خاص بآفاق البيئة والتنمية
سقطت قرية "النهر" في نيسان عام 1948، فالقرية الواقعة في القسم الشرقي للسهل الساحلي الفلسطيني في منطقة الجليل، على الطريق الواصل ما بين مدن ترشيحا ونهاريا وعكا، لم تستطع وأهلها البالغ تعدادهم في حينها 420 نفراً الصمود أمام عربدة كتيبة "بن عامي" الصهيونية، التي ختمت سلسلة هجماتها في المنطقة بمهاجمة القرية وقتل سكانها الذين تركوا خلفهم أرضاً خصبة وماء وفيراً، فكانت هذه البداية لمرارة التهجير.
أساسات أحد البيوت الذي يعود إلى أصحابه المهجرين
أطلال القرية
وبينما تترامى البساتين على الأطراف، سلكنا طريقاً ترابياً نحو الجهة الغربية، وكانت نهايته بركة تل المفشوخ، فأخبرنا العم حسين أن ماءها شديد البرودة، لم يكن يجف صيفاً أو شتاءً، وكانت تسقي الأراضي الواقعة على جانبيها، وقسمت الحصص المائية على العائلات بالتساوي، فكان نصيب عائلته 4 ساعات أسبوعياً، يحصلون عليها كل يوم سبت، مشيت لأكتشف المكان أكثر وبقي العم حسين عند إحدى العيون مستمتعاً بقطف أوراق "الخبيزة" التي نمت بالقرب من العين. "كان أهل القرية يملكون 6000 دونم أرض، زراعة مروية، زيتون وقمح وحمضيات وخوخ ولوز، كنا مشهورين، "أهلي كانوا يزرعوا قصب السكر كمان لأنو كانت حصتنا من المي مليحة
|
أخذنا حسين امباركي وهو من مواليد قرية النهر عام 1930، في جولة داخل قريته المهجرة التي يطلق عليها اليوم ما يسمى مستوطنة "بن عامي"، ولم يبق من آثار القرية التي أغلقها المستوطنون ببوابة إلكترونية سوى أطلال لبعض البيوت والمقبرة، ما يضطرك للمسير مسافة 10 دقائق تحيط بك جداول المياه الصغيرة، ثم تظهر أمامك بعدها أشجار "الأفوكادو" التي تفترش أغصانها شديدة الخضرة البساتين على مد البصر، البساتين التي زرعت ما قبل النكبة بالحمضيات. في حين أغلقت الأشواك والنباتات الضارة طريق الوصول إلى ما تبقى من بيوت القرية، ومن بينها قصر عائلة العفيفي الذي يعود إلى الإقطاعي أبو رشيد العفيفي، الذي كان قد بني على طريقة القصور المصرية وتحيط به الجناين، واحدة للفاكهة وثانية للزهور، وليس ببعيد عن القصر، تجد ما تبقى من شواهد قبور أهل القرية، التي كانت لعائلة العفيفي قسم خاص فيها.
متكئاً على عصا خشبية، لازمته منذ وصلنا مدخل القرية، سار العم حسين على أرضه وأرض أجداده، وكلما أراد تعريفنا بمكان ما، أشار إليه بعصاه تلك والشعور بالغصة يقطع جُمله، وبينما تترامى البساتين على الأطراف، سلكنا طريقاً ترابياً نحو الجهة الغربية، وكانت نهايته بركة تل المفشوخ، فأخبرنا العم حسين أن ماءها شديد البرودة، لم يكن يجف صيفاً أو شتاءً، وكانت تسقي الأراضي الواقعة على جانبيها، وقسمت الحصص المائية على العائلات بالتساوي، فكان نصيب عائلته 4 ساعات أسبوعياً، يحصلون عليها كل يوم سبت، مشيت لأكتشف المكان أكثر وبقي العم حسين عند إحدى العيون مستمتعاً بقطف أوراق "الخبيزة" التي نمت بالقرب من العين.
