"ذاكرة فلسطين الزراعية"... حمزة العقرباوي فلاحٌ أصيل يحكي "خُرّيفية الأرض"
الحكواتي الفلسطيني المتجول حمزة العقرباوي، الشغوف بجمع الموروث الشعبي وما ارتبط بالحياة اليومية لا سيما الزراعية في فلسطين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية؛ ينظم جولات معرفية في الأرض الفلسطينية لربط الإنسان بالجغرافيا؛ وهو عضو في إدارة فريق "تجوال سفر" ومنسق فريق "حكايا فلسطين"؛ ويقدم برنامج مصور عنوانه "خُرّيفية"؛ ويكتب في التراث الشعبي وله أبحاث ومقالات منشورة؛ ويُقدم عروضاً وتدريبات حول فن وأساليب الحكي.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
احدى قرى طولكرم عام 1931 |
هو ابن الأرض قبل أن يكون ابن أمه وأبيه؛ أحبَ الحكايات ذات البُعد الجغرافي والتاريخي المُرتبط بالأرض ورسالتها؛ تلك التي تتصل بالموروث الشعبي الجميل؛ من خلال سرد ما يقرأه ويسجله ويجمعه من حكايا وأخبار وطرائفٍ للمتجولين لأجل خلق صلة بينهم وبين المكان فيشعرون أنها ليست مجرد حجارة أو ماء أو جبل؛ وإنما "روح".
إنه الحكواتي الفلسطيني المتجول حمزة العقرباوي، الشغوف بجمع الموروث الشعبي وما ارتبط بالحياة اليومية لا سيما الزراعية في فلسطين، من أمثال وأهازيج ومعتقدات شعبية؛ مُنظِماً جولات معرفية في الأرض الفلسطينية لربط الإنسان بالجغرافيا؛ وهو عضو في إدارة فريق "تجوال سفر" ومنسق فريق "حكايا فلسطين"؛ ويقدم برنامج مصور عنوانه "خُرّيفية"؛ ويكتب في التراث الشعبي وله أبحاث ومقالات منشورة؛ ويُقدم عروضاً وتدريبات حول فن وأساليب الحكي.
يعرّف عن نفسه بطريقته الخاصة في حديث ممتع مع مجلة "آفاق البيئة والتنمية": "أنا فلاح من قرية عقربا قضاء نابلس مواليد 1984؛ أعيش وأتجول وأحكي مؤمناً برسالتي التي تمثل لي رئة أتنفس منها؛ وقلباً ينبض؛ ولا أتخيل نفسي بلا تجوال وبلا حكايا تتصل بموروث الإنسان هنا؛ أسرد الحكايات مباشرة للجمهور بعيداً عن المنصات والقاعات؛ وغالب فعالياتي التي أشارك فيها أو أنظمها طوال العام تكون في الجولات أو الأماكن العامة أو الجبال".
الحكواتي حمزة العقرباوي مع الأطفال
طفولة في الحقل
(لنعد إلى أصل الحكاية.. كيف بنيتَ هذه العلاقة مع الموروث والأرض؟) في هذا الرجل روح بساطة الريف تنتقل بسلاسة إلى أجوبته : "بدأت أشعر بالمسؤولية في وقت مبكر، فكنت أرافق والدي لزراعة الأرض والعمل بها؛ كنت طوال عمري وما زلت محباً للزراعة والأرض".
ويمضي في قوله: "في القرية – تحديداً ما قبل أوسلو- أي قبل موجة الحداثة والنزوح نحو المدنية؛ كان يُولد الطفل فلاحاً، يُولد وهو يرضع مع حليب أمه أعمال الفلاحة ليمارسها منذ الطفولة؛ هكذا وجدتُ نفسي منذ وعيتُ على الدنيا لا تغيب عني مواسم حصاد القمح وجمعه ودرسه وتعبئته في الأكياس ونقله وتخزينه؛ وهل لي أن أنسى أيام رعي الأغنام في العطل الصيفية؛ ياه على مواسم الزراعة في ذلك الحين؛ حين كان أبي وأمي يزرعان الكوسا والبامية والفقوّس والبطيخ والشمام والعصفر والبندورة؛ أتذكر الزراعة والتعشيب وقطف المحصول وبيعه؛ أتذكر التعب والمشقة ومتعة تذوق الثمر".
