خاص بآفاق البيئة والتنمية

قبة الصخرة - القدس
تغيب عن القدس 12 عامًا، كل شيء في زهرة المدائن له سحره الخاص، وتعجز المدن الأخرى عن مجاراة هذه الميزة، فما أن يدخل الزائر إلى مجالها وحواريها إلا ويشعر برائحة القدس: اللهجة الجميلة، والحجارة التي تهزم تاريخ المحتل، والكعك الشهي، والأسوار العصية على التزييف، والزيتون الضارب في الأرض، و"الأقصى"، والقيامة، والجثمانية، والحواري العتيقة، ويافطات الشوارع، والحب المتجدد والجارف للمدينة، ولقطات عديدة أخرى.
يخنق جدار الفصل العنصري زهرة المدائن، ويفصل الأحياء والبيوت، ويكاد يتحكم في كل شيء. خلال رحلة الوصول إلى المدينة من جهة حاجز قلنديا، يحرص الاحتلال على صناعة الأزمة المرورية، فيتحكم في دخول المتجهين إلى المسجد الأقصى وخروجهم، والأقسى أنه يظهر في موقع من يرتب الصفوف، ويخفف من الأزمة، ويدير الصعود والهبوط من الحافلات، واجتياز البوابات الإلكترونية ونقاط التفتيش.
"سرطان" وفوضى
تحاور علي، الشاب العشريني الذي ينشط في تنظيم الصعود إلى الحافلات، وتسأله عن الأزمة الخانقة في الطريق إلى القدس، والتي تتضاعف بمظاهر الفوضى وغياب الالتزام بالدور في كل شيء تقريبًا.
وقال: نقف هنا طوال النهار، ونحاول أن لا يحتك المواطنون بجنود الاحتلال، ونفشل معظم المرات في ترتيب الصعود والهبوط من الحافلات، وخاصة في أيام الجُمع وليلة القدر، فالآلاف تأتي وتغادر في وقت واحد، وتعجز الممرات والطرق عن استيعابهم، لكن ما يضاعف الأزمة غياب النظام والتدافع.
خلال العقدين الأخيرين تصاعدت وتيرة تهويد المدينة، فأقيم جدار الفصل العنصري، وأطل مخطط (E1 ) الاستيطاني بأنيابه ليهدد أحلام المدينة بأرض تربطها بالجارتين: بيت لحم ورام الله.
تقرأ قبل وصولك إلى حاجز قلنديا عن المشاريع الاستيطانية التي تستهدف المدينة المحتلة، وترجع إلى عام 1999، عندما صادقت حكومة الاحتلال على مخطط (E1 )، وفيه مبان استيطانية، ومشاريع سياحية، وتجارة، وخدمات، ومقبرة، ويقع شمال مستوطنة (معاليه أدوميم)، لخلق تواصل بينها وبين والقدس، ولعزل رام الله شمالًا عن بيت لحم جنوبًا، ولفصل القدس الشرقية عن باقي الأراضي الفلسطينية. وسيؤدي في نهاية الأمر إلى حرمان المدينة من آخر المناطق التي تكفل لها النمو والتطور الاقتصادي، وتقسيم الضفة إلى قسمين.
مما تورده جهات حقوقية مقدسية وخبير القانون الدولي د.حنا عيسى، فـإن المخطط الاستيطاني الضخم "يستهدف ما يقارب 12 ألف دونم من أراضي القدس والضفة الغربية، وتتفرع خارطته الهيكلية لتصل إلى شمال شارع القدس– أريحا (شارع رقم1) وأراض جنوب الشارع، حيث أقيمت مستوطنات: معاليه أدوميم (يصل عدد مستوطنيها إلى36,000، وتبلغ مساحتها 50 كيلومترًا مربعًا، وتعادل منطقة نفوذ مدينة تل أبيب)، وعلمون، وكفار أدوميم، وألون، وكيدار والمستوطنة الصناعية ميشور أدوميم".
