الـــبيــئــة بـيـن الديناميكية الاستهلاكية والـمــوروثــات الثـــقــافــيــة (الجزء1)
باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية
تعد قضية البيئة من المشكلات المتعددة الأوجه والأبعاد، وتتميز بطابعها التراكمي، ومحصلة لعلاقة تفاعلية بينها وبين الإنسان عبر السنين، التي ازدادت عمقا مع التطور العلمي والتكنولوجي. لهذا غالبا ما يتم ربط جذور أزمتنا البيئية بالثورة الصناعية الغربية التي كانت نتاج التطور العلمي والتكنولوجي، ونتحاشى الموروثات الثقافية التي دفعت إلى تغيير السلوك الإنساني في علاقته مع الطبيعة.
فعلا، لا أحد ينكر أن الثورة التكنولوجية التي خاضها العالم المتقدم، أسفرت عن استنزاف مهول للموارد البيئية وبلغت ذروتها في النصف الثاني من القرن الماضي، وأدت إلى فقدان الأنظمة البيئية قدرتها على التجدد التلقائي وأخلت بالتوازن الطبيعي... مما أصبحت معه النظم الأخرى الداعمة للحياة الاقتصادية والاجتماعية تفتقر إلى الاستقرار العالمي. وهذا ما أسمته بعض التيارات الايكولوجية الجذرية (الراديكالية) بغطرسة الإنسان وتمركزه في الطبيعة؛ وغالبية هذه التيارات تحمل المسؤولية المباشرة للسلوك البشري فرديًا كان أو جماعيًا نحو الطبيعة للموروثات الثقافية والمعتقدات والقيم.
نجد على رأس هؤلاء الإيكولوجي أرنولد توينبي و المؤرخ الأمريكي لين وايت Lynn White بأطروحته التي حملت عنوان" الجذور التاريخية للأزمة البيئية"، و سالي ماك فاغ Sallie MacFaque... فهم يتهمون بعض الأفكار الدينية في إحداث الأزمة البيئية خصوصًا المسيحية في نسختها الغربية، وأيضا الأفكار الفلسفية التي تعزز من مكانة الإنسان خاصة الفلسفة الرواقية التي جاء في تعاليمها أن الإنسان هو الغاية القصوى للطبيعة، وأن جميع الموجودات مخلوقة لخدمته...
في الحقيقية قد أثارت هذه المبررات جدلا كبير ورفضا مطلقا من قبل رجال الدين وأيضا من قبل من يتبنى العوامل المادية والاقتصادية أمثال إتيان فيرميرش عبر نظريته المسماة "مركَّب STC"، حيث يرون أن الترخيص للإنسان في معاملة الطبيعة والحيوان معاملة سيئة ومنح الإنسان مكانة متميّزة أو استثنائية مقارنة ببقية الكائنات، لا تعني بأي حال من الأحوال، أنه ترخيصًا من الله للإنسان ليفعل ما يريد، بل هو استثناء يجب النظر إليه بمثابة تكليف بالمسؤولية.
وعلى ذلك فنحن نتساءل عما إذا كانت الأفكار الدينية مهمة حقا لدرجة تشكيل الأفكار الغربية عن الطبيعة تشكيلا جعل من الممكن تسخير العالم الطبيعي على نحو أكبر؟ ثم ما البديل الذي قدمه هؤلاء الايكولوجيين الراديكاليين كحلٍ للخروج من الأزمة البيئية؟؟؟
في الحقيقة طبيعة هذا الموضوع تفرض علينا تناوله في جزأين: الأول نناقش فيه أهم المقاربات المثالية التي ساقتها التيارات الإيكولوجية والحلول البديلة التي تقترح تبنيها، أما الجزء الثاني عن المواقف المضادة لهذه التيارات وأيضا عن المقاربات المادية.