وتتسع الابتسامة أكثر حين يستعرض هذا المشهد المفعم بالألوان؛ كان من أكثر ما عشقه موسم الزيتون "موسم الفلاحين"؛ لقد لاق به لقب "أبي المواسم"؛ إنه موسم العائلة والبهجة والفرحة والروح والحياة لأبناء القرية؛ ليسترجع أدق التفاصيل في تلك الأيام بدءاً من لحظة نهوضه من فراشه؛ وحين يمضي إلى الأرض على ظهر الحمار ثم يبدأ بقطف الزيتون والإفطار مع رجال العائلة فيما الشاي يغلي على مهل فوق النار؛ وما أحلاها لمّة العائلة وحكايات الكبار وطريف قصصهم في تلك الأثناء.
وهنا يتبرع لإعطاء نصيحةٍ على أصولها من باب الدعابة:
"إذا كنت تريد أن تشرب شاياً حقيقي الطعم ضعه على النار في إبريق مليء بــ الشحبار ( الدغام الأسود)، وليكن تحت "فيّ زيتونة" عتيقة أو في عِرق سنسلة "جدار" قديمة".
|
|
الحكواتي حمزة العقرباوي |
الشاي الشعبي في الرحلات الجغرافية والتراثية |
من وحي ذاكرة نقية
"بعض حبّات التين تكون كالعرائس جمالاً ولذّة تراها تبرق من بعيد وعليها قطر الندى كأنه ثوب الزفاف الجميل، تجذبك الحبّة إليها فتمد يدك وتلتقطها وتهوي بها إلى بطنك لا إلى السلّة، وأخرى مثلها حين تَمدُ يدك إليها تجد أن الطير قد سَرى إليها وفضَّ بكارتها وأكل منها. وهذه الحبّة على رأي أبي (رزقة الطير)، والطير لا يأكل إلا أجود الأنواع وأشهاها.
يَسرد أبي أمامي أنواع التين أثناء تنقلنا بين أشجاره: (عجلوني، موازي، حماري، سوادي، بياضي، خرطماني، خروبي، عسيلي، حماضي ..الخ). غير أني ما زلت أجهل التمييز بينها.
يكمل: "بينما نمضي في الحقول يقف أبي بالقرب من رجم حجارة مُرتفع ومستوٍ سطحه فيقول لي: (هاظا مُسطاح تين) ويشرح لي عنه وعن تجفيف التين عليه أيام طفولتهم في موسم القيظ، وكيف كانوا يأتون لهذه العماير المزروعة بالعنب والتين لأجل النُّطرة، تاركين القرية ومنازلهم فيها لحين انتهاء الموسم مع اقتراب شهر أيلول؛ فيغادرون ومعهم قلائد القطين المجفف ليعلقوه في واجهة البيت خَزيناً لفصل الشتاء".
ما سبق هو مشهد يسرده العقرباوي مستخرجاً إياه من ذاكرة الفلاح الصغير الذي ما زال يعيش بداخله.
|
|
العقرباوي يساهم في حملة تشجيع القراءة للأطفال |
حمزة العقرباوي الشغوف بجمع الموروث الشعبي |
يتحدث عن أجواء الطفولة التي عاشها: "في المجتمعات القروية كان الصغير يحلو له الإصغاء لكل ما يقوله كبار السن؛ تربيت في عائلة ممتدة؛ حين يتحدث جدي وجدتي نتحلّق حولهما؛ حتى لو كان "خرّاف" عادي؛ ذلك أن تواجد الكبار في البيت يضفي عليه دفئا حين يتوافد الأعمام والعمات لزيارتهم؛ مما يخلق لمّة جميلة حول الجد والجدة؛ وبالتالي ينشأ حديث لا منتهي؛ ومن ثم يغدو لدى الطفل ذائقة سمعية بالفطرة".
