يبرر البعض استعمال السموم الكيماوية الزراعية (يسميها البعض أدوية، وهي ليست كذلك)، بالحاجة إلى إنتاج غذاء أكثر، لإطعام البشرية وتقليل الفاقد من المحاصيل بسبب الآفات! لكن، وحسب تقارير منظمة الزراعة والأغذية العالمية "الفاو"، فإن الفاقد بسبب الآفات يشكل ثلث المحاصيل (على الرغم من استخدام الكم الهائل من المبيدات)، وهي نسبة شبه ثابتة منذ عقود على استعمال المبيدات. كما أن آلاف بل وملايين الأطنان من الإنتاج الزراعي يُرمى في البحر للحفاظ على الأسعار عالية ولا يعطى هذا الإنتاج للجائعين، الذين بحجة إطعامهم، يتم تبرير استخدام الكيماويات والبذور المعدلة وراثياً. إذاً هذه أيضاً حجة واهية ويراد بها تضليل الناس وحرف الوعي عن مساره. السؤال الذي يحاول هذا المقال الإجابة عليه هو: لماذا نستمر في إستخدام المبيدات الفتاكة والسامة بصحتنا وصحة البيئة، في حين تستمر الآفات بإلحاق الضرر بالمحاصيل الزراعية؟؟ ثم نستخدم مبيدات أكثر، وتستمر الآفات في تهديد المحصول وإلحاق الضرر به؟
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعتبر إنتشار الآفات في الزراعة العصرية، من المشاكل الجدية التي تواجه المزارعين والمرشدين وتستعصي على الحل "الجذري"، الذي ينشدونه. ومع أنهم يستخدمون كميات كبيرة وأنواع كثيرة من المبيدات الكيماوية، بهدف القضاء على الآفات، إلاّ أن المشكلة لم تحل، وعلى العكس من ذلك، ففي كل الحالات ازدادت الأمور سوءاً وازدادت الآفات قدرةً على الفتك بالمحاصيل، مما يتطلب باستمرار إستخدام مبيدات أكثر وأشد خطورة على صحة الإنسان والبيئة بشكل عام.
واستمر الدوران في حلقة مفرغة وما زال كذلك لدى المزارعين الذين يمارسون الزراعة العادية المألوفة حالياً، القائمة على استخدام المبيدات الكيماوية، حيث يستخدم المزارعون مبيدات أكثر وبكميات أكبر، والحشرات مستمرة بالظهور، وتزداد قوةً وشراسة، ثم يعودون لاستخدام أنواع جديدة، لعلهم يستطيعون القضاء على الآفات، لكن الآفات تكتسب قوة ومناعة أكبر، وتزداد تكيفاً مع السموم الكيماوية، في جدلية الصراع من أجل البقاء.
الملاريا أكبر دليل
نجد في هذه المعركة العبثية دوماً أن الآفات هي التي تكسب، حيث لم يسجل التاريخ كله أن الإنسان استطاع القضاء على آفة، رغم كل الأموال التي تُضخ، والجهود التي تبذل. ويدعي البعض، في تبريره لاستخدام السموم الكيماوية الزراعية أنه لولا المبيدات الكيماوية لما تم “القضاء” على الملاريا!! وهنا يأتي السؤال مع علامة استفهام كبيرة: كيف لأصحاب الترويج لهذا الادعاء أن يستمروا في هذا التضليل لتبرير استعمال السموم الكيماوية، بينما الحقائق في العالم تقول غير ذلك؟؟ ففي العام ٢٠١٦ سُجل وجود الملاريا في تسعين دولة وأصيب به ٢١٦ مليون إنسان وتوفي حوالي نصف مليون بسبب الملاريا حسب تقرير منظمة الصحة العالمية* بل أن التقرير يتحدث عن "إرتفاعات كبيرة في معدل الإصابة بالملاريا في الأمريكيتين بين عامي ٢٠١٤ و٢٠١٦. وبالتالي فإن تبرير استعمال الكيماويات الزراعية السامة، بأنها قضت على الملاريا هو حجة واهية، لا تساندها الحقائق وفيها تضليل كبير ومستمر.
