خاص بآفاق البيئة والتنمية
لوز
يشبه اللوز الأخضر الذهب ليس في قيمته بل في ترقب موسمه، وشدة الإعجاب بمذاقه. قصتك مع شجرة اللوز قديمة، ففي الطفولة، كنت ترى زهره الساحر يتسيد الأشجار، وتذهل من استعمالاته العديدة في كل مراحله، إذ يدخل المطبخ ويزين أطباق الطعام والحلوى، ويدخل في المكسرات، فيما يستخدم زيته في غير شأن، أما مذاقاته المرة والحلوة والحامضة المتدرجة فتكمل قصة تميزه.
إحدى أمنياتك الخاصة في الطفولة، صمود زهر اللوز، وامتداد موسمه الأخضر، واحتفاظ الشجرة بمحصولها دون أن تمتد إليه الأيدي، فلا قيمة للأشجار دون جواهرها. أما حزنك فيتجلى في الآفات الحشرية التي تبدأ قبل الربيع في النيل من الشجرة الخضراء، فيما تنزعج من قاطفي اللوز الذين لا يكتفون بالثمار، بل يتعاملن مع الشجرة كأنها للاستخدام مرة واحدة، فيطلقون العنان لتكسير أغصانها، وتحطيم الأغصان البعيدة للوصول إلى ثمرها.
قبل أيام، تشاهد في جبال نابلس مجموعة رعاة يغضون أبصارهم عن ماشيتهم التي تلتهم حقل لوز غض، فتسألهم عن السبب: يدعي أحدهم أن أصحابه لا يهتمون به، وبعض الأشجار مرة، لا فائدة منها!
أشجار اللوز البلدية تبدو أكثر عمرًا قياسًا بالأشجار حديثة العهد، فيما تشهد جبالنا وحقولنا ظاهرة غياب الاهتمام بها، فلا اللوز أو الزيتون يحظيان باهتمام يليق بعطائهما وثمرهما، وتترك أراضٍ كثيرة دون حراثة أو تقليم أو نقش أو إزالة الأشواك، ويكتفي المالكون إما برش المبيدات أو البحث عن الثمار وقت الحصاد.
نحتاج لإعادة صياغة لعلاقتنا بالأرض أشجارها ونباتها وسهولها التي توشك على الاختفاء بفعل زحف الاسمنت.
أرض النجمة التي تتوسط برقين وقباطية
تجربة
تخصص منذ مطلع العام كل نهاية أسبوع للعودة إلى الأرض، تصطحب الأبناء وأبناء الأشقاء في رحلة عمل إلى الأرض التي نسميها (النجمة). تمضون النهار وتصلونه بمطلع الليل. تقلمون الحقل، وتزيلون الأشواك الضارة، وتزرعون غراسًا جديدة، وترممون الأشجار التالفة، وتتواصلون مع الطبيعة.
في الاستراحات القصيرة، تبحث عن ألعاب الطفولة فلا تجد غير جزء يسير منها. هنا لم يعد الشارع الرئيس الرابط بين جنين ونابلس واضحًا، فمقالع الحجارة تحدق به من كل نحو، والطيور التي كانت تبعث الحياة تراجعت، وأشجار اللوز الضخمة اختفت، أما غطاء الأرض الملون، فلم يعد بذلك البريق، وتبدل حال تجويفات الصخور التي كانت تجمع مياه الأمطار، وفي الأفق البعيد ظهرت غابات من الإسمنت الوقحة.
كانت الأرض كالمحمية الطبيعية، وظلت وفية للأرانب البرية والحجل وأبو زريق والشحرور واليمام البري وقائمة طيور وحيوانات كنا نجهل تصنيفها، إلى أن بدأت أصوات المصانع تصل إليها.
الأرض المسماة النجمة في برقين قضاء جنين
العودة إلى الأرض جميلة، لكنها توجع في بعض تفاصيلها القلب والروح معًا. جميل غرس الأمل، ودمج الجيل الشاب بطبيعته وبيئته وترابه، لكن المحيط الذي يتبدل للأسوأ، والهجران العام للحقول، وتراجع الأمطار، والاعتلال المناخي الذي نعيشه، وممارساتنا السلبية تسبب الألم.
من التمرينات الممكن نقلها لأحمد ولؤي ويامن وأيهم يوسف ولواء، التعريف بأسماء أبرز النباتات والشجيرات البرية، وتذوق بعض أصنافها، وتمرينهم على التقليم، وغرس الأشجار، وتشبيب الهرمة منها، وصناعة الطعام في الهواء الطلق على الحطب، والحرص على جمع القمامة التي تركها المتنزهون، وتجنب حرقها، وقصص أخرى.