- قوة الموروثات الثقافية في إحداث الأزمة البيئية
لعل التأثير القوي للأديان والتقاليد الروحية في سلوك البشر، هو الذي دفع المفكرين للبحث في القضايا البيئية واستقصاء الصلات المحتملة بينها وبين الأديان وتعاليمها ونظراتها. فكيف تم عقد الصلة بين الدين والمعتقدات بما تعانيه الأنظمة الإيكولوجية؟؟؟ وهل لأفكار أخرى القدرة على تلمس الحلول لها؟ وهل ثمة تباينات بين الأديان يمكن رصدها في هذا الصدد؟
لقد ظهرت دراسات وبحوث تأخذ في منظورها هذه الأسئلة، ومن أهم هذه الدراسات؛ ما نشره المؤرخ الأمريكي لينْ وايتْ Lynn White لنصه المشهور "الجذور التاريخية لأزمتنا الإيكولوجية" الذي تقدم به إلى المؤتمر السنوي للجمعية الأميركية لتقدم العلوم (American Association for the Advancement of Science)، وكان ذلك يوم 26 ديسمبر1966. وتعد أطروحته بمثابة إصلاح جديد أكثر جذرية من إصلاح لوثر وكالفن، وقد نشأ عنها جدال مثير وطويل لا يزال مستمرًا إلى يومنا هذا.
فحسب تأويله للنصوص، يرى وايت أن الأديان السماوية هي المسؤولة خاصةً المسيحية التي ورثت عن اليهودية فكرة سيادة الإنسان على الطبيعة ومخلوقاتها، كما ورد في قصة التكوين التوراتية التي اعتمدتها المسيحية، حيث قضت إرادة الله أن يستغل الإنسان الطبيعة لمنفعته لأنه مخلوق أسمى من المخلوقات الأخرى.
فهو وغيره من الإيكولوجيين ينطلقون في هذا الاتهام من نصوص دينية مأخوذة من الإنجيل والتوراة، مثل:{{وباركهم الله وقال لهم: أثمروا وأكثروا و أملؤوا الأرض، وأخضعوها وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض}} ()سفر التكوين 28:1) ، وأيضا {{وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وطير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض}}(سفر التكوين 26:1)...
يقول وايت: {{ في القديم كان لكل شجرة ومنبع ماء وجبل حارس من الجن...وقبل قطع أي شجرة أو فتح معبر خلال جبل، أو تغيير مجرى ساقية، كان لا بد من إرضاء ذلك الحارس}} . وعلى خلاف هذا أفرغت المسيحية الطبيعة من كل حضور إلهي أو شيطاني يمنحها قوة أو معنى، فعوّضت بذلك النظرة القديمة، التي كانت تنظر إلى الأرض كمكان مقدس، بنظرة جديدة تنظر إلى الطبيعة كمورد لإشباع حاجات البشر، وحلّ تمجيد الإنسان محل تمجيد الطبيعة، وأصبح بإمكان الإنسان أن يحكم العالم.
وبالتالي وحسب وايت فإن الغرب وحده، وتحت تأثير المسيحية الغربية لا الشرقية، أنتج تكنولوجيا مهيمنة على الطبيعة، حدّدت مسار"الثورة العلمية والصناعية" التي أدّت إلى تدمير الطبيعة، فقد دفعت بالتطور العلمي والتقني إلى نتائجه القصوى حين منحت الإنسان مكانة متميزة وسط الكون، ورخصت له بالهيمنة على الطبيعة.
وفي نفس الاتجاه نجد أيضا أرنولد توينبي يطرح المسألة على النحو التالي: "... وفحوى هذه المقالة أن بعض أمراض عالم اليوم الكبرى-مثل السفه واستهلاك كنوز الطبيعة التي لا تعوض وتلويث ما لم يتبدد منها- إنما يرجع في خاتمة المطاف إلى سبب ديني وهذا السبب هو ظهور التوحيد..."؛ وأشار توينبي إلى الإنسان السابق على التوحيد فقال إن الطبيعة بالنسبة له: "لم تكن مجرد كنز نفيس من الثروات الطبيعية وإنما كانت آلهة الأرض الأم، وكل النباتات التي انبثقت من الأرض والحيوانات التي تمشي في مناكبها مثل الإِنسان نفسه، والمعادن المطمورة في الأرض كلها تشارك في ألوهية الطبيعة"... فالإنجيل لم يسلب الطبيعة قداستها ورهبتها القديمة فحسب لكي ينصب إلها خالَقا أسمى، بل إنه نصح البشر بصفة خاصة أن يقهروا العالم الطبيعي.
