خاص بآفاق البيئة والتنمية
رباح أبو الوفا في سوق جنين العتيق
يصمد رباح رفيق أبو الوفا في سوق جنين العتيق بين أكوام الخضار بألوانها المختلفة منذ عام 1960، حيث وقتها كان طفلاً بُترت ذراعه اليمنى وتشوه وجهه بعد انفجار قنبلة من مخلفات الجيش الأردني الذي عسكر قرب بلدته الزواية جنوب جنين.
قال وهو يحتمي من الشمس بكوفية بيضاء ويضع نظارة سوداء على وجهه المحترق: لم أتعلم في حياتي، وبدأت مذ كنت 14 سنة العمل في سوق الخضار هذا، أبيع واشتري، وانتقلت للعيش من قريتنا إلى المدينة، وماتت كل أجيالي من التجار وبقيت أنا، كما رحلت البائعات الأربع: أم ناصر، وألماظة، ووردة، وجميلة عن الدنيا.
أوزان
وبحكم إعاقة أبو الوفا، فإنه صادق الأصناف الخفيفة كالفلفل والبندورة والخيار والباذنجان، وابتعد عن العمل بالبطيخ والبطاطا والأوزان الثقيلة. ولم يختر أن يجلس في البيت، أو أن يتسوّل بدعوى العجز والمرض، منحازاً منذ أكثر من نصف قرن للفلفل الأخضر.
وأضاف: "أنا ملك الفلفل، فوزنه خفيف، وأستطيع التعامل معه دون مساعدة أحد، وأرباحه وخسائره قليلة، وصرت معروفًا به دون غيري في السوق، ويأتيني الزبائن بحثَا عن بضاعتي، ولا أتعامل بغير الفلفل الأخضر البلدي، فالملون والأحمر لا حاجة لي بهما. وأحرص على تناول الفلفل يوميًا، وأخزنه مكبوسًا مع البندورة".
وأضاف وهو يسترد تفاصيلاً قديمة: كنا نكسب باليوم دينارًا واحًدًا، وكان يكفينا وزيادة، واليوم لو نربح 100 شيقل، لا نشعر ببركتهن، فالحياة غالية جداً، وما عادت البضاعة مثل الماضي في طعمها ومواعيدها.
روائح
وبحسب شريط ذكريات أبو الوفا الذي يعود إلى القرن الماضي، فإن رائحة الخيار والبندورة الطبيعية كانت تفوح من مسافات بعيدة، ولا تصل السوق إلا في مواعيدها الموسمية، التي تختلف عن خضار اليوم المليئة بالكيماويات. مثلما لم تكن جنين تعرف الخضروات القادمة من مدن مختلفة، فكل شيء من سهولها التي للأسف غزاها الاسمنت وزحف العمران هذه الأيام.
وتابع بابتسامة طوقت المساحات القليلة المكشوفة من وجهه: يبدأ نهاري من ستين سنة قبل بزوغ الشمس، وأرجع إلى البيت بعد الغروب، ولا أرتاح غير يوم الجمعة. ومعظم الأيام أكون في حسبة قباطية لشراء الخضروات، وأخذ إجازة في المواسم لزيارة أختي في عمان.
قرر أبو الوفا الانقطاع عن العمل، في أيام الحصار ودخول الدبابات إلى جنين، كونه لم يستطع الفرار بنفسه وببضاعته في اللحظات الحرجة، كما أنه يصرُّ على القيام بكل أعماله بنفسه، ولا ينتظر المساعدة من أحد، كما آثر أن لا يستخدم الميزان التقليدي المحمول؛ لصعوبة التعامل معه.
رباح أبو الوفا ملك الفلفل
كيماويات
وتابع: "اليوم الخضروات كلها كيماويات وأسمدة، وغابت عنا الأصناف البلدية، ولم نكن نعرف الخضروات إلاّ في المواسم، واليوم يتحول فلفل الأغوار إلى "شريطة" بعد يومين من قطفه".
وتأخر زواج أبو الوفا كثيراً، ولكن وهبه الله أربعة أولاد وثلاث بنات: أكبرهن في الرابعة والعشرين، وأصغرهم في الرابعة عشرة. وتابع: لو كنت مسؤولًا عن تنظيم الحسبة، لوزعت التجار بطريقة تعطي لكل واحد حقه في البيع والشراء، وحين غيرت موقعي القديم في السوق، خسرت 700 شيقل.
وعارض الراوي المثل القائل "إن يدًا واحدة لا تُصفق"، لأنه فعلَ بيده كل شيء لالتقاط رزقه، معاينة الأصناف المختلفة، ومعرفة جودتها، وإعادة الفكة إلى الزبائن، وتهيئة الأكياس للمشترين، فيما يحظى باحترام زبائنه، ومنافسيه من التجار الشباب على حد سواء.
وختم بمرارة: "وقعت ضحية لخطأ طبي، حيث كنت من أوائل المرضى الذين يدخلون مستشفى جنين، ويومها قطع الطبيب يدي، مع أن أصابعي هي التي جُرحت".
فيما قال التاجر الخمسيني أحمد الفحماوي: "قبل أربعين سنة كنا نعذّبُ العم رباح، ونجلس في داخل عربته، واليوم هو زميلي، وحارس السوق الدائم، ودون وجوده لا طعم للحسبة.
aabdkh@yahoo.com