مركز حسن مصطفى الثقافي
الكبة والصفيحة الفلسطينية
ارتبطت ثقافة الطعام في بلادنا وديارنا المقدسة مهد الحضارات القديمة والديانات السماوية بعقيدة الإنسان وروح الأمة، فالطعام ليس مجرد مواد عضوية وغير عضوية يتناولها الناس للبقاء على قيد الحياة، بل هو أبعد غوراً وأعظم وأجلُّ شأناً. إنه مفردة من مفردات حياتنا الاقتصادية والأمن الغذائي لمجتمع ما. ومن دلائل استقراره وسعادته، وقوته، وغناه، وهو مفردة من مفردات الحياة السياسية والاجتماعية والتربوية أيضاً.
فالطعام من معالم حضارة الشعوب وملمح مهم من ملامح الهوية، والسبب أن الطعام يشكل نموذجاً حيّاً لأسلوب ونمط الحياة الشائعة في مجتمعنا العربي الإسلامي، فهو ترجمة لمجموعة القيم والأفكار والعادات والتقاليد المتوارثة والمنبثقة والمتأثرة بالدين وما يحويه من شرائع بشروط وأحكام، وأظهرت احتراماً وتقديراً للكرم والإنسان الكريم، وحثت على إطعام الطعام بسبل متعددة تضمن دوام تداوله بين الناس والعمل على تنمية مصادره وحفظها من الزوال.
فقد وصف سيدنا ابراهيم عليه السلام "بأبي الضيفان" والروايات عن كرمه معروفة. وقصة فداء ابنه إسماعيل بكبش سمين، وكذلك الاحتفاء بالذكرى في يوم النحر في الحج وتسمية عيد الأضحى كذلك.
وعند توزيع الزكاة على مستحقيها نجدها من الطعام بكافة أصوله من مواشي، وابل، وزرع وثمار، ...الخ. ولا بد أن ننوه إلى صاع خليل الرحمن كمقياس لزكاة القمح والحبوب، واعتبار الصدقات المنوعة وقيمتها في ترابط وتكاتف المجتمع، ولو بالقليل القليل (تصدقوا ولو بشق تمرة).
وفي كل الديانات السماوية أمرنا المولى عزّ وجل بالصيام وان اختلفت اشكاله ما بين ديانة وأخرى وما بين اليهودية، والمسيحية، والإسلام، إلا ان شهر رمضان هو شهر الصيام والامتناع عن تناول الطعام طول النهار، وفي نفس الوقت هو شهر تقديم الطعام ووهبه للفقراء والمساكين والمحتاجين له، وهو تكريم واجتماع على فعل الخير والضيافة وصلة الرحم ونشر المودة والرحمة بكثافة وقصد وهدف نبيل.
ولما كان الطعام من وسائل التقرب إلى الله شُرعت كفارات الذنوب المختلفة بإطعام مسكين، وهذا عزّز قيمة الطعام في الحياة، وفتح سُبل تعميمه وتوزيعه، وعدم احتكاره. بل العكس.
وعودة إلى تاريخ العرب في شبه الجزيرة العربية الواسعة والممتدة، استوجبت صعوبة الحياة في ارجاء أرضها عادة الكرم العربي، وقُدّر الكرماء عبر التاريخ امثال حاتم الطائي. واعتبرت البشاشة والترحاب بالضيف امراً سياسياً مهماً اكثر من الطعام ذاته.
وفي الأدب العربي أيضاً كتاب البخلاء للجاحظ الذي يتندر في رواية قصصهم ومواقفهم والبخل عكس الكرم.
وفي بلادنا انتشار واسع للتكايا وزوايا المتصوفين وهي تقدم الطعام في المدن والقرى ومقامات اولياء الله الصالحين أينما وجدت، حيث يتم تقديم النذور والموالد وإطعام الطعام المطبوخ والذي يوزع أيضاً.