الثمانينية يسرى محمد شحادة من قرية الكفرين قضاء حيفا والتي احتلها الصهاينة عام 1948 وهجر أهاليها
حنين
ألهب الشوق لقرية الكفرين المدمرة، قضاء حيفا، حنين الثمانينية يسرى محمد شحادة، وقصت تفاصيل طفولتها، والمشهد الذي لا يفارقها، فقد كان والدها يدللها، ويجعلها تعتلي الجمل الذي يلتصق بالأرض بجوار عين البلد، ليرتوي قبل أن ينهض.
تقول: كنت طفلة في السابعة، وحرصت على الذهاب إلى عين البيادر المخصصة للشرب، وقتها كانت البنات الأكبر منا يحملن جرار الماء على رؤوسهن، وكنت أضحك حين تقع الجرة وتنكسر مع الصبايا قليلات الخبرة في حمل أوعية الماء المصنوعة من الفُخّار، أما أنا وبنات جيلي فحملنا المشربيات الصغيرة، وذهبنا للعين لنجرب حظنا، ولنتعلم وضع الجرة على الرأس.
ووفق ما تحفظه شحادة، فإن قريتها تعني بالتسمية القديمة (نجمة الصبح)، مثلما حملت أراضيها أسماء: الحواكير، والمرشقة، وتلة الزعترة، وأم القرامي، وطريق العرب الذي كان يربط القرية بمرج ابن عامر ويافا، والبيادر، وبئر خميس، ووادي البزاري، وعين البلد، ووادي العرائس، ووادي الحنانة، والمجنونة، وخلة النتش، وأم اليتامى، ووادي العرايس، وعين بكر، والمنايص، وخربة اللويبدة، ودير الهوى، وغيرها.
أبصرت الراوية النور عام 1937 كما تفيد بطاقة هويتها، ويعلق بذاكرتها طريقة بيع العجوة وتخزينها في البيوت بوعاء سمي (زمبيل تمر)، فيما امتلك والدها بيتين، الأول من حجر وطين والآخر بقناطر، وكانت طيور السنونو والعصافير تعشعش في أعالي النوافذ، في حين لم تمتلك عائلات القرية كلها الأحواش التي تحيط بالمساكن.
تتابع: لم أذهب إلى مدرسة القرية، وعرفت من أمي (تمام الياسين) أنها للصف الرابع فقط، ومن يريد أن يكمل فعليه العيش في حيفا، التي كنا نذهب إليها، بباص يصلنا في الصباح ويعود بعد الظهر.
وتستقر في ذاكرة شحادة بقالات القرية الصغيرة، حين كان أحمد السعد وأمين العلي وغيرهم يقبلان البيع بالمقايضة، فيأخذن القمح والبيض مقابل البضائع. بينما كانت البيوت مقسّمة لقسمين، تأخذ العائلة الأول المرتفع، وفي قاع البيت تضع الماشية، وتصعد في درج صغير للبيت. وانتشرت في الكفرين عدة بيوت امتلك أصحابها العلية (بناء مرتفع يصعد إليه بدرج).
وتوزعت عائلات الكفرين على: سرحان، والغول، وخليفة، والعسوس، ونعجة، وعبد الجواد، والحاج يوسف، وأبو لبّادة، وأبو سرّيس، أما مختار البلد فكان أديب أبو نجمة، الذي كان من حيفا، بينما كان إمام المسجد الشيخ عبد الله الأحمد، ونعيم دروزة مدير المدرسة من نابلس، ومعلم من عكا.
وتكونت عائلة شحادة من الأبناء: أحمد، وعبد الخالق، ومصطفى، بجوار الشقيقات: زينب، وسعده، وآمنة، وجميلة، ويسرى، وميسر، وحليمة، قبل أن تبعدهم النكبة عن بيتهم وقريتهم، وتصادر فرحهم بألعاب (السبع حجار) و(الحجلة). فيما اشتهرت الكفرين بالزراعة، وبخاصة الحبوب والحنطة والذرة البيضاء والملوخية، ولكنها تميزت بالفجل الذي كان يتضخم كثيراً ويتجاوز وزنه 2 كغم، ويذهب إلى أسواق حيفا. وشاعت الجِمال، التي كانت تستخدم لنقل البضائع، فيما كانت معظم الطرق ترابية.
واستناداً إلى الموسوعة الفلسطينية، فقد احتلت العصابات الصهيونية القرية في 12 نيسان 1948. وتفيد سجلات جيش الإنقاذ أن القوات العربية انسحبت في اليوم التالي من منطقة تقع غرب الكفرين تماما. وكان هجوم فرقة "البلماخ" على القرية جزءا من عملية شنت بعد معركة (مشمار هعيمك).
