مُخلّفات الأضاحي.. مُنذ مُعاذة العنبرية إلى معمل التكرير الحيوي للمخلفات في مكّة المكرمة!
تؤكد الأبحاث من جديد أن المخلفات التي تقتلنا بروائحها في عيد الأضحى وهي تُلقى بشكل غير مسؤول في الطبيعة وعلى أطراف المُدن والقرى، يُمكن أن تتحول إلى كنوز نستفيد منها جميعًا، إما كسماد عضوي للمحاصيل أو كوقود ينتج الكهرباء، وغير ذلك من الحلول العبقرية التي فصّلتها لنا مُعاذة العنبريّة قبل 1000 عام.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
من قرأ حكاية مُعاذة العنبرية التي دوّنها الجاحظ في كتاب البُخلاء قبل أكثر من 1000 عام لا بُد وأن يُدرك حجم "التراث التقني" الذي خسرناه مع مرور الأيام، فمُعاذة العنبرية لم تكن مُحاضرة ولا باحثة ولكن بفطرتها ونباهتها أدركت أن الله لم يخلق شيئًا إلا وله منفعة ورفضت إلا أن تستفيد من كُل جزء من الأضحية بما في ذلك الروث والدماء، بينما نحن اليوم بكل ما وصلنا إليه من علوم ومعارف لا نستفيد إلا من اللحوم.. فيتحول كُل ما تبقَّ من الأضحية إلى عبءٍ بيئي ليُلوّث الأجواء بالروائح الكريهة والفيروسات الخطيرة، وهي كارثة لا تزال تتكرر في المسالخ والمذابح كُل يوم كما تتعاظم أضرارها كُل عيد، والأكيد أن بإمكاننا أن نمنع كُل هذه الأضرار لو أردنا، ولو تضافرت جهودنا كما سنرى من خلال الدراسات العلمية التي سنسلط الضوء عليها عبر التقرير التالي:
فيروس.. عيد الأضحى؟
الإهمال البيئي الذي نشهده في شوارعنا في عيد الأضحى لا يتوقف أثره على الروائح الكريهة المُنبعثة من الدماء والمخلفات المُلقاة بشكل عشوائي، فقد يكون أقوى بكثير. في عام 2015 نشر فريقٌ من العُلماء دراسة مثيرة حول الإجراءات الوقائية من فيروس CCHF خلال عيد الأضحى ويُعتبر هذا الفيروس من أكثر الفيروسات ارتباطًا بهذا العيد بسبب إهمال شروط السلامة خلال عملية الذبح، وهو مُنتشر في بلاد آسيوية وأفريقية كثيرة، ولكنه ينتشر أكثر في بلاد مثل تركيا والباكستان وأفغانستان، وذلك بفِعل لدغة جنس من القراد يُدعى Hyalomma (الزُّجَاجِيُّ العَيْن)، كما أن تزامن عيد الأضحى مع فصل الصيف يزيد من حدة انتشار هذا الفيروس الخطير.
يُعتبر الدم من أخطر الوسائل المؤدية إلى انتقال هذا الفيروس إلى الإنسان، ولذلك يُمنع إلقاء الدماء في الأنهار ومجاري المياه، كما ينبغي التخلص من الدم وبقيّة المخلفات بشكل صحي من خلال عمليّات المعالجة الهوائية (الكومبسوت) واللاهوائية (البيوغاز) أو حتى الدفن الصحي.
التكرير الحيوي.. في الحج!
في عام 1990، أصيب عدد من العاملين في المذابح في مِنى في فترة الحج بفيروس CCHF، وكان هذا سببًا كافيًا للبدء في تنظيم أمور الذبح من خلال مذابح تراعي الشروط الصحيّة اللازمة، ولكن ومع تزايد أعداد الحجيج وازدياد عدد الأضاحي، فقد ازدادت كميّات مُخلفات الذبح مما جعل فريقاً من الباحثين في جامعة الملك عبد العزيز بدراسة فكرة إنشاء معمل تكرير حيوي لمُخلفات الذبح وقد نشرت هذه الدراسة في عام 2016.
