الزراعة وشيء من برمجة العقول... الأعشاب
إن أخطر ما يجري تعليمنا إياه في كليات الزراعة هو "فن تسميم الغذاء" من خلال تسميم التربة والنباتات بالأسمدة الكيماوية والمبيدات، والمحاولات البائسة للقضاء على الآفات، التي تشمل الأعشاب. هذه السياسة الممنهجة بحاجة للمواجهة لتغييرها، من خلال تقديم نماذج بديلة، تنظر للأعشاب كمصدر مهم للعملية الإنتاجية، وكمصدر للغذاء ومُكَوِّن رئيسي للنظام البيئي في الطبيعة، ومصدرٍ من مصادر تحسين خصوبة وبنية وتركيبة التربة - إنها صديق للمزارع وليست عدواً له. من الغباء القول بوجوب مكافحة الأعشاب، خاصة بالسموم/المبيدات العشبية، لكن لا يعني ذلك ترك الأعشاب تنمو كيفما جاءت، بل علينا تعلم كيفية إدارة الأعشاب بطريقة تجعلنا نستفيد من طاقاتها الكامنة إلى أقصى حد، مع تقليل التأثير على المحاصيل المزروعة إلى أدنى حد. علينا أن نحلَّ مفهوم "إدارة" الأعشاب، بدل مفهوم "القضاء" عليها، وأن ندع بعيداً عنا ما يأتوننا به ليعلموننا أن الأعشاب ضارة …فأي برمجة للعقول هذه؟!
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
استخدام بقايا الأعشاب كغطاء حيوي للتربة |
تعدُّ الأعشاب مصدراً للعدوى، فعليها تكمل بعض الحشرات "الضارة" دورة حياتها حين ينتهي المحصول، أو خلال فترة نموه وتطوره، وهي كذلك مصدرٌ للأمراض الفطرية والبكتيرية. الأعشاب تنافس المحاصيل على الغذاء، تمتص الكثير من الماء وتنافس المحاصيل على ضوء الشمس، لكل ذلك وربما أكثر، الأعشاب ضارة ويجب التخلص منها بكل الوسائل والوسيلة الأكثر شيوعاً اليوم … تلك السموم، التي يطلقون عليها "دواء" الأعشاب.
(بداية البرمجة أن تسمي السم "دواء")، فهو مبيد وسم يتسبب بكل ما يمكن تصوره من مآسي صحية على البشر وكوارث للطبيعة وتدمير للتربة وبالتالي كوارث في الحاضر والمستقبل على مستوى إنتاج الغذاء والجودة الحقيقية للغذاء الصحي، المنتج دون استعمال السموم الكيماوية، مع خلق مشاكل أكبر من خلال ظهور الأعشاب “الجبارة” (Super weeds)، التي لم تعد مبيدات الأعشاب تجدي معها نفعاً، وتحولت إلى أعشاب مسيطرة، واختفت غيرها من الأعشاب.
في العالم حيث تمارس "الزراعة الكيماوية" تتبرمج العقول على مبدأ "القضاء"على الآفات وتُعَلِّم الجامعات طلابها الزراعيين على أن الأعشاب هي واحدة من الآفات، وهذا يتم نقله للفلاحين، الذين يمتصون المعلومة ويبدأون بالعمل وفقها، وكأنها جاءت من كتب سماوية مقدسة. إن أخطر ما يجري تعليمنا إياه في كليات الزراعة هو "فن تسميم الغذاء" من خلال تسميم التربة والنباتات بالأسمدة الكيماوية والمبيدات، والمحاولات البائسة للقضاء على الآفات، التي تشمل الأعشاب. هذه السياسة الممنهجة بحاجة للمواجهة لتغييرها، من خلال تقديم نماذج بديلة، تنظر للأعشاب كمصدر مهم للعملية الإنتاجية، وكمصدر للغذاء ومُكَوِّن رئيسي للنظام البيئي في الطبيعة، ومصدرٍ من مصادر تحسين خصوبة وبنية وتركيبة التربة - إنها صديق للمزارع وليست عدواً له.
الأعشاب والأمطار وانجراف التربة
في الأراضي المكسوة بالعشب، سواءً كان العشب حياً أخضراً أم جافاً، تلعب الأعشاب دوراً حيوياً في منع انجراف التربة، فهي تتلقى الصدمة الأولى عندما تتساقط عليها قطرات المطر، قبل أن تصطدم تلك القطرات بحبيبات التربة، مما يسمح بالدخول السلس لمياه الأمطار إلى جسد الأرض ويمنع في الوقت ذاته الجريان السطحي للمياه. منع الجريان السطحي لمياه الأمطار أو الحد منه، يؤدي إلى منع انجراف التربة، ما يمنع تدهور الغطاء النباتي ويحفظ التنوع الحيوي ويؤدي إلى حفظ المياه في باطن الأرض بدل فقدانها في البحر وعدم الاستفادة منها. من جهة أخرى تلعب جذور الأعشاب دوراً مهماً في مسك مياه الأمطار في التربة، ذلك لأن جذورها تكون على أعماق مختلفة باختلاف نوع الأعشاب وليس كما في المحصول الواحد، الذي تكون جذوره على عمق واحد. هذا الاختلاف في أعماق الجذور يسمح بدخول مياه الأمطار على أعماق مختلفة وتشكل هذه الجذور شبكات تمسك بمياه الأمطار وتمنع انجراف التربة. وحسب س. هولسر، فقد لوحظ أن الغابات الصناعية، التي تعتمد على نوع واحد من الأشجار تكون فيها التربة معرضة للانجراف بسبب مياه الأمطار أكثر بكثير من التربة في الغابات الطبيعية حيث التنوع الكبير في النباتات وبالتالي في أعماق الجذور، وبذلك يكون للأعشاب (الحولية والمعمرة) دور مهم في إكمال دورة الماء في الطبيعة.