كريستوفر نايت الأميركي الذي اعتزل العالم
لغز
تقرأ ما نشرته "الجارديان" عن واحدة من أعجب حالات العزلة في التاريخ، لكريستوفر نايت الذي اعتزل العالم، وعاش وحده في الغابة لأكثر من ربع قرن. وتتابع كيف استطاع أن يبقى على قيد الحياة طوال هذا الوقت، والدروس التي استلهما من هذه الوحدة، التي قلَّ أن نجد لها نظيرًا في التاريخ.
مما كتبته الصحيفة البريطانية: "كان كريستوفر نايت في العشرين من عمره فحسب عندما ترك المجتمع، وغاب لأكثر من ربع قرن من الزمان. كان حينها قد عمل لأقل من عام في تركيب أنظمة الإنذار للمنازل والسيارات بالقرب من بوسطن، ماساتشوستس، عندما استقال من عمله، فجأة، ودون إخطار رئيسه في العمل. حتى أدواته لم يعدها. استلم آخر راتب، وغادر البلدة.
ووفق التقرير، لم يخبر نايت أي شخص عن مكان ذهابه. وقاد سيارته على طول الساحل الشرقي لأمريكا. كان في أغلب رحلته يسير عبر الطرق الأساسية، وغير نايت وجهته واتجه شمالاً. استمع إلى الراديو. كان رونالد ريجان هو الرئيس حينها، وكانت كارثة مفاعل تشرنوبل النووي قد حدثت لتوها. وبينما كان نايت يقود سيارته خلال ولايات جورجيا، وكارولينا الشمالية والغربية، وفيرجينيا، أحسن بفكرة يزداد إدراكًا لها، قبل أن تترسخ لتصبح عزمًا. فقد كان نايت، طول حياته، يشعر بالراحة وحيدًا. وعادةً ما كان التعامل مع الناس محبطًا له. كان يبدو كل لقاء يجمعه بشخص آخر أشبه بالتصادم. ثم قاد سيارته في عمق البرية إلى آخر مدى استطاعت أن توصله إليه سيارته، وقذف بالمفاتيح. كانت معه خيمة، وحقيبة ظهر، ولم تكن معه بوصلة، ولا خريطة. خطا نايت بين الأشجار ومشى بعيدًا، دون أن يعرف إلى أين هو ذاهب، ودون أن يكون ثمة مكان محدد في ذهنه. يقول: لا أعرف السبب الحقيقي الذي جعلني أغادر. لكن هذا "لغز".
وأفاد التقرير: معظم المغادرين يفعلون هذا لأغراض دينية، أو أن ينضج كل إنسان ليصير أقرب ما يكون من ناسك. وبعض النساك يخرجون من الحضارة بسبب كراهيتهم لما أصبح عليه العالم: الكثير من الحروب، أو الدمار البيئي، أو الجريمة، أو الاستهلاكية. فريق يرغب في الوحدة لأسباب تتعلق بالتبصر العلمي، أو الفهم الأعمق للنفس. لكنَّ نايت لا يدخل ضمن أي من هذه التصنيفات.
يزيد:" كان هدف نايت أن يتوه. لا أن يتوه عن باقي العالم فحسب، وإنما في الواقع أن يتوه عن نفسه في الغابة. لم يكن معه سوى معدات تخييم بدائية، وعدد قليل من الملابس والقليل من الطعام".
التزم المتغيب بالتلال. وأحيانًا عبر المستنقعات، ومشى بين منحدرات متداعية وأراضٍ رطبة موحلة. كان يخيم في إحدى الأماكن لأسبوع أو أكثر، ثم ينتقل جنوبًا مرة أخرى. وكان مسرورًا باستثناء شيء واحد: الطعام. كان نايت جائعًا، ولم يكن يعرف كيف سوف يطعم نفسه. كان نايت قادرًا على الصيد واستخدام الصنارة، لكنه لم يأخذ معه لا بندقية ولا عصا. ومع ذلك، فهو لم يكن يريد أن يموت، أول على الأقل لم يرد أن يموت حينها. كانت فكرة نايت أن يأكل من الثمار. براري ماين واسعة للغاية، لكنها، مع ذلك، ليست سخية. ليس ثمة أشجار فاكهة. وأحيانًا لا يزيد طول موسم التوت عن يومين. يعني ذلك أنه دون صيد أو نصب فخاخ أو صيد أسماك، فسوف يقضي المرء جوعًا.