حلقة مفرغة
من جهة أخرى، يبرر البعض استعمال السموم الكيماوية الزراعية (يسميها البعض أدوية، وهي ليست كذلك)، يبررونه بالحاجة إلى إنتاج غذاء أكثر، لإطعام البشرية وتقليل الفاقد من المحاصيل بسبب الآفات! لكن، وحسب تقارير منظمة الزراعة والأغذية العالمية "الفاو"**، فإن الفاقد بسبب الآفات يشكل ثلث المحاصيل (على الرغم من استخدام الكم الهائل من المبيدات)، وهي نسبة شبه ثابتة منذ عقود على استعمال المبيدات، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن آلاف بل وملايين الأطنان من الإنتاج الزراعي يُرمى في البحر للحفاظ على الأسعار عالية ولا يعطى هذا الإنتاج للجائعين، الذين بحجة إطعامهم، يتم تبرير استخدام الكيماويات والبذور المعدلة وراثياً. إذاً هذه أيضاً حجة واهية ويراد بها تضليل الناس وحرف الوعي عن مساره.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا يستمر الدوران في هذه الحلقة المفرغة؟ أي لماذا نستمر في إستخدام المبيدات الفتاكة والسامة بصحتنا وصحة البيئة، في حين تستمر الآفات بإلحاق الضرر بالمحاصيل الزراعية؟؟ ثم نستخدم مبيدات أكثر، وتستمر الآفات في تهديد المحصول وإلحاق الضرر به؟
قد يكون من الأجدى، أولاً، البدء بالتفكير من زاوية جديدة، تقوم على أساس الفهم العميق لأسباب حدوث المشكلة - جذور المشكلة، وليس التعامل مع الأعراض بمحاولة القضاء على الآفات عندما تظهر، ما يعني التعامل مع أعراض المشكلة بعد أن تخرج إلى السطح، بعيداً عن فهم الجذور، لأن ذلك بالتأكيد لن يقود إلى حل المشكلة، إذا لم يتم الأخذ في الإعتبار الأسباب المؤدية إلى حدوثها، وهو ما أقصد به هنا العمل على جذور المشكلة. فنحن نحتاج إلى التحرر من الدائرة المفرغة التي ندور بها المتمثلة بوهم محاولة القضاء على الآفات باستخدام المبيدات، من خلال الوصول إلى حل دائم لها. وربما من المهم أيضاً في هذا الإطار، إعادة النظر في موضوع الأعشاب، من حيث اعتبارها آفات، كما هو حاصل الآن في الزراعة العادية/المعتمدة على الكيماويات، وعدم اعتبارها آفة، والتعامل معها من منظور آخر يتمثل في اعتبارها مصدر (أنظر المقال السابق بعنوان "الزراعة وشيء من برمجة العقول: الحلقة (٢) الأعشاب": http://www.maan-ctr.org/magazine/article/2050/)
فندق الحشرات
الآفة المشكلة
إن التعامل مع الآفات يجب أن يرتكز على قاعدة أن النظام الحيوي يتغير كله إذا ما عدّلت أو أَثَرْتَ في عنصرٍ واحدٍ فيه، وتأتي هذه القاعدة من النظر إلى الأرض كما لو أنها كائن حي واحد، بحكم العلاقات المترابطة التي تجمع أشكال الحياة كلها والأشياء غير الحية ضمن النظام الحيوي.
ينظر الإنسان دائماً إلى الآفات على أنها ضارة. وقد يكون ذلك صحيحاً، إذا ما نظرنا إليها من زاوية الربح فقط. وقد دفعت هذه النظرة إلى البحث الحثيث عن طرق لإفناء الآفات. وبشكل خاص، ومن منتصف القرن العشرين، كان البحث عن طرق كيماوية هو الأساس في هذا التوجه، الذي يقوم على:
- استخدام السموم الكيماوية (الضارة بكل الأحياء)
- التعامل مع المشكلة الحالية عندما تنشأ، أي معالجة الأعراض
- عدم الإلتفات لجذور المشكلة، كأساس للتعامل معها
من وجهة النظر البيئية، تعتبر الحشرات الضارة (مثلاً) مستهلكات من المرتبة الأولى، ودورها في السلسلة الغذائية يكون أحياناً مهماً، وأحياناً غير ضروري حسب فهمنا. ولكن إذا غابت الحشرات فإن المستهلكات من الدرجة الثانية لن تستطيع العيش، لأنها تعتمد على المستهلكات من الدرجة الأولى. وبالتالي سوف يحدث خللٌ في السلسلة الغذائية. والحشرات تبقى في حدود معينة في النظام البيئي المتوازن، وتتحول إلى حشرات ضارة عندما يحدث خلل في النظام البيئي، فتلحق الأذى بالمزروعات. على هذا الأساس نستطيع القول أن المشكلة ليست الحشرات، ولكن السبب الذي يؤدي لحدوث خلل في التوازن البيئي، وبالتالي زيادة الحشرات الضارة بالمحاصيل، هو المشكلة الأساسية. أي أن الحشرات تعمل بمثابة المؤشر على أن شيئا خاطئاً قد حدث وأخلَ بالتوازن البيئي.
وكذلك هو الحال بالنسبة للمسببات المرضية. حيث أنها موجودة في الطبيعة وتتحول إلى آفة حين يحدث خلل، يؤدي إلى التسبب في أمراض النبات. ومرة أخرى فالمشكلة ليست في وجود المسبب المرضي، وإنما في العوامل التي ينشأ عنها عدم التوازن في البيئة. إذاً فالبداية هي منع العوامل التي تؤدي إلى حدوث الخلل في التوازن.