ويبدو أن الجينات لعبت دوراً في مستقبله، فهو حفيد لرجل كان مرجعا للحكايا والأخبار وما يتصل بتاريخ القرية وهو "الحاج خضر الحمزة"؛ هذه الجينات التي عززها والداه بأمثالهم وسردهم وحكاياتهم؛ لا سيما أن قريته مشهورة بأن رجالها ونسوتها يجيدون "تصفيط الكلام".
هذا الشاب كان يتابع جده وهو جالس يحكي للناس قصصاً من تجاربه في الحياة ويسرد لهم عن عائلاتهم وحدود الأراضي وتاريخ البلدة مما خبره أو سمع عنه من كبار السن الذين لحقهم؛ مما جعل لديه ميولاً فطرياً لسماع للكبار؛ ناهيك عن أن ثقافة القرية- فرضت بشكل صارم الاستماع للكبار بأدب والإنصات لحديثهم دون مقاطعته مما أكسبهم جلداً على الجلوس معهم.
ويشير إلى أن "نساء زمان" عادة ما كن يتحدثن عن الطعام وشئون الأسرة؛ بخلاف الرجال الذين يتداولون قصص البطولة والعمل في الأرض والزراعة؛ ودخل العائلة وقوتها لتتنوع ما بين النهفات والحكايا المضحكة والمبكية.
سألنا "ضيفنا" عن أكثر ما أدهشه أثناء بحثه في التراث المتعلق بأمنا الأرض: "إنه مجال مثير إلى درجة أني لا أستطيع وصفه؛ تعجبت كثيراً كيف ربط الفلاحون الزراعة بالزمن؛ يعرفون جيداً متى يبدأوا في الحصاد؛ متى "يَجدّوا" الزيتون؛ ويحرثوا ويجنوا المحاصيل؛ ويزرعوا الثمار؛ وهذا كله نتيجة خبرةٍ تراكمت عبر الزمن؛ فقد أسسوا نظاما زراعيا محكما مرتبطاً بدورة الأرض والنجوم والشمس والقمر والأمطار والرياح؛ وقد عمدت إلى نشر معلومات شائقة تتعلق بالتقويم الفلاحي وكذلك بالمواسم مثل موسم القيظ و"عيد البربارة".
ومن لا يعرف عن بُربارة سوى أنه مُجرد عيد شعبي يَحتفلُ به المسيحيون؛ فيزيده العقرباوي من الشعر بيتا: "بربارة أيضاً هي ميقاتٌ فَلّاحيٌ لمواسم الزراعة، وهي أكلةٌ شَعبيةٌ تُقدم في الأعياد والمناسبات الاحتفالية لدى فلّاحي فلسطين، وتقوم بِشكل أَساسي على مُكون القمح الذي يعد عمارة بيت الفلّاح، وهو الأكثر وفرةً في السّلة الغذائية".
ويشدد الحكواتي في حديثه على ضرورة رفع مستوى الوعي بالرزنامة الفلاحية التي تبدأ من شهر 9 وتعرف حينها بــ "شتوة المساطيح"- أول شتوة في الموسم- وسميت بذلك نسبة للمنطقة المرتفعة التي يُجففّ عليها التين والعنب كي ينتجوا منها القطين والزبيب؛ مضيفاً: "لكل موسم وقته وأمثاله الشعبية؛ ويُعرف متى تبدأ وتنتهي تفاصيله؛ من المهم جداً أن نبذل جهدنا في كل الفعاليات لتعزيز الذاكرة الفلاحية؛ والأمثال المرتبطة بها".
وفي السياق نفسه يرى أن الأمثال الشعبية تعبّر بشكل واقعي وجذاب عن حياتنا؛ "أحب الأمثال وأنشرها وأذكّر الناس بها؛ إنها أحد مكوناتنا التراثية التي ينبغي أن نحافظ عليها ونتمسك بها؛ ونستمر في سردنا لها" وفقاً لقوله.
|
|
حمزة العقرباوي بين شقائق النعمان |
حمزة العقرباوي حافظ التراث الشعبي الفلسطيني |
ليست "شمّة هوا"
يحاول حمزة أن يترك "بصمة بصرية" عبر اعتماد طريقة لباس تشبه ما كان يرتديه الحكواتي في الماضي؛ كما يتكلم في "العروض" باللهجة المحكية الشعبية؛ يقول: "هذا جزء من الهوية التي أحاول صنعها بشأن شكل الحكاء؛ والحمدلله أني استطعت إقناع جمهوري بالأداء الذي أقدمه".