فقد انخرط في هذا الخطاب المضاد للمسيحية الذي رفع لواءه لين وايت، العديد من الإيكولوجيين الذين ينتمون إلى ما يسمى"الإيكولوجيا الراديكالية أو الجذرية"، أمثال: ميشال مافيسولي Michel Maffesoli ، وإدوارد غولد سميث Edward Goldsmith، وأيضا المفكر الرياضي والإيكولوجي المعروف ميشال سار Michel Serres ...
كما صرّح بهذا الخطاب المضاد للمسيحية والأديان السماوية إيفان إليتش Ivan Illich وهو قس سابق، وسانده أوجان دريورمان Eugen Drewermann الذي سعى في كتبه" موظفو الإله " و "التطور المميت" و "في خلود الحيوان" إلى الكشف عن الجذور اليهودية-المسيحية للأزمة البيئية؛ وملخص ما جاء في كتبه أن علاقة الله بالعالم في الديانة المسيحية هي علاقة تسلط، وأن الكائن الوحيد المحبوب من الله هو الإنسان، وهو ما يعني، في رأيه، أن الطبيعة لم تُخلق إلا لخدمة الإنسان، ويعني أن المركزية البشرية ذات أصل مسيحي هي التي أعاقت تطور الوعي الإيكولوجي...
لكن المفارقة العجيبة في جدال ونقاش هؤلاء الإيكولوجيين، تكمن في الحلول التي يقدموها عبر سعيهم في صياغة أخلاق بيئية في اعتناق ثقافات الشرق الأقصى والأديان القديمة المؤمنة بتعدد الآلهة، كالهندوسية والبوذية والطاوية، لأنها لم تميز تمييزا شديدا بين الإِنسان والطبيعة أو بين الحيوان والجماد، وكانت ترى في كل شيء حتى الصخور والأحجار تسري فيه الحياة، وكانت الكائنات الحيوانية والنباتية تعدُّ على وجه التأكيد "حية" كالبشر سواء بسواء.
وهذا ما يعرف بـ "كوسمولوجيا جديدة" أو "أخلاق جديدة" للبيئة المعطوبة. كيف ذلك؟؟؟ ثم هل فعلاً المثل العليا التي تدعيها هذه الديانات، ألا تتناقض بين المواقف من البيئة والسلوك؟؟؟
- صياغة أخلاق بيئية جديدة عبر تبني المثل العليا:
إذا عدنا إلى أطروحة لين وايت نجده يخبرنا أن فكرة مقالته جاءته وهو يرقب البوذيين في سيلان يشقون طريقا، "اكتشف ثقوبا في أرض الطريق المطلوب شقه تركت وشأنها ثم اكتشف أنها أوكار ثعابين وقد امتنع البوذيون عن تدميرها حتى تغادر الثعابين من تلقاء نفسها مكان العمل". ولم يكن في وسع وايت إلا أن يلاحظ عدة أشياء من بينها "أن الذين يشيدون الطريق لو كانوا من المسيحيين لكان مصير الثعابين مختلفا"... ومن هنا نجد وايت يدعو إلى الانفتاح على ثقافات أخرى تعظِّم المحيط الطبيعي، أي التوجّه الثيولوجي (الأديان الآسيوية بالتحديد).
إذ تجد واقع ثقافات الشرق الأقصى يصرون علىَ أن العالم الإنساني والعالم الطبيعي واحد، ففي إحدى الروايات من كتاب الهندوسي المقدس يعود إلى حوالي عام 700 ق.م، أن بعض كهنة الهندوس كانوا ينطلقون للعيش في الغابة ولا يرافقون سوى الحيوانات والحشرات والنباتات، فهم يبحثون عن التواصل المستمر مع ألوهية الطبيعة؛ ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك كجواناما سد ضازطا حوالي 500 ق.م، المسمى ببوذا (المستنير).
والأكثر غرابة أن هذه ثقافات لم تفقد ولم تتغير رغم تطور المجتمع، لا يزال البعض لا يأكل البقر والبعض الآخر لا يأكل الخنازير وذلك لأنهم يشعرون بوجود علاقة قوية، كما أن كهنة الهندوس كثيرا ما يحثون الناس على أن يعاملوا كل الأشياء الحية بالطريقة نفسها التي يعاملون بها "أبقارهم المقدسة "... إن الهندوسية تنادي بأن كل النباتات والحيوانات الحية جزء من حلقة تناسخ الأرواح فالثعبان الخير قد يصبح فراشة في الحياة القادمة، والجحش الخير قد يصبح إنسانا....
