خاص بآفاق البيئة والتنمية

توقف محطة التحلية بدير البلح بسبب انقطاع التيار الكهربائي المستمر
في ظل تواصل أزمة الكهرباء الحادة في قطاع غزة، والتي تقترب من دخول شهرها الثالث نتيجة شح كميات الطاقة الموردة للسكان من المصادر الثلاثة (الإسرائيلية، المصرية والمحلية)، تفاقمت الأزمات العديدة التي تعصف بالقطاع، وأهمها تلك التي أصابت قطاعات الصحة والبيئة، مما ينذر بأمراض خطيرة، تهدد حياة سكّان غزة المحاصرة.
أبرز ما ظهر من أزمات مع بداية النقص الحاد في موارد الطاقة، والذي وصل إلى أكثر من الثلثين، كان تلك الأزمة التي أصابت القطاع البيئي، مع عدم قدرة محطات معالجة مياه الصرف الصحي على العمل بالشكل المطلوب، ما اضطر البلديات التي أوكِل لها إدارة هذا الملف، لضخ كميات كبيرة من المياه العادمة إلى البحر دون إجراء أي معالجة.
هذا الواقع البيئي الكارثي يهدد موسم الاصطياف هذا العام على بحر قطاع غزة الساحلي الضيق المحاصر، الذي يعد المتنفس الوحيد للسكان المحاصرين، في ظل تحذيرات سلطة المياه ومختصين بيئيين من ارتفاع نسب الخطر الذي يهدد حياة السكان، الذين بالأصل يعانون من سلسلة مشاكل لا حصر لها جرّاء الحصار الإسرائيلي الممتد منذ نحو 11 عامًا.
الخبير في الشأن البيئي الدكتور أحمد حلس يقول أن أهم مصادر التلوث ومشاكل منطقة الساحل في قطاع غزة، هو ضخ مياه الصرف الصحي إلى البحر دون معالجة؛ بسبب استمرار انقطاع التيار الكهربائي.
ويشير إلى أن أزمة الطاقة أدت إلى توقف غالبية المنشآت التي لها علاقة بالصرف الصحي كمضخات الرفع ومحطات المعالجة، بالإضافة لعدم وجود التمويل الكافي لتغطية الوقود اللازم لعمل المولدات التي تعمل على تشغيل محطات المعالجة في أوقات الطوارئ، خاصة وأن هذه المولدات لا تستطيع العمل على مدار 24 ساعة لتوفير الكهرباء لهذه المحطات ما يؤدي إلى توقفها، وبالتالي تتدفق المياه الملوثة القادمة من الأنشطة البشرية الحياتية في القطاع، كالمستشفيات والمصانع والورش والمنازل والمؤسسات، حاملة معها كل الملوثات البيولوجية والكيميائية والفيزيائية، ما ينذر بكارثة بيئية وصحية خطيرة لا يُحمد عقباها.
ومنذ أن بدأت أزمة الكهرباء الجديدة في القطاع، بعد توقّف محطة التوليد عن العمل، وتعطل الخطوط المصرية التي تغذي جنوب غزة بكميات قليلة، بات التيار القادم من إسرائيل يزود السكان بأربع ساعات وصل، مقابل 12 ساعة قطع، أي كمية 120 ميجا واط، من أصل 450 إلى 500 ميجا يحتاجها السكان، ما يعرقل أي مشروع لمعالجة المياه العادمة.
تلوث كبير
ويقول د.حلّس أنه يتم وبشكل يومي ضخ أكثر من 110 آلاف متر مكعب من المياه العادمة على طول ساحل بحر قطاع غزة، الامر الذي يجعل ما يعادل 70% من شواطئ القطاع مناطق ملوثة ويحظر السباحة فيها أو الصيد فيها.
ويشير إلى أنه في كثير من مناطق البحر تغير لون المياه فيها إلى البني الداكن نتيجة التلوث، بالإضافة إلى تآكل الشاطئ في تلك المنطقة ما يهدد الطريق العام ومنازل المواطنين هناك مع مرور الوقت، إضافة إلى ضرر مستقبلي يهدد مناطق حوض الميناء البحري (ميناء الصيادين)، والشاطئ المتاخم لمنطقة الشاليهات، وبحر الشيخ عجلين الذي يُضخ إليه بشكل يومي أكثر من 65 مليون لترًا من المياه العادمة الملوثة والغير معالجة بشكل صحي.