إن القضاء على الآفات من خلال الكيماويات عملية مستحيلة، لأسباب بسيطة ومعروفة فالحشرات، على سبيل المثال، تتميز بالسرعة في التكاثر، ووضعها لأعداد هائلة من البيض. هذه الصفات تتيح الفرصة للآفات لاكتساب المناعة بسرعة، وبالتالي استمرار الفتك بالمحاصيل. والعامل الآخر الذي يوفر الظرف المناسب لسرعة انتشار الآفات، هو أن الأعداء الطبيعية تختفي مع الإستخدام المتكرر للمبيدات، لأنها لا تتمتع بنفس سرعة التوالد ولا تتواجد بأعداد كبيرة كما الآفات. والنتيجة الطبيعية لهذا هو الإنتشار الكبير للآفات وموت الأعداء الحيوية. وقد تبرمجنا على أن الحشرات (والحشرات بشكل عام)، هي حشرات "ضارة"، لدرجة وصلت بالكثيرين للاعتقاد أن دودة الأرض الحمراء، هي حشرة ضارة، يجب القضاء عليها، فتجده يبحث عن مبيدات تقضي عليها، رغم الفوائد العظيمة لهذه الدودة على الزراعة بشكل خاص وعلى البشرية بشكل عام.
بناءً على ما تقدم نستطيع القول أن الآفة ليست مشكلة، ولكنها مؤشر على حدوث خلل في التوازن، مما يتطلب العمل على إعادة التوازن ـ أي العمل على جذور المشكلة، وبالتالي السيطرة على الآفة، التي تشكل أعراض المشكلة.
الحلول
إن العمل على حل المشكلة بالتركيز على جذورها، يبدأ أولاً من ترسيخ القناعة بأنه لا توجد هناك مشكلة إسمها الآفات. لأنه في حالة وجود توازن في المزرعة، وحسب المفهوم هذا، لا يعد ظهور الآفة مشكلة، بل عرضاً لسبب، يجب التعرف عليه ومعالجته لإعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي. والأسباب دوماً تكمن في غياب التوازن البيئي.
يبدأ العمل من خلال اتخاذ الخطوات الوقائية، التي عادةً لا تجتذب المزارعين وتجعلهم يلجأون إلى الكيماويات، وذلك لسببين:
- لأنها تعمل ببطء ونتائجها تظهر على المدى الطويل
- لأن تأثيرها غير مباشر على الآفة
أما المبادئ الأساسية السبعة في العمل فتتمثل (ولا تنحصر) في:
* التنويع، والذي يعد أهم عناصر بناء النظام البيئي المتوازن. ويتم العمل عليه من خلال تنويع زراعة المحاصيل، الزراعة المركبة (أو المختلطة).
* عدم استخدام الكيماويات التي تشكل أحد أهم عوامل الإخلال بالتوازن البيئي.
* الدورة الزراعية وإغناء التربة باستخدام الأسمدة الطبيعية (الأسمدة الحيوانية والسماد الأخضر والسباخ/الكمبوست).
* التوقيت الأنسب للزراعة، ومسافات الزراعة الصحيحة.
* إختيار البذور والأشتال الجيدة (ويفضل المحلية).
- العمل بنظام "الجذب والتنفير"، والذي يعني زراعة نباتات جاذبة للحشرات النافعة ونباتات جاذبة للحشرات الضارة في محيط الحقل، وأخرى منفرة للحشرات الضارة ولكن بين المزروعات نفسها.
- العمل باستمرار على تقوية التربة وزيادة خصوبتها. المؤشر الأساسي لخصوبة التربة هو مقدار ما فيها ممن كائنات حية كالديدان الحمراء والبكتيريا والفطريات، ووجود هذه الكائنات مؤشر على أن التربة خالية من السموم الكيماوية من جهة، وغنية بالمادة العضوية الدبالية (الهيومس/الدبال) من جهة أخرى.
هذه المبادئ صالحة لكل أنواع الزراعة سواء كانت زراعة خضار، أشجار أو محاصيل حقلية لا فرق. وتتطلب هذه المبادئ معرفة عميقة ووعي بالعمل الفلاحي/الزراعي، عكس الزراعة القائمة على استخدام السموم الكيماوية، التي تقوم على وصفات جاهزة من شركات إنتاج البذور المعدلة وراثياً، المتحالفة مع شركات إنتاج السموم الكيماوية.
___________________
*للمزيد عن الملاريا يمكن الرجوع لتقرير منظمة الصحة العالمية على الرابط التالي:
https://www.who.int/malaria/media/world-malaria-report-2017/ar/
**للمزيد عن الفاقد في المحاصيل الزراعية بسبب الآفات يمكن العودة لتقرير منظمة الزراعة والأغذية العالمية "الفاو"
http://www.fao.org/news/story/ar/item/469347/icode