بقايا الطعام .. الكنوز التي نهدرها!
لو تجوّلت بين الفلسطينيين اليوم ستجد الكثيرين منهم يؤمنون أن "كب الأكل حرام" في حين أن نسبة لا بأس بها لم تعد تُبالي كثيرًا بأفكار بيئية أصيلة توارثها أجدادنا جيلًا بعد جيل، كعدم القبول بفكرة القاء الخُبز في القمامة، بل إن بعض كبار السن لا يُمكن أن يحتمل رؤية قطعةٌ من الخبز ملقاة على الأرض، بينما أكثرنا قد لا يتعامل مع الموضوع بنفس الحساسيّة.
لا شك أن أفكار تدوير الطعام لا تنتهي، ولكن لا بُد أن نتذكر أن التحدي الحقيقي يكمن في تطبيقها وتبسيطها قدر الامكان والاستمرار فيها، كي يكون لها أثرًا محمودًا على أرض الواقع.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يُحكى أن أمراء الأندلس كانوا إذا أرادوا الطعام، جعلوا على موائدهم كُل ما تشتهيه أنفسهم من اللحوم والأسماك والأرز والخضروات، وكالعادة كانت "البقايا" كثيرة والجميل أنها لم تكن تُلقى في القمامة، بل كانت تُعطى للخدم والفقراء من العامّة، وكانت الأصناف تختلط ببعضها البعض إلا أن ذلك لم يكن ليُفقدها طعمها اللذيذ، وما إن يُعاد تسخينها حتى تبدو كما لو كانت طبقًا فريدًا، وبالفعل فقد استظرفه الناس وتحوّل مع الوقت إلى طبق يُسمى «بايللا Paella» أو «باييَّة» كما تُلفظ في الاسبانية، وهي ليست إلا كلمة «بقيّة» أو«بقايا» بالعربية، ولا زال هذا الطبق من أشهر الأطباق في اسبانيا حتى اليوم.
في هذه الأيام أيضًا، لو تأملنا إحصائيات هدر الطعام سنجد بلدًا مثل السعوديّة في الصدارة كما جاء في صحيفة "سبق" التي أشارت إلى أن الفرد السعودي يهدر ما لا يقل عن 250 كيلوجرامًا بالمعدل، ولا شك أن المُشكلة ليست في السعوديّة فقط، ففي ألمانيا مثًلا يلقى أكثر من ثُلثي الطعام المستهلك من القطاع المنزلي في القُمامة كما تؤكد الاحصائيات، وحتى في الضفّة الغربية والقطاع فإن كميّات النفايات العضويّة تُقدر بـ 60% من النفايات ولا شك أن الكثير من هذه النفايات هي بقايا الطعام.
لو تجوّلت بين الفلسطينيين اليوم ستجد الكثيرين منهم يؤمنون أن "كب الأكل حرام" في حين أن نسبة لا بأس بها لم تعد تُبالي كثيرًا بأفكار بيئية أصيلة توارثها أجدادنا جيلًا بعد جيل، كعدم القبول بفكرة القاء الخُبز في القمامة، بل إن بعض كبار السن لا يُمكن أن يحتمل رؤية قطعةٌ من الخبز ملقاة على الأرض، بينما أكثرنا قد لا يتعامل مع الموضوع بنفس الحساسيّة.
هذا "التكريم" للخبز لم يتوقف عند رفعه عن الأرض، بل إن أفكارًا إبداعيّة وخلاقة نتجت عن ذلك مثل صناعة "الكنافة الكذابة"، وهي حلوى مُشابهة جدًا لحلوى "الكنافة" ولكنها تعتمد في تجهيزها على بقايا "الخبر الافرنجي" أو "الفينو" و"التوست" بعد تجفيفه وطحنه جيّدًا ومع إضافة الحليب والنشا والقشطة والمستكة يُمكن تذوّق حلوى لذيذة، وللعلم فهناك "عيش السرايا" يُمكن تجهيزها كذلك من بقايا خبز "التوست" وهي لذيذة ومعروفة جدًا.

ومن يبحث جيّدًا سيجد أن شعوبنا أبدعت في مجال الاستفادة والابتكار من بقايا الخبز حيث نجدها حاضرة في سلطة الفتوش كما نجدها في مطاعم الوجبات السريعة كمُقبلات بعد أن يتم تحميصها وقليها بالزيت، فتصبح مُقرمشة ولذيذة، والأهم أن تحضيرها بسيط جدًا ولا يتطلب مهارات خاصّة.
ومن المعلومات المميزة التي جاءت في موقع "أطيب طبخة" وقد يجهلها الناس عن فوائد بقايا الخبز، أنها مفيدة جدًا في إزالة رائحة الحريق عن الأرز بعد احتراق شيء منه عند الطبخ، وذلك بنقل الأرز إلى قدر آخر ثم وضع شريحتين من بقايا الخبز فوق الأرز وتغطية القدر.
إحدى الأمور التي لا نُفكر فيها ونحن "نهدر" الطعام، أننا لا نهدر الطعام الذي أمامنا فحسب، وكما يُقال فإن المخفي أعظم، وإذا فكرّ الانسان كمهندس متخصص في الإدارة البيئية فإن ذلك يُحتم علينا أن نُراقب قطعة الخبز أو طبق الأرز الذي أمامنا من لحظة "ولادته" إلى وصوله المائدة، وهذا يعني أننا يجب أن نطرح أسئلة مثل: "أين زُرع الأرز؟" و"كم استهلكت زراعته من المياه؟" ثم "هل يُعاني ذلك البلد من مشاكل مائيّة أصلًا" وأسئلة أخرى كثيرة جدًا، وطبًعا نحن لسنا مُطالبين بذلك وإلا لأصبحت الحياة مُعقدة جدًا، ولكن لا بأس بأن نعلم بأن طبق الأرز لوحده يستهلك من حين زراعته إلى وصوله إلى المائدة حوالي 350 لتراً من الماء وهو ما يُعرف علميًا بالبصمة المائية Water Footprint، وإذا كان هذا الحديث عن الأرز فقط فلنتخيّل كميّات المياه التي تهدر على موائدنا كُل شهر.

