لكي نهيئ سياقا للتاريخ البشري، ولكي نغرس في الأذهان فكرة مفادها أن الطبيعة والبشر أقاما فيما بينهما علاقات تفاعل متبادلة، ذلك مند ظهور الإنسان الأول وتطوره عبر العصور، كان لا بد من وضع الطاقة في إطارها التاريخي.
فقد كانت البداية بسيطرة الإنسان على النار جعلته يحوي في ثناياها كل التقدم البشري في مجال التكنيك وخلق حياة اجتماعية، فالنار التي وفرتها له الطبيعة من آثار البرق أو من حمم البراكين، مكنته من ابتكار طرق جديدة لاستغلالها لأداء ما يستحيل عليه أداؤه، وطورها في صهر المعادن، واستمر الجنس البشري يشغل هذه المصادر ردحا طويلا مند عصور ما قبل التاريخ. فرغم محدودية هذه الطاقة ؛ استطاع بناء دول وإمبراطوريات وتطوير حياته ورخائه إلى مستويات ليست بالقليلة. إذ بنى صروحا هائلة من أهرامات الجيزة إلى كوليسيوم روما، ومن قنوات الري في أرض الرافدين والصين والهند وصولا إلى كاتدرائيات أوروبا وسور الصين الجبار، وغيرها من دون حاجة إلى مجارف آلية أو رافعات كهربائية، وقد توسع في استعمال الطاقة نسبيا بعد اكتشاف النحاس والبرونز حيث إن عملية صهرها تحتاج إلى طاقة عالية، والتي كانوا يحصلون عليها من خلال حرق كميات كبيرة من الأخشاب، ومن ثم تطورت عمليات استخدام طاقة المياه في أعمال الري وطحن الحبوب. أما الفحم الحجري فقد بدأ استخدامه في العصور الوسطى، ومع اختراع المحرك البخاري الذي فتح باب الثورة الصناعية على مصراعيه، نُقل الإنسان إلى عالم جديد لم يكن يحلم به، فالطاقة المركزة في البخار كانت فتحا جديدا، وكل ذلك زاد من سرعته ووسع مداه كفرد ووسع سطوة مؤسساته كدول.
عصر الثروة العلمية أساسه الطاقة، وكلما ازدادت ثروتنا من الطاقة قوي ساعدنا وأصبح في إمكاننا السير في مقدمة الركب. وفي العصر الحديث، فإن جزءا كبيرا من الاستهلاك العالمي للطاقة يتكون من الوقود الأحفوري بأنواعه الثلاث (النفط والغاز والفحم)، إلا أن النمو المفرط الذي انتهجته البلدان المصنعة في استهلاكها لهذا النوع من الطاقة قد بانت مساوئه، من خلال ارتفاع أسعار الطاقة وتضاؤل الكمية المتاحة من بعض الموارد الطبيعية، وأخيرا وليس آخراً الآثار السلبية على البيئة. وإذا ما التحقت البلدان النامية بركب البلدان المصنعة على درب التقدم المادي، وهو مطمح شرعي بطبيعة الحال، فإن الآثار السلبية على استهلاك الموارد وعلى البيئة ستستفحل أكثر. ومع هذا كله، يتبين بجلاء أن النمو القادم لا يمكن أن يكون كمياً، بل سيكون نوعيا لا محالة. فالتحدي الحقيقي يكمن في تلبية احتياجات الأجيال الحاضرة بشكل يحقق لها الأمان الاقتصادي والرفاهية، دون التضحية بمستوى معيشة الأجيال القادمة.
لم يعد موضوع الطاقة يثير اهتمام الأكاديميين وذوي الاختصاص وصانعي القرارات الاقتصادية والسياسية فحسب، بل إنه تعدى ذلك ليصبح موضوع اهتمام الجميع بغض النظر عن مواقعهم الوظيفية والاجتماعية. ولا غرابة في اتساع الاهتمام بموضوع الطاقة بهذا الشكل، ذلك أننا كأفراد أصبحنا معنيين بمستقبل موارد الطاقة في مناطق تواجدنا بشكل خاص وفي العالم بشكل عام، فلم تعد الطاقة تؤثر في مستوى رفاهنا اليومي وطريقة تصريف أمورنا الحياتية فقط ، بل إنها تتخذ أهمية أكثر شمولا تتعلق بالقضايا المصيرية لمجتمعات مختلفة، وقد بدأ العالم يبحث عن حلول بديلة على أمل أن يعيش فترة انتقالية يستطيع أثناءها الانتقال من الاعتماد على المصادر الاحفورية للطاقة إلى الاعتماد على مصادر أكثر ديمومة وأقل تلويثا للبيئة. ولم يبق للإنسان سوى العودة إلى الأيام الماضية السعيدة ليعيد اكتشاف كيف تمكنت الأجيال الماضية من العيش قرونا طويلة دون نفط ولا غاز ولا فحم، وفي بحثه هذا لم يجد الإنسان بُداً من العودة إلى الطبيعة الأم محاولاً تطويع معطياتها وتسخيرها لخدمة استمرار تطوره الحضاري، معتمدا على التطور التكنولوجي.
