البذور البلدية مفتاح السيادة على الغذاء...جهود متواضعة لإحيائها أمام سطوة الشركات العالمية
تراجعت البذور البلدية لدرجة شارفت فيها على الإنقراض، وباتت عمليات الإنتاج الزراعي رهينة لسيف الشركات العالمية التي أغرقت فلسطين كما الكثير من الدول حول العالم. وأمام هذا المشهد، ظهرت على السطح جملة من المبادرات الفردية الفلسطينية من هنا وهناك لإحياء البذور الأصلية لهذا البلد إيمانا بأهميتها في تحقيق السيادة على الغذاء في بلد يرزح تحت الاحتلال. يلفت هذا التقرير الأنظار إلى الأخطار المحدقة بالبذور الفلسطينية التي بات وجودها مقتصرا في يد مجموعة من المزراعين القدامى أو أشخاص وجمعيات إحتفظت بها بشكل شخصي.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
قبل بضع عشرات من السنين لم يكن المزراع الفلسطيني يعرف البذور الصناعية المستوردة، وكان يعتمد في جل إنتاجه على البذور البلدية التي كانت تحقق نوعًا من الاكتفاء الذاتي والسيادة على الغذاء في بلد يرزح تحت الاحتلال. ولم يدم هذا الحال طويلا إلى أن ظهرت سطوة الشركات العالمية المنتجة للبذور الدخيلة، دون وجود أي سياسات رسمية تحمي موروث فلسطين وتحدُّ من تدخل هذه الشركات.
تراجعت البذور البلدية لدرجة شارفت فيها على الإنقراض، وباتت عمليات الإنتاج الزراعي رهينة لسيف الشركات العالمية التي أغرقت فلسطين كما الكثير من الدول حول العالم. وأمام هذا المشهد، ظهرت على السطح جملة من المبادرات الفردية من هنا وهناك لإحياء البذور الأصلية لهذا البلد إيمانا بأهميتها في تحقيق السيادة على الغذاء في بلد يرزح تحت الاحتلال.
شهد شهر تشرين الثاني مبادرة قامت عليها مجموعة "شراكة" التطوعية، كان هدفها لفت الأنظار إلى الأخطار المحدقة بالبذور الفلسطينية التي بات وجودها مقتصرا في يد مجموعة من المزراعين القدامى أو أشخاص وجمعيات إحتفظت بها بشكل شخصي. في ساحة مركز البيرة الثقافي وسط المدينة، اجتمع مجموعة من المزارعين والمنتجين المحليين والمتطوعين وعرضوا مأكولاتهم التراثية وبعضا من بذورٍ أصلية لم تعد قادرة على مزاحمة القوة الهائلة للشركات العابرة للقارات.
يدرك هؤلاء أنهم لن يستطيعوا مزاحمة الشركات العملاقة، لكنهم أرادوا توجيه رسائل باتجاهات عدة للمجتمع المحلي ولصناع القرار بأن لدينا في فلسطين ما يمكن أن نحقق فيه السيادة على غذائنا، بالعودة إلى استخدام البذور البلدية حتى ولو على نطاق ضيق. فكان العنوان لهذه الرسائل "لمة أكلي بلدي وبذاري فلسطيني"، ويقول فريد طعم الله، وهو أحد المنسقين لهذه الفعالية ومتطوع في مجموعة شراكة: "الهدف من هذه البلدية هو لجوء المزراعين إلى البذور المهجنة وعزوفهم عن البذار الأصلية، نريد إحياء فكرة تبادل البذور البلدية، التي تتأقلم مع الظروف الجوية وتقاوم الجفاف وشح المياه ولا تحتاج إلى المبيدات".
يهدف هذا النشاط حسب طعم الله، إلى "تمكين المواطنين من تبادل البذور استعدادا لموسم الزراعة الشتوية، وكذلك تذوق الأكلات البلدية الموسمية والتي يعدها الفلسطينيون من مناطق مختلفة في هذا الوقت من السنة، حين ينهي المزارعون موسم قطف الزيتون ويبدأون زراعة البذور للمحاصيل الشتوية، كبذور السبانخ والقرنبط والفول والبازيلاء والخيار والفقوس والقرنبيط وغيرها. وأعتبر طعم الله أن "هذه الفعالية عبارة عن مساهمة صغيرة تحتاج لجهود أكبر من راسمي السياسات لتوعية المزارعين بأهمية البذار البلدية، ومخاطر البذور المستوردة من الشركات العالمية".
عايشة منصور متطوعة أخرى في مجموعة شراكة، حضرت إلى الفعالية بثوب فلسطيني مطرز، تحدثت لـ آفاق البيئة والتنمية وبدت الحرقة واضحة في كلامها، وتساءلت: "لماذا نأكل النفايات التي تصدرها لنا الشركات الكبيرة في العالم؟ لماذا لا نعود إلى البذور البلدية ونأكل مما نزرع بعيدا عن الكيماويات التي اجتاحتنا؟".
