فوضى السوق الحر، إضافة لممارسات الاحتلال، لم يتسببا فقط في تدهور حال الإنتاج الزراعي الفلسطيني، بل ولدا ظواهر وممارسات فلسطينية خطيرة في القطاع الزراعي تهدد بشكل جدي مجرد وجوده. ومن بين الأمثلة البارزة المستجدة اتساع ظاهرة زراعة الأعشاب السامة، وتحديدا التبغ، في العديد من مناطق الضفة الغربية.
كما أن الزراعات المعتمدة على المبيدات والأسمدة الكيميائية لا تزال هي المهيمنة في الضفة الغربية وقطاع غزة، علما أن الشركات الإسرائيلية هي المصدر الأساسي والوحيد لهذه المبيدات والأسمدة، أو أن بعضها القليل مستورد من خارج إسرائيل لكن بموافقة إسرائيلية.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
رغم أن البرامج الحكومية الفلسطينية إجمالا، تتحدث عن كسر تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي، إلا أنها لا تقدم آليات مباشرة ومحددة لكسر هذه التبعية؛ ويتلخص دورها في مجرد منح بعض الخدمات والتسهيلات لرأس المال الخاص وتعزيز دوره من خلال سن التشريعات ووضع الأنظمة.
ومن ناحيتها، لم تقدم حكومة غزة (منذ الانقسام عام 2007) خطابا اقتصاديا يختلف في جوهره عن الحكومات السابقة سوى ما يتعلق بـ"حماية المنتج الوطني"؛ علما أن شعار الحماية الذي رفعته حكومة غزة جاء بدافع الحاجة لتقليل الاستهلاك، بسبب الحصار، وليس بدافع تشجيع الإنتاج الوطني الذي يفتقر إلى الموارد الأولية الخاضعة للحصار، بما في ذلك مدخلات الإنتاج اللازمة للزراعات الكيميائية الشائعة في قطاع غزة.
بل إن حكومة غزة لم تستثمر في المحررات (الأراضي التي انسحبت منها قوات الاحتلال عام 2005)، علما أن الأخيرة تعد من أخصب الأراضي الزراعية في قطاع غزة، وهي بمعظمها (أكثر من 95%) أراض حكومية؛ وجل ما فعلته حكومة غزة هو تأجير بعض هذه الأراضي لمستثمرين ومزارعين كبار، أو استخدامها لتدريب قوات الأمن والفصائل المقاتلة.
إذن، لم تلتقط حكومة غزة فرصة الحصار الإسرائيلي وتستثمرها باتجاه توفير الحد الأدنى من السيادة الوطنية على الغذاء، من خلال إجراء تغيير جذري في التركيب المحصولي بما يتسق مع حالة الحصار، بل ظلت عقلية الانتاج بهدف التصدير هي المهيمنة. وفي المحصلة، تشابه النموذجان الحكوميان في رام الله وغزة في الجوهر، من حيث إخضاع الاقتصاد المحلي لفوضى السوق الحر.
فوضى السوق الحر، إضافة لممارسات الاحتلال، لم يتسببا فقط في تدهور حال الإنتاج الزراعي الفلسطيني، بل ولدا ظواهر وممارسات فلسطينية خطيرة في القطاع الزراعي تهدد بشكل جدي مجرد وجوده.
ومن بين الأمثلة البارزة المستجدة اتساع ظاهرة زراعة الأعشاب السامة، وتحديدا التبغ، في العديد من مناطق الضفة الغربية، وبخاصة في مرج ابن عامر (منطقة جنين) الذي يعد من أكبر المساحات الزراعية في الضفة وأكثرها خصوبة، حيث باتت المساحات الخضراء تحمل في ثناياها موتاً للأراضي الزراعية وللتربة، بل وكارثة بيئية وزراعية محتمة بسبب زراعة التبغ، إلى جانب التمدد الاسمنتي الواسع والعشوائي منذ بضع سنوات.
وفي ظل غياب الحماية للمزارعين، بما في ذلك قانون التأمين الزراعي، فقد اندفع عدد كبير من المزارعين نحو زراعة التبغ المربحة جدا. وحاليا وصلت المساحة المزروعة بالتبغ في محافظات شمال الضفة الغربية إلى عشرات آلاف الدونمات، على حساب محاصيل البستنة وتلك الحقلية.