فتكنولوجيا قادرة على الوفاء بجميع أنواع متطلبات الطاقة، حيث يمكن للطاقة المائية وطاقة الحرارة الأرضية وطاقة الرياح أن تحلّ تدريجيا محل مصادر الطاقة التقليدية، حيث يمكن المزج الملائم بين هذه المصادر وما توصلت إليه المختبرات العلمية.
1-التكنولوجيا نتاج مبدأ الحاجة أم الاختراع:
إذا كانت التكنولوجيا موجودة منذ أن وجد الإنسان، فإن العلم لم يظهر إلا منذ فترة حديثة نسبيا، فالإنسان من بين كل المخلوقات، منذ أن وجد في هذا الكون، وهو في حرب مستمرة مع الطبيعة للسيطرة عليها ولإخضاعها ، وتسيره في ذلك غريزة حب البقاء وإدراكه العقلي لضرورة وإمكانية تحسين وضعه المعيشي والفكري، وخلق درجة من الاستقرار في نمط عيشه، وفي حين أن بعض الحيوانات ملكت بالغريزة أساليب تكنولوجية تستخدمها في حياتها اليومية كأساليب النحل في بناء الخلية والنمل في تخزين الغداء لفصل الشتاء. فإن التكنولوجيا لا تأخذ إطارها الكامل إلا مع الإنسان لأنه الوحيد من كل المخلوقات الذي كان يمكن أن يكون مخترعا ومبدعا وليس فقط مقلدا. فالإنسان يتكيف مع كل شيء. والذي يحرره من قدرية الحيوان ومن عبودية الغريزة، هو تنوع الخلطات التي تسمح بها تركيبته الجسدية والفكرية، فتفوق الإنسان في مجال التكنولوجيا يكمن في التنسيق بين العقل واليد بحيث يجعل تحول المادة إلى أدوات أمرا ممكنا.
يمكن اعتبار التكنولوجيا تتويجا باهرا لنجاح العقل البشري في السيطرة على الطبيعة، وتدجينها لمصلحة الإنسان والبشرية. إلا أن التكنولوجيا في مراحلها الأولى من الظهور كانت تتميز بالبطء، كما أن ظهورها سابق على ظهور العلم إلا أن هناك علاقة ترابطية بين الطرفين، فكلما تعقدت العلوم والتكنولوجيا ازدادت انجازاتها وتعمقت وتوسعت الآثار التي تتركها على مختلف نشاطاتنا بقدر ما تعاظمت ضرورة ملاحقة هذه الآثار بهدف تحليلها وفهمها لاستغلال إيجابياتها والتقليل من سلبياتها.
وهذه السيرورة في التطور والنمو راجعة لأسباب عدة، فمتطلبات المجتمع الذي لا يكف عن النمو، والحاجة إلى تلبية الرغبات وكذلك الوصول إلى نتائج باهرة بأقل وقت وإنتاجية عالية بتكلفة مناسبة، كلها عوامل وأسباب جعلت التكنولوجيا تعرف تقدما مستمرا.