وتمثّل معاليه أدوميم، التي سلبت اسم الخان الأحمر شوكة في حلق القدس، فهي تسيطر منذ عام 1975، على مساحة كبيرة في الضفة الغربية، حيث تمتد على نحو 48,000 دونم.
 |
 |
الأشجار المنتشرة في محيط المسجد الأقصى |
السوق عند مدخل باب العمود في القدس المحتلة |
شروق وليل
يفشل المذياع في إيقاظ ركاب الحافلة، الذين يسابقون الشمس، ولا تنتزع المشاهد الأولى للقدس قبل الشروق فضول المتجهين إلى المسجد الأقصى، فقد طال انتظارهم على الحاجز، وقدموا من مدن بعيدة في جوف الليل.
تقول السيدة هدى نصري: جئنا من نابلس، وهي المرة الأولى التي أدخل فيها القدس من منذ 20 سنة. اليوم تغير كل شيء، وصار جدار الفصل العنصري يحيط بالمدينة من كل ناحية.
تُدرّس هدى الجغرافيا، وتعلم طالباتها الحدود السياسية بين أقطار العالم، لكن في منهاجها الخفي إشارات قوية إلى القدس وبيئتها.
وأشارت: "تميزت القدس بموقع جغرافي هام، فهي على هضبة، وفوق قمم جبلية تمثل السلسلة الوسطى لفلسطين، وتشكل خط تقسيم للمياه بين وادي الأردن شرقاً، والبحر المتوسط غربًا. وتشبه حلقة في سلسلة تمتد من الشمال إلى الجنوب فوق القمم الجبلية لمرتفعاتنا، التي تحول معظمها لمستوطنات ومعسكرات."
وتابعت هدى: تقع المدينة في وادٍ واسع بين جبال تحيط بها. وتبعد مسافة 54 كلم شرق البحر المتوسط، و23 كلم غرب البحر الميت، و250 كلم عن البحر الأحمر، وتتفاوت ارتفاعات المدينة فوق سطح البحر.
 |
 |
النفايات تعيث تلوثا على المدرج المقابل لباب العمود في القدس المحتلة |
النفايات تنتشر في زوايا متعددة بالقدس المحتلة |
حصار وأبواب!
وقالت: حظيت المدينة بأسماء عديدة، ارتبطت غالبًا بالحقبة التاريخية لتلك التسمية، فقد عرفت بـ"يبوس"، نسبة إلى اليبوسيين بناة القدس الأولين. وذكرت في سجلات الفراعنة باسم "يابيثي". وأسمتها نصوص العهد القديم بأسماء مختلفة أخرى، وظلت تعرف بالاسم الروماني "إيلياء" حتى الفتح الإسلامي، والاسم الشائع في العربية "بيت المقدس"، لكنها اليوم زهرة المدائن، وفوق كل هذا محتلة وممنوعة على أهلها.
شاهدت المعلمة وطالبتها المدينة العام الماضي من العبيدية المحاذية لبيت لحم، بعد أن حرمن من الدخول بدعوى عدم حيازة "تصاريح"، واللافت أن غالبية التلميذات لم يزرن القدس منذ ولادتهن قبل 16 عامًا.
ورغم أن معلمتهن أخبرتهن بموقعها على خط طول 35 درجة و13 دقيقة شرقاً، وخط عرض 31 درجة و51 دقيقة شمالاً، لكن وصف الطالبات للمدينة أشار إلى أن القدس أبعد إليهن بفعل الاحتلال من واشنطن وباريس.
تدخل باب العامود، الأكثر شهرة بين أبواب القدس، والأجمل بزخارفه، والأكثر علوًا بارتفاع يصل لنحو ثمانية أمتار. في مدخل الباب عادة ما تحرص بائعات ريفيات على الترويج لبضاعتهن التقليدية: الملبن، وورق العنب، والدراق، والمشمش، والعنب، لكنهن وقت الزحام في رمضان يعدن انتشارهن قليلاً إلى داخل الباب، أو يصعدن أعلى درجاته.