وبالتزامن مع تنظيم هذه الفعالية بدأ بنك البذور البلدية التابع لاتحاد لجان العمل الزراعي، بعملية تسجيل المزارعين الراغبين بالحصول على بذور المحاصيل الشتوية البلدية، حيث يقوم البنك موسمياً بتوزيع البذور البلدية على المزارعينات المهتمين بزارعة المحاصيل البلدية، وحسب خطة العام 2017 سيقوم البنك بتوزيع عدة محاصيل شتوية منها الفجل، اللفت، السلق وغيرها.
ويستهدف البنك العديد من المواقع الموزعة في الضفة الغربية، ويأتي ذلك ضمن برنامج تكميلي للحفظ والاستخدام المستدام للبذور البلدية، ويعتمد بشكل أساسي على حفظ البذور في نفس المكان (في حقل المزارع) وخارج المكان (في البنك الوطني للبذور البلدية).
وتعمل وحدة الإكثار التابعة لبنك البذور البلدية على تحسين الأصناف الشتوية والصيفية لزيادة انتاجها وقدرتها على تحمل التغير المناخي وخاصة الجفاف. ويتبع للبنك الوطني عدة وحدات أخرى منها وحدة الإستقبال، وحدة المختبر، وحدة التجفيف ووحدة التخزين، وكلها تعمل بشكل تكميلي للحصول على صنف بلدي محسن ومحفوظ بطريقة آمنة وكميات كافية.
ويذكر أن بنك البذور البلدية في حلحول شمال الخليل، الذي أسسه ويديره “اتحاد لجان العمل الزراعي” منذ عام 2003، عمل على إكثار وتحسين نحو 37 صنفاً ما بين محاصيل خضروات ومحاصيل حقلية بلدية، حيث يتم حفظ الأصول الوراثية لها داخل البنك وفق آليات الحفظ المناسبة بهدف حمايتها من خطر الضياع وتحقيق سيادة المزارعين الفلسطينيين على غذائهم.
ويبين محمد الواوي وهو متطوع في إتحاد لجان العمل الزراعي أثناء عرض مجموعة من البذور البلدية في مركز البيرة الثقافي أنه بدأ التطوع في مسعى منه لتوصيل رسائل الاتحاد للحفاظ على البذور الأصلية من خلال الحفاظ عليها وإكثارها. وأشار إلى أن الآلية المتبعة تقوم على تزويد المزراعين بالبذور التي يحتاجونها مقابل إعادتها بعد إنتهاء الموسم. وقال: " هناك إقبال لا بأس به من المزراعين على البذور البلدية، لكن المسألة بحاجة لجهود مضاعفة من مختلف الجهات لتوسيع رقعة الاعتماد على هذه البذور".
وفي زواية قريبة كانت سيدة في العقد الخامس تجلس خلف طاولة معروض عليها طبق من المفتول البلدي، وقالت: "كان الاقبال على المفتول مميزا، وكانت الردود طيبة على هذا الطبق التراثي في فلسطين".
وكان لافتا في أرض المعرض، ذلك الرجل الستيني يوسف أبو ريان من حلحول شمال الخليل، الذي كان ممثلا لجميعة حماية وتطوير البذور البلدية التي تنتج 16 نوعا من البذور البلدية كالحبوب والخضروات الصيفية والزراعات الشتوية. على طاولته عرض أبو ريان مجموعة من الأكياس الصغيرة بداخلها بذور من أصناف مختلفة إلى جانب بعض أكياس الزبيب والملبن ومربى العنب "العنبية". يبين أبو ريان أن البذور البلدية تتلائم مع الظروف الجوية في بلادنا، عدا عن كونها طبيعية خالية من المبيدات، خلافا للبذور المستوردة غالية الثمن التي تعتمد بالأساس على المبيدات والكيماويات.
لماذا البذور البلدية أفضل؟
البذور البلدية يمكن إعادة إنتاجها وتحسينها من موسم لآخر، وعبر الأجيال؛ وبالتالي فهي تصب مباشرة في طاحونة تحرير المزارعين وسائر الشرائح الشعبية من التبعية الغذائية للاحتلال وشركات البذور والكيماويات الاحتكارية، من ناحية المستلزمات والمدخلات الزراعية (المبيدات، الأسمدة الكيميائية، المياه...إلخ). هكذا بدأ الخبير البيئي جورج كرزم حديثه.