في البداية لم تكن محاولة الإنسان تسخير الطبيعة واختراع الوسائل والأدوات التي تساعده في ذلك ترفها ذهنيا أو حتى إتباعا فضوليا عنده، وإنما جاءت انطلاقا من مبدأ الحاجة أم الاختراع، فقد كان على الإنسان الأول أن يضمن بقاءه في عالم غريب وعدواني. فقد كان الإنسان الأول واقعيا وبرغماتيا، ففي معركته من أجل البقاء والارتقاء أخذ يستخدم الخامات المتاحة له لصنع الأدوات التي تزيده قوة و إنتاجية، فاستخدم الحجارة والعظام والخشب، وهذا ما يعرف بالتكنولوجيا البدائية. ومند اكتشاف الرأسماليين أن الآلة هي حليفهم الطبيعي في تعظيم أرباحهم، وأنه ليس من الصعب كسب العلماء إذا توافر لهؤلاء الحد الأدنى من الحوافز، والأفكار السائدة في تلك الحقبة بأن الخلاص البشري يكمن في الاعتماد على الآلة، وبدون هذا الحماس التبشيري الذي كان يملكه رجال الأعمال والصناعيون والمهندسون وحتى الميكانيكيون فإنه من المستحيل تفسير الوتيرة السريعة جدا للتحسينات الميكانيكية التي تتابعت،
إلا أننا إذا أردنا تثبيت اللحظة التاريخية التي أصبحت فيها التكنولوجيا تابعة للتطورات العلمية، فسنجد الجواب لا يزال غامضا، وعلى كل حال ما نستطيع أن نؤكده هو أنه ابتداء من القرن التاسع عشر فإن العلم والتكنولوجيا أصبحا غير قابلين للفصل وإنما يتفاعلان الواحد مع الأخر في الاتجاه الواحد، هذا ما جعل الثورة الصناعية الأولى المعتمدة على تكنولوجيا المحرك البخاري توفر القدرة للمجتمع الصناعي. ومعظمها هي مكائن حرارية وأهمها محطة القدرة البخارية وهي طريقة لتوليد الكهرباء إلى حد بعيد ومحرك الاحتراق الداخلي. مع انكباب العلماء والمخترعين من أجل تطوير هذه المحركات البخارية بما يتماشى والاكتشافات الجيولوجية للمواد الهيدروكربونية، جعلت هذه التكنولوجيا كوعاء يحضن فوائد هذه المواد الطبيعية وانتقلت محركات وماتورات تشتغل على الوقود الأحفوري، وطبعا هذه المحركات الناتجة عن البحث التكنولوجي كانت القلب النابض لتطور المجتمعات الصناعية، وبهذا انتقلت التكنولوجيا إلى ما يعرف بالتحول التكنولوجي أو بالتقدم التكنولوجي.
2-أين يكمن سحر التكنولوجيا لتحويل الطاقات الطبيعية:
وفي الأعوام الأخيرة أخذت تدور حول الأرض الأقمار الصناعية التي أطلقتها كل من أمريكا وروسيا إلى الفضاء، وتصل إلى المحطات الأرضية الإشارات والتقارير التي تسجلها الأجهزة الإلكترونية التي تغذيها بالكهرباء بطاريات شمسية مما يدعو إلى الإعجاب أن قوة تلك البطاريات التي تحول أشعة الشمس إلى كهرباء لم تضعف حتى اليوم.
في بادئ الأمر، كانت هذه التكنولوجيا أكثر كلفة من كل الصيغ الأخرى المتاحة للحصول على الطاقة من مصادر طبيعية، ولكن بفعل التطور التقني والعلمي خاصة الهندسة المجالية والهندسة الفيزيائية تمكنت من تطوير أنظمة متطورة فعّالة وتطبيق مناهج الإنتاج الصناعي المتقدمة، بات بالإمكان الاستفادة منها، خاصة بعد أن زادت نسبة التقنيات المستخدمة وزاد تطورها التكنولوجي. حيث واصل المهندسون والعلماء في عدد كبير من الأقطار بحوثهم وتجاربهم لاستغلال الطاقة البدائية بأجهزة تجمع بين الاقتصاد في النفقات والحصول على أكبر قدر ممكن من الطاقة. حيث تبذل الآن معظم دول العالم جهودا ضخمة في مجال الاستفادة من الطاقة الطبيعية وتأخذ هذه الجهود عدة صور، بعدها يغوص في أعماق البحث العلمي وأخرى تدور في فلك التطوير التكنولوجي للأجهزة والمعدات التي تحول الطاقة البدائية إلى صورة مألوفة من الطاقة سواء كانت طاقة كهربائية أو طاقة حرارية، وثالثة تخطط من أجل بناء مشروعات ضخمة تتكلف ملايين الدولارات.
فنحن نعلم أننا سنحتاج في المستقبل إلى تكنولوجيات بديلة للحلول محلّ مصادر الطاقة التقليدية، قليل من سيعارض هذه المقولة. والحقيقة أن معظم الناس سيقولون إن التكنولوجيات البديلة مرغوبة حاليا، إذا ما تمكنا من تطوير مصادر جديدة للطاقة، هذا سينسينا همومنا حول محدودية الوقود الأحفوري وكذلك المشاكل البيئية. وهنا تجدر الإشارة إلى أن استخدام مصطلح "تكنولوجيا الطاقة المتجددة". غير دقيق، وذلك لأن الطاقة لايمكن أن تكون إلا متحولة من مصدر معين، من هنا وإذا ما تحرى المرء الدقة، فسيتعين عليه والحالة هذه، أن يتحدث عن التكنولوجيات التي تقوم بتحويل الطاقة على نحو متجدد، أو ما شابه ذلك، فالمرء في حاجة دائما وأبدا، إلى وسيط يستقي منه الطاقة أو يغذيه بها. وبهذا المعنى لايمكن للطاقة أن تتغير على نحو مباشر أبدًا.