المنسف الفلسطيني
الطعام لتعميق الروابط الاجتماعية
تظهر قيمة الطعام في مناسبات الفرح والسرور كالأعراس، ويحمل المدعووّن ايضاً ما يسمى (بالقود) مساهمة وهدية وتعاون على توفير مواد الطعام الاساسية كالذبائح.
وفي الصُلحات والجاهات يجب أن يكون الطعام حاضراً للتكريم وتقديم الواجب لأصحاب الحق والقضاة والوجوه المشارِكة والقائمة على إنهاء الخلافات.
وهذا يعزز فكرة العلاقات الاجتماعية الحسنة بين الناس ومقولة "بيننا خبز وملح"، بمعنى أن تداول الطعام بين بعضهم البعض يحول دون تصعيد الحزازات والعداوة والبغضاء، ويوفر اجواء الرضا والقبول والتسامح والاحترام المتبادل بواسطة آلية تقديم الطعام والاجتماع على تناوله بروح من الوئام والمحبة والألفة.
ومن العادات والتقاليد في ميدان ثقافة الطعام في بلادنا هو إعداد الطعام ونحر الذبائح عند وضع أساسات البيوت ويوم عقدها، وكذلك المباني العامة كالساحات والمضافات والمساجد والمدارس.
وتأكيداً لما ورد في السنة النبوية حول اعداد الطعام لأهل الميت بسبب انشغالهم في الحادث المؤسف وبسبب عدم التمكن من إعداد الطعام بأنفسهم حيث يجتمع الأهالي للقيام بمراسيم الدفن والجنازة فلا يتوفر لديهم أي رغبة في إعداد طعامهم بأنفسهم، فتقوم جماعة أخرى من الاصدقاء والجيران والمعارف بالعمل على توفير هذا الطعام، ودعوة المنقوصين واحترامهم ومواساتهم وتكريمهم بعد انجاز الدفن، ويوفرون لهم اجواءً من التقارب والتضامن والعزاء والاحترام ويستضيفونهم في مضافاتهم ويقدمون لهم الطعام.
ومن العادة ان هذا الطعام الجماعي له نظام وهو متبادل بين الناس وهو قرض ودين، حيث يبقى الناس مستعدين للقيام بواجب من قام بواجبهم، وهذا دليل آخر على أهمية اطعام الطعام وعلى دوره الاجتماعي والإنساني وتوثيق الصلات بين العوائل والمجتمع. فثقافة الطعام تدخل في كل بندٍ من حياتنا المجتمعية في السراء والضراء، وعند الفرح والحزن ايضاً كما ويتبرع الناس بمواد غذائية وطعام وشراب للقرى والمناطق المنكوبة او المحاصرة من الأعداء، والتي تُعزل لفترة يحتاج الناس إلى المؤن والغذاء.
ومن العادات والتقاليد ان هناك مناسبات تراثية شعبية يجد الناس فيها فرصاً لإطعام الطعام مثل عادة خميس البيض في الربيع والتي هي عادة قديمة جداً منذ عهد حمورابي، والاحتفاء بالربيع عند الشعوب يصحبه إعداد الولائم والحلوى والمهلبية والكعك والزلابية والفطائر عن أرواح الموتى، وخميس الأموات عادة شعبية عند المسلمين وعيد الفصح المسيحي هو عيد بعث الحياة ووقته بعد صيامهم عن الغذاء الحيواني، وكذلك عيد الفصح اليهودي وهو (عيد الفطير).
ومن العادة أيضاً ان توزع صدقة من الحلوى او أي طعام عند فتح قبر العائلة فيقوم ذوي الميت السابق بتقديم هذه الصدقة عن روح ميتهم الأول بعد دفن الميت الجديد.
إن طرق الطهو وإنضاج الطعام الفلسطينية هي عامة وعالمية حيث يتم إنضاج الطعام بنفس الطرق من سلق، وشيّ، وقلي، وكذلك استعمال طرق الحفظ والتخزين كالتمليح، والتجفيف، والتعليب، ... الخ، هي عالمية أيضا ولكن الخصوصية هي في التعامل مع ما تنتجه الارض والبيئة والمناخ الفلسطيني المتعدد المناطق ما بين الغور والجبل والسهل الساحلي من إنتاج متنوع في مواسم منوعة، ما يثري ويغني سُبل الإبداع في الانتاج الغذائي على مدار العام، ويزيد فرص الاستمتاع بالنعم والخيرات وازدهار الخبرات، وتميز الثقافة الطعامية والغذائية والصحية والبيئية المتكاملة والشاملة.