تقول دعاء، البائعة الصغيرة: نأتي من ريف بيت لحم، ونبيع الملبن في رمضان، في السابق كانت أمي وجدتي تدخلان بسهولة، أما اليوم فلا يسمح لنا إلا في شهر الصوم.
بجوار دعاء هناك فتية ونساء وشيوخ يلتقطون أرزاقهم إلى جانب أصحاب المتاجر، في باب قديم بني في عهد الإمبراطور الروماني روما هدريان في القرن الثاني الميلادي، فيما يعود البناء الحالي لباب العامود للفترة العثمانية، وفي أعلاه فتحة صغيرة للحراسة وتاج دُمر في زلزال ضرب المدينة عام 1927 وأعيد لاحقا.
تقرأ عن هذا الباب، وتعرف أنه سمي بهذا الاسم لوجود عامود من الرخام الأسود، وضع في الساحة الداخلية للباب في الفترة الرومانية، وعن طريق العامود كان يقاس بعد المسافات عن القدس، بحجارة "ملياريس"، ويعتقد أن هذا اللفظ هو أصل وحدة القياس "الميل".
تعرف دعاء تسميات أخرى لباب العامود كباب دمشق وباب نابلس، وتبلغ مساحة ساحته ومدرجاته والدكاكين المملوكية الموجودة في مدخله حوالي ثمانية دونمات ونصف.
للقدس 13 بابًا، ثمانية منها مفتوحة هي باب العامود، وباب الأسباط، وباب الخليل، وباب النبي داود، وباب الأرمن، بالإضافة إلى ثلاث فتحات أُحدثت بالسور وسميت لاحقا أبوابا، وهي باب الساهرة، وباب المغاربة، وباب الجديد.
أما الأبواب المغلقة فخمسة، وهي باب الرحمة، وباب الجنائز، والباب المفرد، والباب المزدوج، والباب الثلاثي.
 |
 |
النفايات في البلدة القديمة بالقدس المحتلة |
باب العمود |
شرطة ونفايات
يروج المقدسيون بلهجتهم الجميلة لبضاعتهم وسط الزحام، وتعدُّ الحلوى التقليدية والكعك الأكثر رواجًا، فيما يحرص آخرون على بيع ألعاب أطفال وسجائر مهربة وبطاقات هواتف خليوية. ويتسبب العدد الكبير من الزوار والمصلين بنفايات عشوائية تغزو الطرقات، وتشوه وجه المدينة.
تبدو القدس القديمة معتدلة حتى في أجواء حزيران الملتهبة، فالأبنية القديمة تحتفظ بالبرودة، وتحجب الشمس بخلاف الإسمنت والنمط المعماري الحديث، وتكاد الأشجار لا تفارق مساجدها وكنائسها وطرقاتها، أما شوارعها فكلها نقاط تفتيش، مع تواجد كثيف لشرطة الاحتلال، وكاميرات مراقبة.
في جوف المسجد الأقصى، تتراجع بعض الحجارة والجدران جراء القيود الصارمة على الترميم، وتجف أشجار السرو والزيتون ويموت بعضها واقفًا، مثلما تتراجع سجادة الأعشاب التي كانت تفصل بين المسجد وقبة الصخرة، وتنتشر لافتات تدعو إلى الحفاظ على نظافة الحرم، والإقلاع عن عادة التدخين في باحاته، لكنها لا تجد الصدى الواضح.
تنشأ وسط الاكتظاظ الشديد مظاهر سلبية عديدة، فالتزاحم في الوصول إلى المسجد والخروج منه دائم الحضور، وأكوام النفايات تتزايد بفعل وجبات السحور والفطور، والتدافع على نقاط توزيع الوجبات المجانية يتزايد، وتفشل غالبًا دعوات الوعاظ والخطباء والمنظمين على الالتزام بالدور، وتجنب صناعة الأزمة، أما الذهاب إلى دورات المياه فمهمة صعبة جدًا، يفاقمها منع الاحتلال لإنشاء وحدات صحية تستوعب الأعداد المتزايدة.