بسبب توافد المُعتمرين والحجاج على مكّة طيلة العام فإن حوالي 2400 طن من النفايات تصل إلى المكبات يوميا.. أما في فترة الحج فقط تصل هذه النفايات إلى حوالي 4600 طن يوميًا. نسبة كبيرة من هذه النفايات تتسبب بها جلود الأضاحي، وبحسب الدراسة فإنها تصل إلى 50% من النفايات، هذا غير المُخلفات الأخرى مثل العظام والدماء والشحم التي لا يستفاد منها غالبًا وتطمر في المكبات وتذهب هباءً منثورًا.. بل وتسبب أضرارًا بيئية جسيمة بسبب عدم معالجتها.
في الدراسة، يقترح الباحثون خُطة لإنشاء معمل تكرير حيوي يعتمد على مجموعة من الحلول الحديثة لكل أصناف النفايات التي تشكل عبئا بيئيًا على المكبات في مكّة المكرمة، مثل معالجة الدماء ومخلفات الطعام بطرق المعالجة اللاهوائية وإنتاج البيوغاز منها، حيث يتوقع انتاج 180 مترا مكعبا من الغاز لكل طن من بقايا الطعام. ويحتوي هذا الغاز على طاقة حرارية تقدّر بـ 6.3 كيلوواط ساعة لكل متر مكعب. أما بالنسبة لمعالجة الجلود، يقترح الباحثون أن تتم معالجته وفق تقنيات الوقود البديل RDF الذي يتم انتاجه من مزيج من النفايات التي تحتوي على كميّة عالية من الطاقة مثل النفايات البلاستيكية والورقية، كما يتم إضافة الجلود إلى هذا المزيج بنسبة صغيرة لضمان شروط السلامة البيئية.
يُشير الفريق إلى أن وجود هذا المعمل لن يكون ممكنًا إلا بتضافر جميع جهود المسؤولين وأصحاب القرار، فالمهمة صعبة ولا يُمكن للعلماء والباحثين إنجازها دون حاضنة مجتمعية تدعمهم، وفوق هذا يؤكد بأن المسألة ليس لها فوائد بيئية فقط، بل إن الأرباح التي قد تعود على بلاد الحرمين بسبب هكذا مشروع يُمكن أن تصل إلى حوالي 750 مليون ريال سعودي سنويًا.
بدون تعقيد.. حلول بسيطة للأرياف!
مُشكلة الأفكار والمشاريع الضخمة أنها كثيرة ما تتعرقل لأسباب بيروقراطية أو ماديّة فإقامة معمل تكرير حيوي يتطلب ميزانيّات ضخمة جدًا، ولهذا فإن فريقاً من الباحثين الهنود قرر نشر دراسة في عام 2013 حول إمكانية تحويل مخلفات الذبح إلى سماد عضوي كمحاولة لعرض حل بيئي مُبسط لهذه المُشكلة وقابل للتطبيق بسهولة من قبل أي جهة.
بحسب الفريق فإن أكبر مُشكلة تواجه المذابح هي الدماء والكروش (الأمعاء) ومعظم التقنيات الحديثة لمعالجتها هي غير مُربحة حتى الآن ولا يُمكن تطبيقها في معظم البلاد النامية، إلا أن تحويل الدماء البقرية ومحتوى الأمعاء عن طريق خلطها بنسب مُختلفة ثم تجفيفها باستخدام الفحم ثم تعريضها للشمس وبشكل بسيط جدا سيضمن إنتاج مسحوق سماد عضوي مميز يضمن شروط الاستدامة في المزارع، كما يضمن محصولًا أفضل بالنسبة لمزروعات مثل الطماطم والفلفل الحار (تشيلي) والباذنجان - كما تُشير الدراسة.
مصدر الصورة: Compost Direct
وبالمقارنة مع أصناف أخرى من الأسمدة مثل سماد "ثنائي فوسفات الأمونيم" المستخدم بشكل واسع، فإن هذا السماد المُصنّع من مخلفات الذبح أدى إلى زيادة في وزن المحصول بالنسبة للطماطم حتى 130% و259% بالنسبة للفلفل و273% بالنسبة للباذنجان.
ختامًا، فإن هذه الأبحاث تؤكد من جديد أن المخلفات التي تقتلنا بروائحها في عيد الأضحى وهي تُلقى بشكل غير مسؤول في الطبيعة وعلى أطراف المُدن والقرى يُمكن أن تتحول إلى كنوز نستفيد منها جميعًا، إما كسماد عضوي للمحاصيل أو كوقود ينتج الكهرباء، وغير ذلك من الحلول العبقرية التي فصّلتها لنا مُعاذة العنبريّة قبل 1000 عام.