لذا نجد اطباقاً تحمل اسم وشهرة مكان إنتاجها بقوة وكثرة، كالعنب الخليلي، الباذنجان البتيري، والفقوس الساحوري، والجوافة القلقيلية، والبرتقال اليافاوي، والموز الريحاوي، والمشمش البيتجالي، والخس الارطاسي، والبطيخ الجنيني، والقمح السيلاوي، ... الخ.
ثقافة الطعام
ان الالتزام بثقافة الطعام الخاصة بنا يدفع عنا ويلات وشروراً كثيرة، ولأن ثقافة الطعام مجربة ومتوارثة فهي تساير الطبيعة والفطرة والشرع ولا تشذ بالإنسان الممارس لهذه الثقافة إلى المكارة والويلات، فعلى سبيل المثال لا الحصر:
- تحريم أكل الميتة والدم والحشرات ولحم الخنزير ولحوم الكواسر وآكلات اللحوم من الحيوانات بأنواعها وعدم السُكر وشرب الخمر، هو سلوك تغذوي صحي ومردوده على سلوك الفرد والمجتمع صحي وإنساني وأخلاقي، وعنصر مهم وهو (حفظ النفس) بحيث ينصح ويوضح ويفسر ويوجه لصالح الانسان وسلامته.
- ومن ثقافتنا الغذائية ايضاً هو تناول طعام من منتجاتنا الزراعية وحيوانات ودواجن يتم تربيتها في البيوت والمزارع وبهذا تسمى المنتجات التي نأكلها محلياً (بالبلدي) وهو أفخر واعز طعام، فكل طعام بلدي هو الأفضل من حيث الطعم المحبب، ولكل قرية وبلد عين ماء تستقي منها تسمى عين البلد أيضاً، وهذه سمة ايجابية يتميز بها الفلسطيني، وقيمة المنتج البلدي عنده مُقدّرة والحمدلله، حيث أن لديه حس ووعي بالغزو الثقافي وسرقات العدو لتراثه ما يحصنه من التغريب الحضاري، عن هذا يقول المفكر التنموي الفلسطيني حسن مصطفى:- (... والحياة الثقافية تماماً كالحياة الطبيعية، فمثلما نأكل من نبت بلدنا وفاكهة بلدنا ونشرب من عيننا لنكوّن حياتنا الطبيعية، كذلك نردد أغانينا وندبك دبكاتنا وننهل من موردٍ أقوى لنا لنكوّن شخصيتنا الطبيعية. ان الذي لا يُغذي حضارته الشعبية ولا يتغذى بها يفقدُ شخصيته وطابعه ويخسر بالتالي قيمته في الحياة).
إن الشرع يلزمنا أن نسعى في طلب الطيبات مما رزقنا الله، وأرشدنا إلى أساليب خاصة في الذبح وتصفية الدم، حتى من الناحية النفسية والروحية بذكر اسم الله والنية، وكذلك وهب الطعام إلى وجه الله يؤثر في سلوك الانسان المؤمن ويكسبه الثقة بالنفس والوضوح، والسبر على الاستقامة وعدم التلاعب او الابتعاد عن قواعد اساسية وضعت لتصويب حياته الوطنية والأهلية والبيئية، وهذه هي الخصوصية والطابع أي (الهوية) والميزة الثقافية بالمتعة والسرور والاستدامة والحفاظ على النعم في بيئة معطاءة يعيش عليها ويتفاعل معها بجد واجتهاد وليستخلص منها رزقه، ومعاشه، وهو يتغزل ويغني ويرقص ويروي الحكايات ويصيغ تراثه وثقافته وهويته.