يقول الستيني صلاح يونس: أحرص دائمًا على الصلاة في المسجد خلال رمضان، وفي كل عام تنشأ ظواهر جديدة، وعلينا أن لا ننسى أن الاحتلال هو الذي يتسبب بكل هذه الأزمة، ومن واجبنا الالتزام بالنظام، والحرص على نظافة المسجد وباحاته.
وأضاف: أن يجتمع في مساحة 144 دونما أكثر من ربع مليون، يدخلون ويخرجون في وقت واحد تقريبًا، ويحتاجون لاستعمال دورات المياه والوضوء، ويتناولون السحور والفطور في رمضان، فهذا سيتسبب بأزمة، والأمر يتكرر في كل الأمكنة المكتظة.
ينشط متطوعون في تنظيف المسجد وجمع النفايات المتراكمة قبل بزوغ الفجر ويخصصون مكانًا لفرز الخبز ولإطعام الطيور والقطط، ويحث إمام خطيب المسجد الشيخ يوسف أبو سنينة على نظافة المسجد، وإخراج النفايات إلى خارجه، وتجنب التدخين و"النرجيلة".
ينشط مسعفون ومتطوعون في ساحات الحرم، وفي ظواهر حديثة نسبيًا يرشون المياه على المحتشدين لتلطيف الأجواء الحارة.
تقول صفاء أبو علي، القادمة من الداخل المحتل: في السابق لم يكن هناك رش للمياه في الساحات، فقد كانت الأجواء ألطف، حيث يتصادف رمضان مع أشهر الربيع والشتاء وكنا نكتفي بظل الأشجار أو القبعات. لا أنكر أن الأجواء هنا جملية، لكن تحتاج إلى تنظيم أكثر.
 |
 |
جانب من الهدر الغذائي الناتج عن الإفطارات في القدس المحتلة |
سكاكر سامة في البلدة القديمة بالقدس المحتلة |
رسالة وحلول
تقترح حلًا للقضاء على الفوضى التي تزيد أوجاع القدس، فتنشر أولاً رسالة مفتوحة، بعنوان "إلى من يهمه الشأن"، وفيها: كنت حزينًا جدًا أمس في القدس، وأنا أعيش وسط الفوضى التي تشوه صورتنا. كيف يعجز عباد الرحمن (الذين يمشون على الأرض هونا) عن تنظيم دخولهم وخروجهم من أقصاهم، فيتدافعون ويصرخون ويتشاجرون، ويتدخل المحتل في ترتيب صعودهم إلى الحافلات؟! من العار علينا تكرار هذا المشهد المسيء لكل شيء، أو القبول بمواصلته، وهناك ألف طريقة وطريقة للقضاء على هذه الفوضى المُعيبة. صحيح أن الاحتلال يخنق القدس ويسلبها، لكننا نشاركه ذلك، في عدم السمو بمدينتنا وأخلاقنا وشعائرنا، والهبوط إلى قاع لا قرار له. وهذا ليس بشدٍّ للرحال، بل بتفكيك ذاتي لروابطنا بمدينة الصلاة، والحرم، ورمضان...."
وتكمل: ينبغي حظر إدخال الطعام والشراب إلى المسجد دون قيود، ويمكن الاكتفاء بتوزيع وجبة خفيفة (تمر وماء بعبوة صحية يُعاد استعمالها مراراً وكعك) توضع كلها بكيس من الورق لمن يمكث في الحرم، مع استحداث منطقة جانبية مخصصة للطعام والشراب لمن يرغب في الزيادة، وكذلك تحديد مكان مماثل للنوم، مع التفكير بسياسة جديدة لاصطحاب الأطفال الرضع ومن هم دون العاشرة، ومن الأهمية بمكان تنظيم خروج المصلين والزائرين في أوقات الاكتظاظ الشديد، كتوزيع أسوار بلاستيكية بألوان مختلفة تنسق الخروج من أبواب معينة في أوقات متباعدة، وربط النظافة والنظام واحترام الدور بالإيمان بشكل أوضح، وأكثر تكرارًا في الخطب والمواعظ.
aaabdkh@yahoo.com