماويات)، وكذلك "ضرورة" إتباع تلك الأساليب لمواجهة ظاهرة التغير المناخي، مع العلم أن نفس هذه الأساليب الزراعية مسؤولة عن نحو %50 من أسباب التغير المناخي، فكيف لأساليب مسؤولة عن هذه الظاهرة بشكل كبير، أن تكون أداة مواجهة لتجليات ظاهرة التغير المناخي؟ إن مثل هذا التضليل لا يصدقه إلا الأغبياء كما يقول أينشتاين الذي قال: "من الغباء محاولة حل مشكلة بنفس الأدوات التي أدت لحدوثها".
التحول لإسفنجة
لم يكن الفلاح وحده من وقع ضحية تلك الأساليب، بل كل من كان له علاقة بالقطاع الزراعي، وتحول الكثيرون إلى أدوات في يد الجهات المسيطرة على مدخلات الإنتاج وعلى التكنولوجيا المتقدمة، وصولاً إلى الترويج لتكنولوجيا "الزراعة الدقيقة" من قبل ذوي الاختصاص ومن مؤسسات كثيرة عاملة في التنمية الزراعية!!! هذه الزراعة المعتمدة على الأقمار الصناعية والتكنولوجيا ونظام GPS. لقد تحولنا كما الإسفنجة، تمتص كل سائل لو كان ماءً، زيتاً، نفطاً …، دون التدقيق في النوع والأهمية وقبل كل ذلك الحاجة. يبررون ذلك بالحاجة للتحكم في كميات الري والأسمدة وتوقع الآفات، للقيام بالرش قبل حدوث الآفة، لكن الغاية الأساسية هي تعميق تبعية المزارع وإفقاده لحريته التي كان يتمتع بها في السابق، عندما كان حراً في اتخاذ قراراته ماذا يزرع وكيف ومتى وينتج حاجاته ويخزن بذوره، مستمداً كل ما يحتاج كي يزرع وينتج بيته ومن محيطه أو من بستانه وحيواناته.
لا يعني ما تقدم رفضاً للتقدم، فالعلوم الزراعية المحضة، قادت إلى توسيع المعرفة وإلى اكتشافات ومعلومات تتعلق بالتربة والنباتات والحشرات والتعرف على العناصر الغذائية اللازمة والاحتياجات المائية، وهناك علوم زراعية واكتشافات هائلة في مجال الزراعات الطبيعية بطرقها وشعابها المختلفة والمتنوعة، وما زالت هذه الاكتشافات مستمرة. لكن ما يعنيه ما تقدم هو ضرورة التمحيص فيما نريد إدخاله، وما نريد تقديمه للزراعة والمزارع الفلسطيني، والأهم من ذلك ما يمكننا تقديمه كفلسطينيين هدية معرفية للمحيط العربي ولمنطقة الهلال الخصيب وربما أكثر. والسؤال الذي نحتاج لطرحه على أنفسنا: هل يمكننا أن نقدم شيئاً مميزاً ليعرفنا الآخرون به؟! والمقصود بشيءٍ مميز، شيء مبني على معارفنا المتوارثة وما طرأ عليها من تطوير، خدمةً لأهدافنا التحررية وانعتاقنا من الاعتمادية.
إحياء المعرفة
بعد ما تحقق من إنجاز في مجال الزراعات الطبيعية وبناءٍ للقاعدة المعرفية، وتحديداً في الزراعة البيئية على امتداد الوطن وانعكاس ترددات هذا الإنجاز إلى خارج حدود وطننا، بعد سنوات طويلة من الجهد والتجريب الذي بدأ من تسعينيات القرن العشرين واستمرار بناء المعرفة الممتدة والمتواصلة الآن وستتواصل في المستقبل، هذه المعرفة وتجليات تطبيقاتها العملية في الحقل، وانجذاب فئات مختلفة لهذه الأنواع من الزراعة، بما في ذلك مجموعات شبابية ونسوية، رغم كل محاولات التشكيك البائسة بجدوى هذا النمط من الزراعة ومحاولات التشويه، الناتجة عن عدم المعرفة بهذه الأنماط الزراعية، أو بسبب تعارض بعض المصالح أو بسبب كسل البعض ورفضهم الخروج من دائرة الراحة والانطلاق نحو تحدي الذات، بتجربة شيء لم يقرأوه في كتب الجامعات ولم يسمعوه من أساتذتهم، بعد كل ذلك يمكننا أن نطرح أن رسالتنا الزراعية للخارج يجب أن تحمل معاني إنسانية عميقة، تعبر عن جوهرنا، المعاكس والمعارض تماماً لما يقدمه الاستعمار الصهيوني، والذي يهدف من خلاله إلى فرض كل سيطرة ممكنة، وتعزيز حضوره على الجبهة العالمية من خلال "الزراعة التكنلوجية"، التي يتحكم بِعُقَدِها.
وقد استطاع تعزيز هذا الحضور من خلال الإنجازات التكنولوجية في الزراعة، التي يتحدث عنها كثرٌ في العالم، وتستدعي حالة انبهار عند الكثيرين منا. وإذا أخذنا جانب التكنولوجيا المتقدمة، فالفرق هائل بيننا وبين العدو، وهذا الفرق يجعل من عدم الحكمة محاولة منافسته على الساحة الخارجية ونحن في وضع الآن لا يسمح لنا بهذه المنافسة. الشيء الوحيد الممكن هو أن نكون ناقلين للتكنولوجيا، وليس مبتكرين لها، وهذا يعني أن نصبح أدوات ترويج لتكنولوجيا الكيان الصهيوني ذات البعد الاستعماري، الهادف للسيطرة على العقول والجيوب في آن واحد، وبالتالي فهي تكنولوجيا زراعية خالية من البعد الإنساني.

الزراعة الإنسانية
نستطيع أن نقدم منهجاً مختلفاً على الساحة المحلية والخارجية، منهجاً ذو أبعاد إنسانية، اجتماعية صحية، اقتصادية وبيئية، منهجاً يعزز الاستدامة ويسمح بالإنعتاق من سيطرة الشركات على جيوب فقراء المزارعين، ويعزز من صمودهم في حقولهم ويجعلهم قادرين على الاستمرار في عملهم الزراعي وإنتاج الغذاء، ويبعدهم عن الارتهان للبنوك وما يصاحب ذلك من خسارة الأرض، كما هو حاصل في بلدان كثيرة على هذا الكوكب.
نعم نستطيع، لأننا نتقدم في هذا المجال بخطى واثقة وحققنا نجاحات على الصعيد المحلي وخارج حدود الوطن، وتشهد على ذلك الإنجازات الموجودة على الأرض بالأعداد المتزايدة ممن يمارسون ويتبنون فكر وفلسفة الزراعة البيئية في فلسطين وتطبيقاتها على الأرض.
نحن شعب تحت استعمار خبيث وذكي، يعمل على طمسنا وإظهار تفوقه التكنولوجي علينا في كل الميادين، ليجعل منا مجموعة بشرية فاقدة للثقة بنفسها، ومرة أخرى فالحكمة تستدعي عدم منافسة العدو في ميدان يتقن فيه فنون القتال والمراوغة، بل أن تخلق لك ساحة منازلة تتفوق فيها عليه بما تقدمه للإنسانية، ميدانٌ سلاحك فيه "رسالتك الزراعية ذات المعاني والقيم الإنسانية".