الدراسات العلمية في الكثير من البلدان المنتجة للتبغ، أكدت التأثير المدمر لزراعة التبغ على التربة وعناصرها الأساسية مثل الفسفور، البوتاسيوم، النيتروجين، المنغنيز، المغنسيوم، النحاس والحديد؛ إذ وصل الانخفاض في بعض تلك العناصر الى ما يقارب 20 ضعفاً بالمقارنة مع المحاصيل الزراعية الأخرى. وزارة الزراعة الفلسطينية تحمل المزارع والمستثمر المسؤولية الأساسية في مسألة زراعة التبغ، وتكتفي بدورها الرقابي والإرشادي، في غياب أي قانون يمنع بعض المزارعين من تدمير الأراضي الزراعية من خلال توسعهم في زراعة التبغ.
حقل تبغ بقضاء جنين
علاوة على ذلك، لا تزال الزراعات المعتمدة على المبيدات والأسمدة الكيميائية هي المهيمنة في الضفة الغربية وقطاع غزة، علما أن الشركات الإسرائيلية هي المصدر الأساسي والوحيد لهذه المبيدات والأسمدة، أو أن بعضها القليل مستورد من خارج إسرائيل لكن بموافقة إسرائيلية.
المستفيد الفعلي الوحيد من السلع الزراعية الكيميائية هم تجار المبيدات ووكلاء الشركات الإسرائيلية والأجنبية الأخرى ومتلقو العمولات المنتفعون من مواصلة الترويج لاستعمال الكيماويات الزراعية الممرضة والقاتلة للإنسان والبيئة؛ لذا يعمد الأخيرون، وبعجرفة خبيثة، إلى التشكيك بالزراعات البلدية أو العضوية أو البيئية النظيفة.
كل هذا يحدث رغم أن العديد من "خبراء" الزراعة الفلسطينيين يقرون بأن المنتجات العضوية والبلدية نظيفة وخالية من الكيماويات، وبأن بعض الدول الأوروبية قطعت شوطا متقدما في إنتاجها، إلا أنهم "يستكثرونها" على الناس العاديين في الأراضي المحتلة عام 1967؛ علما أن إنتاج هذه السلع الزراعية النظيفة، في المستوى الفلسطيني، يمكنه الاستناد إلى التقاليد الانتاجية المحلية والتراث الزراعي البلدي والطبيعي المتنوع والمتداخل، بمعنى المراكمة على التجارب والمعارف الزراعية المحلية الحكيمة والغنية وإغنائها وتطويرها.
وحاليا لا توجد دراسة إحصائية موثوقة ومعتمدة بخصوص كميات المبيدات الكيميائية السامة والممرضة المستخدمة في الضفة الغربية تحديدا، بسبب عمليات التهريب-إسرائيليا وفلسطينيا- وضعف الرقابة الرسمية، إلا أن الحديث يدور عن مئات أصناف المبيدات التي تستعمل بآلاف الأطنان سنويا في الضفة لوحدها، وبكلفة عشرات ملايين الدولارات؛ بل إن بعض الأوساط الزراعية تقدر نسبة المبيدات من إجمالي تكاليف الإنتاج الزراعي الفلسطيني بما لا يقل عن 35%؛ وتعتبر هذه النسبة، في حال ثبت صحتها، من أعلى النسب في العالم.
المسألة الوجيهة هنا، أن "تبرير" استخدام مبيدات معينة في الضفة والقطاع يستند أحيانا كثيرة إلى الادعاء القائل بأن هذه المبيدات "مرخصة" في الاتحاد الأوروبي أو أميركا أو "إسرائيل". إن مثل هكذا تبرير واهٍ وغير مقنع، لأن ترخيص مبيد محدد في أميركا أو أوروبا لا يعني إطلاقا أن هذا المبيد لا يتسبب بأمراض خطيرة وقاتلة؛ بدليل الإعلانات المتأخرة التي تصدر من فترة لأخرى عن المنظمات الصحية الدولية بأن هذه المجموعة أو تلك من المبيدات مسببة لأمراض خطيرة ومزمنة، رغم السماح باستعمالها لسنين طويلة.