هو هكذا.. لا يمكن له أن ينزع عنه الثوب الأنيق "ثوب الأرض" وفلاحتها؛ مهما أغرته أجواء المدينة وجلسات المقاهي وأضواء المهرجانات؛ "ما زلت فلاحاً تنبض ذاكرتي كلّما هب موسم زراعي وكلما أبصرت أحدهم يحمل منجله أو فأسه؛ وأشتاق للفلاحة كلما نضج القمح وتنادى الفلاحون للحصاد".. لقد خرجت العبارة حقاً من أعماق قلبه.
ومن خلال التجوال في الأرض يعمل على نشر الوعي بين الناس؛ ويحثهم على عدم قطف الأزهار البرية أو إفساد مجاري الجبال والوديان.
ويستطرد في هذه النقطة: "كما ننظم أنشطة تطوعية في قلنديا، في قرية "جبع" على سبيل المثال هناك على أطرافها بِركة قمنا بتنظيفها ورفعنا الأحجار منها؛ وبكل حب ونشاط ننطلق لإزاحة العوائق في الوديان؛ ونشرح للمتجولين عن أسماء النباتات والأعشاب البرية؛ ونذكر الأماكن الجغرافية".
|
|
حمزة العقرباوي رائد التجوال في فلسطين |
حمزة العقرباوي يتوسط لاعبي طاولة الزهر |
سألناه عن الفرق بين الجولات الاستكشافية التي ينظمها؛ وبين الرحلات المتعارف عليها؛ فكان الجواب: "هي ليست " شمة هوا" بالرغم من أهمية الرحلات؛ هذه الجولات المعرفية تتجلى فيها علاقة الأرض بنباتاتها وطيورها مع الإنسان؛ أسرد فيها تاريخ المنطقة للمتجولين وأملؤ فراغهم أحياناً ببعض الطرائف واللطائف من الحكايات الشعبية التي جمعتها من خلال مقابلاتي في القرية والقرى المجاورة؛ واصطحب فيها عادةً الخبراء؛ كما نلتقي أحيانا بمزارعين ونستخدم البذار أثناء التجوال؛ نحاول قدر الإمكان أن نعزز من قيمة النظافة؛ ولعدة مرات حملنا أكياس القمامة لمسافة طويلة تزيد عن عشرة كيلو متر؛ كما نظمنا ذات مرة جولة مع مجموعة من الأصدقاء في "عين فصايل" رافقنا فيها رئيس بلدية عقربا وأعضاء من البلدية؛ حيث نظفوا العين ومحيطها مع عشرات العائلات في محاولة لإيصال رسالة أن التجول هو علاقة الإنسان مع أرضه ووطنه؛ وأنه ليس من العيب أن يبادر الإنسان إلى تنظيف وطنه حتى لو كان من وجهاء القوم".
وبدأ أول تجوال في عام 2009 برفقة أصدقائه في البلدة ضمن مبادرة "السياحة في عقربا"؛ وبعدها أخذ حمزة يستقبل المجموعات الشبابية والمتجولون والمتضامنون مع سكان منطقة "خربة يانون" و"خربة الطويل" اللتان تعرضتا لاعتداءات وتخريب وتدمير من قبل جيش الاحتلال والمستوطنين.
ثم تطور الأمر لديه عام 2012 حين تعرف إلى فريق تجوال سفر وهو أحد المبادرات النبيلة في فلسطين؛ ووجد أن مفهومهم للتجوال وبناء العلاقة مع الأرض من خلال المشي فيها؛ يتوافق مع ما يؤمن به ويفعله؛ فسارع للانضمام للفريق كأحد المتجولين.