"كان أهل القرية يملكون 6000 دونم أرض، زراعة مروية، زيتون وقمح وحمضيات وخوخ ولوز، كنا مشهورين، "أهلي كانوا يزرعوا قصب السكر كمان لأنو كانت حصتنا من المي مليحة، وكانوا يزرعوا زيتون بس ما كان طيب، لأنو كان بالقرية مطحنة وحدة لعيلة العفيفي وكانت تشتغل على الخيل، فكان الناس يستنوا على الدور حتى يعصروا الزيتون، والزيتون اذا ببات كثير ببطل زاكي".
قال حسين امباركي. أما المحصول فكان يباع في حيفا وعكا، فالفلاح بحسب العم حسين لا يجوع، ويستذكر الحرب العالمية الثانية حيث لم يضطر معظم أهالي فلسطين خلالها إلاّ إلى شراء الرز والسكر والملابس.
ويتابع بأن القرية كانت غنية بمطاحن القمح، حيث كان هناك ست مطاحن تعمل على الماء، هي مطحنة المفشوخ العليا، ومطحنة المطروف، وأم حجرين، وبركة الفوارة، وأم قنطرة ووداي المفشوخ السفلى، وكان جميع أهالي القرى المجاورة يأتون ليطحنوا محصولهم، ويتحول الموسم إلى احتفالات بهيجة وليالي سمر، مليئة بأغاني التراث الفلسطيني التي يتراقص الشبان على أنغامها، وكانت مضافة المختار تبقى مشرعة أبوابها، ودِلال القهوة العربية السادة موزعة على جنباتها، وكان العم حسين الذي درس في مدرسة "الكابري" حتى الصف الرابع الابتدائي يلعب دور الراوي، فيقرأ عليهم تغريبة بني هلال والزير سالم، أما البيوت فكانت تبقى مفتوحة للجميع، ولهم الحق في دخولها والحصول على حاجتهم من الخضار والفواكة.
الطريق الرئيسي للقرية المهجرة
سقوط القرية
القرية كانت غنية بمطاحن القمح، حيث كان هناك ست مطاحن تعمل على الماء، هي مطحنة المفشوخ العليا، ومطحنة المطروف، وأم حجرين، وبركة الفوارة، وأم قنطرة ووداي المفشوخ السفلى، وكان جميع أهالي القرى المجاورة يأتون ليطحنوا محصولهم، ويتحول الموسم إلى احتفالات بهيجة وليالي سمر، مليئة بأغاني التراث الفلسطيني التي يتراقص الشبان على أنغامها
|
عن يوم سقوط القرية، يستذكر العم حسين حدوث معركة على حدود الكابري بين قافلة مستوطنين وعدد من العساكر الأردنيين، قتل فيها حوالي 46 شخصاً من كلا الطرفين، وبعد المعركة بأسبوع، جاء إلى القرية رجلٌ بدوي يركض، وسأل العم حسين اذا كان يعرف القراءة وطلب منه أن يسلم المرسال إلى المختار.
وعند المختار علموا أن القوة الأردنية ستترك المنطقة وأن عليهم ترك القرية، لكن المختار لم يأبه للأمر وظن أن العلاقة الودية التي كانت بين العرب واليهود قبل العام 1948 بقيت على ما هي عليه وأن الأمر مبالغ فيه، فجهز المختار القهوة والشاي كضيافة ليستقبلهم، في حين هرب عدد كبير من الأهالي، وبقيت عدة عوائل في بيوتها حتى جاءتهم إمرأة من قرية "الغابسية" تطرق الأبواب طالبة منهم الهرب، فقد دخلت القوات الصهيونية إلى قرى "الكابري" و"الغابسية" وقتلت سكانها، وعليه طلب الكبار بالسن من الشباب الهروب إلى ترشيحا، وهذا ما حدث.
وسالت أول قطرة دم على مدخل القرية مع إعدام اثنين من أبنائها، أحدهم كان يعاني من إعاقة عقلية وثانٍ كان يستعين بالعكازات في مشيته ، وما أن وصلوا وسط القرية حتى أفرغوا رشاشات بنادقهم بأجساد الأهالي، ومن بين من استشهدوا كان أخ العم حسين، ابن السنة والنصف، أستشهد في حضن أخته، فتركوه على الأرض وهربوا زاحفين على الأرض حتى لا تطالهم فوهات البنادق. ومرت أربعة أيام قبل أن يعود والد العم حسين ليدفن ابنه.