ويقول حلس أن هناك أيضًا العديد من المناطق التي يتم فيها ضح المياه الملوثة دون معالجة، وهي ساحل مخيم النصيرات وسط القطاع، ومنطقة المواصي وبحر مدينة رفح جنوب القطاع.
ويؤكد أن كل هذه الشواطئ التي تستعد لاستقبال المصطافين مع حلول فصل الصيف ملوثة بتركيزات عالية من المياه العادمة الغير معالجة.
ويقول أن أفضل طريقة لحل المشكلة هي معالجة المياه العادمة بشكل يكون فيه مستوى تلوثها متناسباً مع قدرة البحر على هضم هذا التلوث (Self-Purification)، وأن يتم ضخ المياه العادمة المعالجة على مسافة لا تقل عن 500 الى 600م على الأقل داخل مياه البحر، وتفريغها عن طريق شبكة خطوط، حتى يتم هضم الملوثات بشكل سريع، دون التأثير على صحة الانسان أو على الثروة السمكية.
من السمك إلى الإنسان
وقد حذّر حلّس من خطر صيد السمك بالقرب من مصبات المياه العادمة أو في حوض الميناء الأكثر تلوثًا، كون بعض أنواع الأسماك تنجذب نحو المواد الغذائية الوفيرة الموجودة في المياه العادمة كالبوري وغيره، فتتراكم السموم والمواد الكيميائية وبعض أنواع الميكروبات الدقيقة كالفايروسات والبكتيريا داخل أنسجة جسم السمكة أو بين قشورها وتحت الخياشيم، مشيراً إلى أنه ومع مرور الوقت تتضاعف كمية هذه السموم كالعناصر الثقيلة المسرطنة (الكوبلت والنيكل والرصاص والزئبق والنحاس والحديد)، والتي تؤثر بشكل رئيس على الأطفال ذوي المناعة المنخفضة، وعلى النساء الحوامل، وأصحاب الأمراض المزمنة التي تكون مناعتهم ومقاومة أجسامهم ضد الميكروبات ضعيفة جداً، ما يهدد حياتهم بشكل كبير.
ويتفق الصياد محمد أبو حصيرة في حديثه مع د.حلّس، حيث قال إن مشكلة انقطاع التيار الكهربائي كان لها أثرٌ سلبيٌ ملحوظٌ على البيئة البحرية؛ لأن انقطاع الكهرباء يعيق معالجة مياه الصرف الصحي التي تصل إلى مياه البحر، وبالتالي تصل البحر وتنتشر على مساحة كبيرة بسبب تيارات الحمل (التيارات البحرية) والتي أثبتت دراسات عديدة تحركها باتجاه الشمال على طول الساحل، وكذلك حركة المد والجزر والأمواج التي تحرك الملوثات باتجاه رمال الشاطئ.
ويؤكد د. حلّس أن كل ذلك يعيق على الصيادين الهواة والمتمرسين رؤية الأسماك، بسبب تغير لون المياه وارتفاع معدل العكارة (العوالق)؛ وبالتالي إعاقة عملية الصيد.
الجدير ذكره هو أن تلوث مياه البحر ليس المشكلة الوحيدة التي يعاني منها قطاع غزة ذو الـ378ـكم2، فهناك مشاكل أخرى اكثر تعقيدًا، في مقدمتها مشكلة تلوث المياه الجوفية -المصدر شبه الوحيد للشرب في القطاع- بمياه البحر ومياه الصرف الصحي، وتلوث التربة الزراعية بسبب الاستخدام المفرط للمبيدات الزراعية الكيماوية وكذلك مخلفات الصواريخ نتيجة الحروب المتكررة التي شنتها إسرائيل ضد غزة، وكذلك تفاقم وتراكم النفايات الصلبة وخصوصًا الطبية منها وحرق تلك النفايات وتجميعها في المناطق المأهولة بالسكان، وتلوث الهواء والتلوث البصري والضوضائي وغيرها من المشاكل التي أضحت كابوسًا ينغّصُ على الغزيين التمتع بجمال بيئتهم.
وقد زادت حدة هذه الأزمات، تفجّرُ مشكلةِ الكهرباء الجديدة التي بدورها أدت إلى تضرر القطاع الصحي بمرافقه وأجهزته، وأدت إلى توقف عجلةِ الاقتصاد العام وأثّرت على كافة مناحي الحياة في القطاع، الأمر الذي أثَّر سلبا على الحالة النفسية والاجتماعية لدى المواطن، وانعكس على سلوكه ومسؤولياته تجاه البيئة وعناصرها المختلفة.