ويعبر عن اعتزازه بمشاركته في إدارة هذا الفريق الآن؛ قائلاً: "جميعنا نؤمن بشعار "تجوّل في الأرض تمتلكها" ولدينا أغنيتنا المفضلة: "حِبّ الأرض وغنّيها، غنيها بتغِنيها وأحلى أرض بكل الأرض؛ الأرض اللي بنمشي فيها".
ويعزز التجوال قيماً عظيمة منها "العونة" والضيافة والتطوع والمبادرة الذاتية؛ علماً أن أعضاء الفريق يتجولون على نفقتهم الشخصية.
|
|
بائعو البطيخ في القدس عام 1900 |
حمزة العقرباوي |
مكتبة فيها نفائس المراجع
ثمة أسرار دفينة في "المحكي" و"المَروي" لم يصل إلى "حقل تنبيشها" أحد؛ وفقاً لتأكيد ضيفنا؛ موضحاً: "الأرض ما زالت تمتليء بقصصها والناس لديهم من الطرائف ما يمكن أن تُجمع وتدون؛ إنه حقل غني؛ وعلى رأي المثل: (الأرض خامرة وحبَها فيها)؛ لقد أدركت أن للحكاية دور فريد له أبعاد تربوية وإنسانية عميقة تسهم في بناء المجتمع الفاضل وتعزيز الهوية الجماعية".
ولا يقتصر على الروايات الشفهية كمصدر لجمع التراث؛ هو الذي بدأ بهذا الجهد منذ عام 2006 وصار ككرة الثلج يتدحرج ويزداد أهمية؛ إذ يلجأ إلى إثراء معارفه بالكتب والأبحاث والمجلات والمراجع التاريخية التي يقتنيها؛ فقد نجح في إنشاء مكتبة عظيمة فتحها أمام الباحثين؛ تشتمل على نفائس المراجع في التاريخ والتراث العربي وعادات الشعوب وأمثالها؛ ولديه وثائق بالغة الأهمية تربو عن 100 ألف وثيقة تغطي فترة زمنية تزيد عن 150 سنة.
ومع ذلك؛ فإن الحكواتي حمزة يؤمن بمقولة (موت رجل كبير بمثابة إحراق مكتبة)؛ في إشارة إلى أن كبار السن بمثابة مكتبة تقوم على دروس الحياة وتجاربها وقصصها وما خبره الناس وعايشوه في القرية؛ وليس معرفة وهمية خادعة يتشدق بها المثقفون؛ حسب تعبيره.
ومن جهة أخرى يدعو إلى إقامة مشاريع بيئية حقيقية تؤمن بقيمة الأرض وتاريخها؛ وتتماشى مع ما جُمع من رزنامة فلاحية وتقويم فلاحي وربطها بالأرض عبر مبادرات شبابية؛ مؤكداً أن التراث لا معنى له إذا لم يكن ذو قيمة حقيقية على الأرض.
ويلفت إلى أن الفلاحين أجادوا بالفطرة استثمار كل شيء دون أن يلحقوا أي ضرر بالطبيعة؛ على سبيل المثال حين كانوا "يجدّون" الزيتون؛ فيلقون الورق الأخضر المتساقط والجذوع إلى دوابهم ليأكلوها؛ فيما الزيتون يأخذونه إلى المعصرة؛ وما ينتج عنه من "الجفت" يستعملونه للتدفئة؛ والزيت للطعام والطهي؛ أما نواة الزيتون تُصنع منها المسابح.