معظم عوائل "النهر" هربت إلى لبنان، أما عائلة حسين امباركي وثلاث عائلات أخرى فاستقرت بهم الطريق في كفر ياسيف وأبو سنان، وهناك كانت بداية فصل آخر من العذاب تحت الحكم العسكري الذي كان يمنع عليهم التحرك بحرية بين المدن، وكانوا يتحكمون بكل تفاصيل الحياة من مأكل ومشرب، ويعقب العم حسين بالقول: "عشنا تحت الفقر والدلف والوحلة، بعد ما كان الواحد مَلاّك للأرض".
بركة تل المفشوخ
التمهيد للحرب
الحركة الصهيونية قلبت كل شيء، فقد اضطر والد العم حسين بعد سقوط القرية وانتقاله إلى أبو سنان البحث عن عمل، وسخرية القدر جعلته يعمل عند أحد المستوطنين الذي وضع يده على أرضه واستملكها، وبعد أن كان صاحب الأرض أصبح عاملاً فيها!. ويختم حسين امباركي كلامه: "أنا عضو لجنة المهجرين، بدهم ينهوا قصة النكبة ويوقفونا، لكن راح نضل نقول يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا، سياسة دولة الاحتلال لم تتغير، تغيرت الوجوه لكن السياسة واحدة
|
ويعود العم حسين بذاكرته إلى العام 1947، وهو العام الذي بدأت فيه العمليات الدموية، مشيراً إلى أن عمليات الاستيطان في المنطقة بدأت مطلع الثلاثينيات بالسيطرة على الأراضي المحيطة بالساحل، فاشتروا جزءاً من أصحابها في حين سيطروا واستولوا على الجزء الأكبر، لكن بحرقهم لبيت فارس أفندي في "الكابري" أعلنوا عن بدء إنقلاب الأحوال، وتلاه حرق شاحنة كانت متوجهة إلى ترشيحا بعد أن أنزلوا النساء والأطفال من على متنها، ومن ثم أعدموا بالرصاص تسعة شبان من قرية "الزيب" نصبوا لهم كميناً بالقرب من "باب عِبرون"، أما العملية الرابعة التي يستذكرها العم حسين فكانت تفجير عصابات المستوطنين لباص أزرق اللون بالقرب من السهل الساحلي كان متوجهاً إلى لبنان فقتل جميع من استقله، بعد ان زرعوا بداخله عبوة ناسفة.
"كان عند أهلي 20 دونم أرض، قيمتهم بوقتها 3000 ليرة فلسطيني، وخزان مي وكله فيه كواشين طابو، ولما اضطر أبو رشيد العفيفي يبيع جزء من أملاكه، اشتروا أهلي 44 دونم وطوبنا الأرض سنة الـ 47، روحنا على عكا على دائرة التسجيل" قال حسين امباركي.
لكن الحركة الصهيونية قلبت كل شيء، فقد اضطر والد العم حسين بعد سقوط القرية وانتقاله إلى أبو سنان البحث عن عمل، وسخرية القدر جعلته يعمل عند أحد المستوطنين الذي وضع يده على أرضه واستملكها، وبعد أن كان صاحب الأرض أصبح عاملاً فيها!.
ويختم حسين امباركي كلامه: "أنا عضو لجنة المهجرين، بدهم ينهوا قصة النكبة ويوقفونا، لكن راح نضل نقول يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا، سياسة دولة الاحتلال لم تتغير، تغيرت الوجوه لكن السياسة واحدة، لا أستطيع إنكار أن عدداً من اليهود اليساريين ساندوا الأهالي في وادي النسناس حينها وهذه حقيقة، لكن نحن حجر الزاوية في البلاد والكتلة القوية".
|
|
حسين امباركي أمام ما تبقى من قصر عائلة العفيفي |
حسين امباركي داخل بقايا قصر عائلة العفيفي |
|
|
حسين امباركي يقطف نبتة الخبيرة من قريته -النهر المهجرة |
شاهد أحد قبور مقبرة القرية |