الأكيد أن بيننا من يُفكّر مرّات عديدة قبل يُلقى الأرز في القمامة، ولو بحثنا سنجد بعضنا يستغل الأرز المتبقي في صناعة أطباق أخرى، وفي مصر مثلًا، نجد فيها من يستخدم بقايا الأرز في صناعة أحد أشهر أطباقهم وهو "الكُشري" وفكرته مشابهة لفكرة "الباييا" الأندلسيّة، ولكن المكونات مُختلفة وهي خليط من الأرز والمعكرونة والعدس البُني والحمص، ولمن لا يعرفه بإمكانه أن يُشاهد هذه الحلقة من برنامج «حكاية طبق» التي استعرضت حكايته وحكاية حُب الناس له في مصر.
ولأن الموائد نادرًا ما تخلو من اللحم، كما كان في السابق حيث كان تناول اللحوم بشكل يومي محصورًا في الطبقات الغنيّة بينما الفقراء كانوا يتناولونه مرّة أو مرتين أسبوعيّا، هذا غير من كان يتناوله في الأعياد والمناسبات فقط، وبلا شك فإن فكرة القاء اللحوم في القمامة لم تكن واردة حينها في الحُسبان، بيد أنها اليوم شائعة جدًا ولها عواقب بيئيّة وخيمة على مسألة الاحتباس الحراري!
كيف ذلك؟ الطلب المُرتفع على اللحوم فرض على المُزارعين تربيّة أعداد أكبر من الماشيّة والبقر بشكل خاص، ولا شك أن هذه الأبقار لا تحظى بأحسن ظروف معيشيّة كأن ترتع في أحضان الطبيعة، ولكن يتم تربيتها في أماكن مكتظة ويتم تغذيتها بالشكل الذي يضمن أن تسمن بأسرع وقت ممكن، وكما نعلم فإن عمليّة الهضم تصحبها إفرازات وغازات وأشهرها غاز الميثان، وهو غاز مُفيد جدًا بلا شك، إذا ما تم تخزينه ومُعالجته، ولكن المُشكلة أن غازات الميثان الناجمة عن ملايين الأبقار لا تُستغل، فتجد طريقها إلى طبقة الأوزون والمهم هُنا أن غاز الميثان أكثر ضرراً على البيئة من غاز ثاني أكسيد الكربون بمرات كثيرة وبشكل أدق: هي أخطر منه بـ 20 مرّة.
إذا فكّرنا بكل هذا، ثم فكّرنا بالإحصائيات التي تؤكد بأن انتاج كغم من لحم البقر يستهلك حوالي 15 ألف ليتر من المياه وهي كميّة ضخمة إذا ما علمنا أن المياه التي نستهلكها للاستحمام في العام هي 1500 لتر، هذا غير المساحة التي يحتاجها انتاج ذلك، وهذا غير الوقود الذي استهلك في انتاج الطاقة في الزريبة ثم في النقل وفي الذبح والتعليب وحسابات أخرى معقدة، لا حاجة لنا بها، لكننا بحاجة إلى التفكير جيدًا قبل إلقاء كل تلك الموارد في "القمامة".
بالعودة إلى عالم ربّات المنزل، سنجد من تأخذ ما تبقى من اللحوم المطهيّة وتحولها لطبق جديد، كأن تُفرم وتقطع بقايا اللحوم مع شيء من البصل والتوابل وتحولّها إلى "شاورما" مثلًا وهي من أبسط الأفكار.
في الواقع فإن هناك الكثير من الأفكار البسيطة التي يُمكنها أن تُقلل من هدرنا للطعام، من هذه نذكر أن المُخللات التي يبدو عليها شيء من الذبول يُمكن تحويلها لسلطة بعد أن نُضيف إليها شيئاً من الخضروات والزيت، وحتى الخضروات الزائدة أو حتى ما يتبقى منها كبقايا "الكوسا" عند حفره يُمكن استخدام اللب في إعداد سلطة لذيذة مع الطحينية مثلًا، وكذلك بقايا المعكرونة يُمكن أن يصنع منها سلطة باردة بعد إضافة شيء من الذرة والزيتون، ولا ننسى أن الكثير من الفواكه التي تزيد في منازلنا وتذبل ونُسارع إلى رميها يُمكن أن يُجهز منها أفضل أصناف المربى أو حتى عصير كوكتيل رائع.
من الأفكار البديعة التي لا يُمكن أن نختم تقريرًا كهذا دُون ذكرها هي حديث الكاتبة سميرة الكيلاني عن استغلال بقايا المشروبات في كتابها "عندي فكرة" وتذكر فيه أن لدى والدتها شجرة ياسمين ذات ألوان بديعة وغريبة والسبب أنها تسقيها من بقايا الشاي والقهوة، وتنصح الكاتبة قائلة: " لا ترموا باقي الصودا أو السفن آب، بعد أن تطير المواد الغازيّة منها، فهي الأنسب كيماويًا لإعطاء النباتات حيوية ونشاط ولون نضر."
لا شك أن الأفكار لا تنتهي، ولكن لا بُد أن نتذكر أن التحدي الحقيقي يكمن في تطبيقها وتبسيطها قدر الامكان والاستمرار فيها، كي يكون لها أثرًا محمودًا على أرض الواقع.