|
|
صناعة المحاريث الخشبية في بيت لحم عام 1900 |
معصرة زيتون فلسطينية أصيلة |
تراث حي وفعال
يحب حمزة الطعام الشعبي إلى درجة أن رفاقه ما بين وقت وآخر يتندرون عليه بابتكار أسماء كتب له مثل "المقامات السامية في طبخ الخضر والبامية"؛ متحدثا عن حبيبته "البامية" بالقول: "هي أحد محاصيل موسم قطاف الزراعة الصيفية؛ تشعر وأنت تأكلها كأنها البلابل مُغردةً على لسانك؛ وصدقَ المثل القائل فيها: "عَ اللسان بلابل وفي المعدة قنابل"؛ فلا عيب فيها إلا ما قد تُحدثه من نفاخٍ وغازات في المعدة؛ أحبها حباً جماً حتى أنه يَصح معها القول: (مراية الحب عامية تخلي الكوسا بامية)؛ ويستغلها النسوة في أغانيهن ضد الرجال المُحبين للتعدد، كما في أغنية:
أخضر يا عرِق البامية .. أخضر يا عرق البامية
جـوزي اتجـوز عليا .. وأنا صـبية وغـاوية
أجـوزي تجـوز عليا ... والحنّـة لـسـا بايديـا
ويتابع حديثه الذي يرسم على وجه كل من يقرأه ابتسامة رائقة: " أنا قليلُ الأكل لكني محب للحديث عن الطعام ولا أنفك عن البحث في تاريخ الطعام وقصصه وأمثاله وأزعم أن لي مشروعا مرتبطاً بالذوق والمذاق الشعبي؛ وأنشر بالعادة قصصا وأمثالا وطرائفا عن الطعام عبر هاشتاغ ( #طبيخ_ونفيخ)؛ أحرص من خلاله على تشكيل بُعد معرفي للناس حول الطعام وفلسفته؛ وامتلك في مكتبي عشرات الكتب التي ألفت في فن الطبيخ والطعام وفلسفته وتاريخه ومذاقه ومدارسه وبعده الحضاري".
ويشرح سر هذا الحب: "مذاق الطعام بلا شك مرتبط بهويتي كفلاح عاشَ في قرية وخبر أصناف الأطعمة فيها منذ كان طفلاً؛ ثم صار متجولاً دائم التنقل والحركة يُشارك الناس طعامهم وشرابهم ويتعرف من خلالهم على أطباق ومأكولات وأذواق وفنون جديدة في الطبخ؛ علماً أني جيد في إعداد بعض الأكلات والنواشف والقلايات التي تعينني في حال غياب زوجتي عن البيت".
أما الفاكهة فهو ينظر لها بعين "حكواتي فلاح"؛ وعلى سبيل المثال: "الصبر والتين والعنب"؛ معقباً: "إنه موسم مبارك في الروزنامة الفلاحية؛ وهو "موسم القيظ" ولا سبيل للنضج واستواء هذه الثمار المباركات إلا بموجة حر تلو أختها
وما هذا الحر إلا رحمة بنا ولأجل نضج الثمار التي ستتكدس في بطوننا فقولوا الحمد لله؛ وعليكم بــ سلة تين أو دبسية صبر أو قرطل عنب".
وجدير بالذكر أنه نشر كتاباً تناول سيرة إمام البلدة في عقربا "إطلالة المنبر" تلاها عددٌ من الدراسات التي لم ينشر غالبها والتي تتناول الفلاحة وعادات القرية والأولياء ومقاماتهم وغيره.
ويضيف: "نحن كمهتمين بالتراث أمام تحدٍ حقيقي؛ علينا أن نحمل التراث بروحه وأن نمضي به إلى عالم الحداثة؛ مهمتنا أن نسبح عكس التيار وأن نقول للناس هذا تراثكم الحي والفعال وليس مجرد حكايات وقصص من الماضي؛ نحن فقط حلقة وصل أو جسر عبور ينبغي له أن يكون آمناً ومريحاً وموثوقاً كي يعبر من خلاله الناس الى هويتهم وتراثهم وماضيهم وإن لم نكن كذلك لن نخدم التراث".