أما البذور المهجنة الصناعية، فلا يمكن إعادة إنتاجها ذاتيا، وبالتالي يحتاج المزارع في كل موسم جديد إلى شراء بذور جديدة وما يلزمها من كيماويات زراعية. كما أن النباتات النامية من البذور المهجنة أو الصناعية تسبب تآكلا متواصلا في خصوبة التربة وتحتاج إلى الكثير من المياه، بينما تنمو البذور البلدية جيدا مع السماد البلدي أو الكُمْبوست وهي مقاومة للآفات الزراعية وحاجتها للمياه قليلة؛ وبالتالي تحافظ على بنية التربة الخصبة والغنية بالمغذيات.
ويتابع كرزم " تأتي ضرورة تشجيع زراعة أصناف نباتية تتحمل الحرارة والجفاف وتتأقلم مع البيئة المحلية، وتثمر مبكرا قبل بداية فصل الجفاف وتأثيره على المحاصيل، وتحتاج إلى قليل من المياه؛ مثل أصناف معينة من المشمش والخوخ واللوزيات؛ بالإضافة إلى الإسراع في تطوير أصناف من المحاصيل والحنطة والقمح أكثر مقاومة للجفاف؛ كما يجب تشجيع زراعة المحاصيل التقليدية، أو أصناف جديدة تتحمل الحرارة وتحتاج إلى قليل من العناية وتحقق فوائد اقتصادية وصحية وبيئية حقيقية للمزارعين، ويمكن زراعتها بطرق عضوية؛ مثل الصبر والخروب والبلح والسمسم والأعشاب الطبية وغيره".
وفي سياق ممارسة الزراعات البيئية المعتمدة على البذور المحلية الأصيلة، من الضروري تجنب زراعة المحاصيل بشكل اصطناعي في غير موسمها؛ وعندئذ، لن نواجه ظاهرة تلف محاصيل موسم الصيف التي تزرع في فصل الشتاء، بسبب البرد القارس والصقيع.
مغالطات شائعة لا أساس لها
تشهد الضفة الغربية وقطاع غزة حاليا ندرة حقيقية في معظم أصناف البذور البلدية، بل وأحيانا اختفاء بعضها نهائيا؛ ذلك أنه منذ سنوات طويلة عمدت شركات البذور والكيماويات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى إلى إخفاء البذور الفلسطينية البلدية من السوق، لتحل مكانها البذور المهجنة (الصناعية)، ما أرغم المزارعين المحليين على شراء هذه البذور وما يلزمها من كيماويات في كل موسم جديد. وهذا يعني زيادة في التكلفة والتبعية لشركات البذور والكيماويات الإسرائيلية والأجنبية التي تضمن بذلك استمرارية التحكم بالغذاء الفلسطيني وحرمان الشرائح الشعبية من السيادة على غذائها.
ويضيف كرزم هو خبير بيئي "لتعزيز التوجه الاستراتيجي نحو جمع البذور المحلية الأصيلة وإعادة استخدامها وإكثارها، لا بد من تركيز العمل البحثي والإرشادي الزراعي على تفنيد الأفكار الخاطئة الشائعة. فعلى سبيل المثال، يفترض العديد من المزارعين الفلسطينيين خطأ بأن البذور والأشتال المهجنة (الصناعية) تعطي إنتاجا أكثر وبأن زراعتها أسهل؛ متجاهلين استهلاك مثل هذه البذور لكميات كبيرة من المياه وحاجتها إلى المبيدات والأسمدة الكيميائية الضارة بالتربة، فضلا عن الكثير من الخدمات الأخرى. كما يجهل البعض بأن الشبكة الجذرية للأشتال المهجنة (الصناعية) لا تخترق التربة مثل الأشتال البلدية التي تتمدد جذورها عميقا وبقوة أكبر لتفتش عن الرطوبة في باطن الأرض حتى وإن لم نروها.
وفي المقابل، عند الاعتماد على البذور المحلية الأصيلة أو البلدية، يكون تدفق الثروة ورأس المال باتجاهين (من المزارعين إلى المجتمع المحلي وبالعكس)، بمعنى أن إنتاج واستخدام البذور البلدية محليا، يضمنان بقاء الثروة ورأس المال وتدويرهما في نفس البلد، ذلك لأن الاعتماد على المستلزمات الزراعية من بذور بلدية وسماد بلدي وسماد أخضر وحيوانات وأيدي عاملة وغير ذلك، يكون في إطار نفس دائرة الإنتاج والاستهلاك المحلية، ناهيك عن أن المستلزمات الزراعية الأساسية (البذور والأسمدة البلدية والعضوية مثلا) يستطيع أن ينتجها المزارعون بأنفسهم؛ الأمر الذي يعزز بدوره الاعتماد على الذات ويحقق السيادة الوطنية على البذور وبالتالي على الغذاء، حسب كرزم.