يحتم الاستخدام المستقبلي للطاقة الطبيعية كمصدر رئيسي للتزود بالطاقة، الاعتماد على خليط من المصادر. ومع هذا، فإن الأمر الذي لاشك فيه هو أن كل مصدر من مصادر الطاقة الطبيعية يكاد يكون، بمفرده كافيا لسد مجمل ما نحتاجه من الطاقة، وكما نعلم فالطاقة التي توفرها لنا الشمس في ساعة واحدة فقط ، تزيد عن تلك الطاقة المستخدمة على مدار عام في جميع أنحاء العالم. كما يمكن الاستفادة من الحرارة طوال اليوم وطوال أشهر السنة حسب نوع التكنولوجيا المتبناة، وقد عرفت تكنولوجيات الطاقة الشمسية تطورا هائلا، للاستفادة من هذا المصدر من خلال الخلايا الكهروضوئية أو الفولطاضوئية، وتعد هذه التقنية من التطورات التكنولوجية التي عرفها مجال الطاقات المتجددة خاصة الطاقة الشمسية، كما أظهرت كفاءة طاقية عالية جداً ومميزات اقتصادية وفنية واجتماعية. وكما نعلم، كان يمتد تاريخ استخدام الطاقة الحرارية الناجمة عن الشمس، إلى عصر ما قبل التاريخ. عندما استخدم الرهبان الأسطح المذهبية لإشعال ميزان المذبح، وفي عام 212 قبل الميلاد استطاع أرخميدس Archimedes أن يحرق الأسطول الروماني، وذلك بتركيز ضوء الشمس عليه من مسافة بعيدة مستخدمًا المرايا العاكسة.... يمكن القول أن هذه الفترة من استخدام الطاقة الشمسية، كانت مباشرة وبدائية عن طريق الحرارة المنبعثة من الاشعاع الشمسي أو ما يعرف بالتشميس insolation للتعبير عن حالة الشيء الذي يستقبل أشعة الشمس الواردة إلى سطح الأرض، لكن مع التطور الذي عرفته المجتمعات الإنسانية، استطاع الإنسان الاستفادة أكثر من هذه الأشعة عن طريق اختراع بعض الأدوات التي تجعل الأشعة الشمسية ذات فائدة أكثر بتكنولوجيا التحول من الحرارة الشمسية إلى ميكانيكية الطاقة الشمسية واستخراج الكهرباء منها.
الأمر نفسه مع قوة الرياح التي تستطيع أن تولد طاقة تسد أضعاف ما يحتاجه العالم من خلال ما يعرف بالمزارع الرياحية بواسطة توربينات والتي هي عبارة عن ريش، أو محاور دوارة، وكما تكفي من ناحية أخرى، الحرارة المخزونة في الباطن الأرض باستخلاص ما يزيد على بليون(س ك) منها. علاوة على ذلك فإن الأرض تولد دائما وأبدا الحرارة بفعل عمليات التناقص الإشعاعي، وعلى الرغم من أن القسط الأكبر من هذه الحرارة كائن في الأغوار البعيدة مما لا يتلاءم مع الاستغلال التجاري، فإن الكمية التي في متناولنا كبيرة بما فيه الكفاية وسوف تزيد بسرعة خلال العقود التالية مع تقدم تكنولوجيا الحفر...
دون أن ننسى الطاقة المائية التي أصبحت تلعب دورا هاما لإنتاج الطاقة الكهربائية الرخيصة، فهي ليست طاقة قديمة الاستعمال فحسب، بل تمثل أكبر مصادر الطاقة المتجددة استخداما في الوقت الحاضر، حيث تأتي في صدارة الطاقات المتجددة لإنتاج الطاقة الكهربائية نحو %17 وبحوالي %2.5 من إجمالي الإنتاج العالمي للطاقة...
إن استشراف وضع الطاقة عالميًا يؤكد أن هناك اتجاهات قوية ومتواصلة لإدخال تغيرات جوهرية على النمط السائد للنظام الطاقي العالمي، وتركز هذه الاتجاهات على إدخال تطبيقات الطاقة المتجددة التي تعتبر البديل الأنسب لمواجهة تغيرات المناخ والتلوث البيئي، وكذلك تحقيق الأهداف الإنمائية؛ ضمن ما يعرف بالاقتصاد الأخضر، بإعادة تشكيل وتصويب الأنشطة الاقتصادية لتكون أكثر مساندة للبيئة والتنمية الاجتماعية ضمن المعايير الدولية....في الحقيقة إن التفصيل والشرح للتطور التاريخي لاستغلال هذه الطاقات، لا يسمح به المجال لأن الحديث عن كل طاقة سيحتاج العديد من الصفحات لهذا، وربما في المستقبل، سيتم تناول كل طاقة على حدا منذ ظهور البشرية إلى يومنا هذا.