وفي نفس الاتجاه نجد الفلاسفة الصينيين يرددون أقوالا مماثلة، فقد كانت "الطاوية" من أكثر أديان الطبيعة الصينية القديمة تأثيرا، فقد اشتقت اسمها من الطاو "الطريق الطبيعي" الذي دعا الشاعر لاوتسو Laotzu الناس حوالي 600 ق. م. إلى إتباعه.
وفي القارة الإفريقية أيضا، كانت بعض قبائل الصيد تطلق على نفسها اسم "الدب" أو"الجاموسة" شعورا منها بأن ما يربطها بحيوانها الطوطم أقوى مما يربطها بالأغراب، حيث كانوا يقولون:"... إن قومنا على كل حال ينامون في الشتاء كالدب أو نحن كالجاموس لا نقول لغوا ..." زيادة على ذلك فإِن إيمانهم بأن حيوانهم الطوطمي هو سلفهم أو عصبهم جعلهم يعمدون إلى محاكاة عاداته أو حركاته ولا سيما في المناسبات الدينية فيصبحون حقا مثل الدب أو الجاموسة أو طوطمهم كائنا ما كان... وأيضا في اليونان، فلا يزال الفلاحون اليونانيون إلى يومنا هذا يغنون لأمهم الأرض وابنتهم الزيتونة...
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هل فعلا هذه الثقافات شكلت صمام الأمان للطبيعة ؟؟؟ إذا كان الجواب بنعم، فلماذا نجد في تلك الفترة قوانين تعبر عن رفض بعض السلوكات السلبية تجاه البيئة؟؟؟
لا ينبغي أن نتصور أن الصيني بل وحتى الطاوي أو البوذي بأكملهم كانوا يولون الطبيعة هذه الرعاية، يجب أن نعلم أن هذه المثل العليا التي تدعيها هذه الديانات تجاه الطبيعة يقابلها سلوكيات فرضت قوانينَ ترمي إلى الحفاظ على الطبيعة؛ فدارس تاريخ الصين التقليدية يجد أنباء كثيرة، عن اقتلاع الغابات وتعرية التربة وإغراق الأراضي لتبارى الناس في تشييد البيوت، وتعتبر مدينة شانجان ومدينة هانجشو مدن عملاقة شيدت في تلك الفترة وأثرت سلبا على الطبيعة الإحيائية في تلك المنطقة، كما اُستخدمت الصناعات الصينية الأشجار بكثرة إلى درجة أجهدت اﻟﻤﺨزون من الخشب الأمر الذي دعا إلى اتخاذ الفحم وقودا بديلا عن الخشب بشكل متزايد....
أمثلة كهذه تدل على عدم الاكتراث بالطبيعة، وعلى التناقض حسب تعبير المؤلف يي فوتوان yi-futuan "تناقضات بين المواقف من البيئة والسلوك تجاهه"، وعلى نحو أعم إن الناس لا يرتفعون إلى مستوى مثلهم العليا؛ وهذا دليل على تخبط المذاهب الإيكولوجية في دعوتها إلى تبني الثقافات أخرى، لأن هذه الثقافات التي لم تحتكّ بالمسيحية تسببت هي أيضًا في الإضرار بالطبيعة، ما يعني أن موقف الإنسان من الطبيعة لم يحدّده الدّين، وإنما حدّدته وتحكمت فيه عوامل أخرى تمثلت في بعض الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية أبرزها الثورة الفرنسية والثورة الصناعية...وغيرها من العوامل المتداخلة، كما نجد أيضا آيات في الكتب المقدسة تحد من سيطرة الانسان على الطبيعة، بل وتلزمه العمل على رعاية وحماية البيئة.
عموما فمتطلبات المجتمع الذي لا تكفُ عن النمو، والحاجة إلى تلبية الرغبات وكذلك الوصول إلى نتائج باهرة بأقل وقت وإنتاجية عالية بتكلفة مناسبة كلها عوامل وأسباب ساهمت بشكل أو بآخر في استنزاف الطبيعة ومواردها.
ويبقى السؤال مطروحا عن الحلول والمقترحات التي قدمتها تيارات خارج التيار الراديكالي الإيكولوجي؟