واصل المسير جنوبًا، ملتقطًا ما يستطيع من الحدائق، في النهاية وصل إلى منطقة ذات توزيع مألوف من الأشجار، مع تنوع من الطيور، ودرجة حرارة شعر أنه معتاد عليها. كان الجو أبرد شمالًا. لم يكن نايت متأكدًا تمامًا من مكانه، لكنه كان يعرف أنه في المنطقة التي تربى فيها. اتضح أنه كان على بعد 30 ميلًا، لو سار في خط مستقيم، من بيت طفولته.
ووفق التقرير: حاول صاحب المغامرة خلال الأشهر القليلة التالية، أن يعيش في الكثير من الأماكن في المنطقة، بما في ذلك داخل حفرة رطبة على ضفة النهر. لكنه لم يرض عن أي من هذه الأماكن. أخيرًا، عثر على غابة سيئة مغطاة بالصخور. ثم اكتشفت مجموعة من الصخور كانت إحداها ذات فتحة خفية تقود إلى منطقة صغيرة عجيبة بلا أشجار.
وحسب الراوي، فقد ظل جائعًا، وكان يأمل أن يعيش وحدة مطلقة. وأن يكون قبيلة معزولة قوامها شخص واحد، ثم واظب على الوصول إلى المقصورات حول البحيرات في وسط ماين التي تترك مفتوحة النوافذ، ومن ثمَّ قرر نايت أن يسرق الطعام. واعتاد ألا يشرع في الغارات إلا بعد حلاقة ذقنه مباشرة، أو بعد تشذيب لحيته بدقة وارتداء ملابس نظيفة، لتقليل الشكوك في حالة وقع الاحتمال البعيد وشاهده أحدهم.
لم يخاطر قط باقتحام أي منزل مشغول على مدار العام، ودائمًا ما كان يرتدي ساعة ليعرف الوقت دائمًا. ثم كان يحمل كل شيء في زورق، لو كان قد استعار واحدًا، ثم يجدف إلى الشاطئ الأقرب من معسكره ليفرغ ما معه. ثم يعود إلى الزورق ليعيده إلى المكان الذي أخده منه، ويرش عددًا من إبر الصنوبر على القارب ليجعله يبدو كما لو لم يستخدم، ثم يسحب ما نهبه مارًا خلال الغابات الكثيفة، والصخور، وصولًا إلى منزله. كانت كل غارة تكفي نايت حوالي أسبوعين، وما إن كان يستقر مرة أخرى في غرفته في الغابة كان يشعر بسلام داخلي عميق.
تقول "الجاردين": ألقي القبض أخيرًا على نايت، بعد 27 عامًا من العزلة الكاملة، بينما كان يسرق الطعام من معسكر صيفي على إحدى البحيرات. اتهم بالسطو والسرقة، واقتيد إلى سجن محلي. تسبب إلقاء القبض عليه في إحداث اضطراب كبير ــ خطابات وزوار توافدوا على السجن، وطلب حوالي 500 صحافي إجراء مقابلة صحفية معه. وظهر فريق أفلام وثائقية، وعرضت امرأة عليه الزواج.
أراد كل الناس أن يعرفوا ما سوف يقوله الناسك. ما هي الحكمة التي اكتسبها من الوحدة. ما هي النصيحة التي قد يوجهها إلى بقيتنا. لطالما كان الناس يقتربون من النساك بطلبات مشابهة لآلاف السنوات، حريصين على استشارة شخص كانت حياته مختلفة تمام الاختلاف عن حياتهم.
سمح نايت في النهاية لصحافي واحد أن يلتقيه، وشارك الناسك قصة حياته خلال تسع زيارات استمرت كل واحدة منها ساعة. تكلم فيها عن كيفية بقائه على قيد الحياة، وكيف كان يشعر بعد أن عاش وحده طول هذا الوقت.
وفي إحدى المرات، عندما كان نايت في مزاج تأملي خاص، بدا راغبًا، في مشاركة المزيد مما تعمله عندما كان وحده على الرغم من نفوره المعتاد من توزيع الحكمة. سأله الصحافي: هل كان ثمة حكمة ضخمة أوحيت إليك بينما كنت في البرية؟ جلس نايت هادئًا ثم وصل إلى جواب أخيرًا: قال: "احصل على كفايتك من النوم".
تجربة نايت حافلة بالمغامرة، ونحتاج إلى التعمق في فلسفتها، وبالتأكيد عدم محاكاتها: لأن الطبيعة والحياة البرية لا تحتاجان إلى عزلة فحسب، بل تنتظران منا الانتصار لهما، ووقف تدميرهما والعبث بهما. ويمكننا ممارسة العزلة في أي وقت، ثم نعود إلى سيرتنا الأولى، ندافع ونحرس ونصوّب ما استطعنا.
aabdkh@yahoo.com