و كــ "مدون للتراث" سيظل قريبا من الحقول التي يعمل بها ( الحكايات والتجوال وحفظ الذاكرة الشعبية)؛ مستعينا بكل الأسلحة الممكنة وعلى رأسها الوعي بما يجمع وبما يتعامل معه؛ بالإضافة إلى الصبر والأناة والإصرار على المضي.
|
|
موسم قطف الزيتون الفلسطيني في أوائل القرن العشرين |
نساء فلسطينيات يقمن بتنقية الزبيب من الشوائب في أوائل القرن العشرين |
هل تعلم أن للصيف مربعانية؟
مراسلة "مجلة آفاق البيئة والتنمية" ألقت نظرة على بعض اللطائف التي تتضمن أمثالاً شعبية ترتبط بالمواسم الزراعية؛ إذ تناولها الحكواتي حمزة سابقاً في مقالاته:
من اللطائف التي يذكرها أن للصيف "مربعانية" مثل فصل الشتاء؛ وموسم القيظ في فلسطين يبدأ من منتصف شهر تموز تقريبًا، وهو المعروف شعبيًا باسم "سَلاق العَجِر" وبه تبدأ المربعانية من 10 تموز حتى 19 آب، ثم تليها الخمسينية؛ ومن حر هذا الشهر قالوا: "في تموز بتغلى الميه في الكوز"، ثم يتبعه شهر آب وهو أيضًا من الأشهر شديدة الحر، ويقال فيه: "آب طباخ العنب والتين"، أي ينضج الثمار بحرارته.
وهناك صيفية ثانية تأتي في الخريف ومدتها اسبوعين تقريباً وعلى رأي المثل الشعبي (بين تشرين أول وتشرين ثاني صيف ثاني). وقد استشهد بهذا المثل حين أمطرت السماء في مايو/ آيار الماضي؛ كما ذكر أن "من قلة هدانا انقلب صيفنا شتانا".
للقمح قداسة واعتقاد شعبي ببركته إلى درجة أنه كان يوضع بالبيت كي يجلب الخير ويبقيه حبيس البيت ونزيله.
تأملوا أيضاً في هذه الأمثال وستخرج الضحكة من قلوبكم: "في أيام التين فش عجين" تعبيراً عن الاكتفاء بالثمار دون الحاجة للخبز، إذ أن الاعتقاد السائد بأن التين "القُطّين" يغني عن الطعام، وتحديدًا عندما يخلط بالطحين والسكر والزيت، وهي الأكلة المعروفة بـ"البسيسة"؛ ومثله:" طلّ البطيخ بطلوا طبيخ "، ويقول فيه: "من جميل طباع الفلسطينيين في أكل البطيخ تقديمه مع خبز الطابون الساخن والجُبنة البيضاء البلدية، وهذه تعتبر وجبة كاملة"؛ إذ يقول المثل: كُل بطيخ وطلّۤع على زنودك، وكُل شمام وطلّۤع على خدودك"."
وعن ثمار الصبر "في تموز بصير الصبر قد الكوز"، و"بعشرين آب اقطف العنب ولا تهاب"، وعن أكل الثمار "كُلها عجرة ولا غيرك يوكلها مستوية".
ومن لم يسمع بالمثل: "أول الثمار بطوّل الأعمار" فعليه أن يعرف أولاً ما يعنيه "موسم التعزيب" والذي يحل مع بدء نضج الثمار؛ ولذا يُسارع الفلاحون للتعزيب مُبكرًا وعدم إضاعة ثمار أول الموسم، وقد عرف فلاحو بلادنا نوعين من التعزيب في العام الفلاحي، وهما تعزيب الشتاء في الغور، وتعزيب الصيف في الكروم.
"السنة لمليحة بتنعرف من فولها وسخولها" فهو علامةٌ عند الفلاحين عُموماً لسنة الخير والخصاب. "أما المثل ووفقاً له؛ فإن موسم العنب والتين "القيظ" من أجمل المواسم الفلسطينية، حيث يُعتبر موسم نقاهة "وشمّة هوا" للفلاحين، مقارنة بغيره من المواسم الزراعية؛ (سقا الله أيام العنب والتين .. يوم الحلوة تصير تلاقيني).
ويُعتقد بأن للعدس قدرةٌ على رد العين الحاسدة وكف الأذى عن أصحاب البيت، لذا كانوا يرشون الملح والشعير والعدس عند أعتاب البيوت.
وأخيراً فإن رزق العام كله يعتمد على كمية المطر وحسن التدبير؛ و"اللي ما بزرع في الشتوية بشحد في الصيف".