الأعشاب في هوامش الحقول ضرورية للسيطرة على الحشرات الضارة ولمنع انجراف التربة
الأعشاب وحرارة الأرض
الحقول العارية، حيث تكون الأرض مكشوفة بلا غطاء، تسهم إلى حد كبير في ارتفاع حرارة الأرض، بسبب ارتداد أشعة الشمس إلى الغلاف الجوي على شكل حرارة بعد اصطدامها بسطح التربة العارية، بينما لو كانت التربة مكسوة بالنباتات ومنها الأعشاب لأمسكت أوراق النباتات بالضوء، الذي تستخدمه في عملية البناء الضوئي/التمثيل الكلوروفيلي، وحولت هذه الطاقة الضوئية إلى غذاء، بدل أن تتحول إلى حرارة ترتد للجو. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن وجود الغطاء النباتي يسهم في تبريد الجو وامتصاص الحرارة وتحويلها لطاقة منتجة، من خلال عملية التبخر النباتي (النتح)، وبذلك تعمل الأعشاب فعلاً مزدوجاً: إمتصاص الضوء وعدم السماح بتحوله لحرارة، وإطلاق البخار في الجو مما يقلل من الحرارة.
التنوع الحيوي
تعيش على الأعشاب أو تعتمد عليها مئات أنواع الكائنات الحية من حشرات وغيرها، سواء كمسكن أو تعتاش من البذور الناتجة عنها (النمل والطيور). وبذلك تسهم الأعشاب في حفظ التنوع الحيوي العالمي، فيما القضاء عليها يعني القضاء على التنوع الحيوي وما ينتج عنه من اختفاء العديد من الأنواع من حشرات وطيور، مما يؤدي إلى الإخلال بسلسلة الغذاء. وعلى الأعشاب تعيش مئات الأنواع من الحشرات والكائنات آكلة الحشرات الضارة بالمحاصيل في توازن فريد تمتاز به الطبيعة. ومن خلال هذا الفهم؛ فإن المزارع البيئي يعمد إلى ترك مساحة من أرضه دون أن يمسها لكي تنمو فيها الأعشاب البرية وللإبقاء على التوازن الحيوي، الذي يفيده في زراعته ويساعده في إبقاء الآفات تحت السيطرة.
مصدر جيني غني
تكون النباتات والمحاصيل، التي نزرعها ذات أصل بري، عمل الإنسان على انتخابها وتحسينها، لتتحول إلى محاصيل زراعية يزرعها ويتغذى عليها. فالمحاصيل الحقلية هي في الأساس ذات أصل بري، أي كانت عبارة عن أعشاب، والكثير منها ما زالت أصوله البرية موجودة على شكل أعشاب، يسميها المختصون: أعشاب ضارة، فيما هي نباتات تحتوي على مخزون جيني هائل، عادة ما يتميز بالقدرة على تحمل الظروف القاسية للنمو، مثل الجفاف، ارتفاع الملوحة وتحمل الآفات. وعلى سبيل المثال يعد مصدر أصناف أجود أنواع القمح الصلبة في العالم الجيني هو القمح الفلسطيني البري (Triticum palaestinum).
وما زال العلماء يستخدمون النباتات البرية كمصدر جيني لتحسين المحاصيل، فإذا انقرضت سيفقد العالم هذا المخزون الجيني الاستراتيجي لحياته، وتصبح الشركات التي تعمل على إنتاج بذور معدلة وراثياً هي المتحكمة بالبذور بشكل مطلق ومتحكمة بالمخزون الجيني العالمي، لتستخدمه في السيطرة على شعوب العالم من خلال الغذاء، وهذا ما تسعى له تلك الشركات.
مادة عضوية
بقضائه على الأعشاب، خاصة باستخدام السموم التي تسمى مبيدات الأعشاب، فإن المزارع يسعى بيديه، وفي غالب الأحيان بجهل منه، إلى تحويل أرضه إلى أرض متصحرة بعد عدة سنوات. ويقع المزارع هنا ضحية تجار المبيدات والمختصين، الذين يعملون على توجيهه لاستخدام مبيدات الأعشاب، فهو يمتص المعلومات التي تقدم له، كما تمتص الإسفنجة الماء، نقياً كان أم عكراً، صحياً أم مسموما.
إن المزارع بقضائه على الأعشاب، إنما يقضي على فرصة تحسين خصوبة التربة، عن طريق تحسين المادة العضوية فيها، والتي تنتجها الأعشاب وغيرها من النباتات، المتواجدة في الحقل، إضافة إلى قضائه على الكائنات الحية، التي تلعب دوراً محورياً في تحسين خصوبة التربة وحماية النبات من الآفات الممرضة، عن طريق التوازن الطبيعي داخل التربة. إضافة إلى أن السموم العشبية (مبيدات الأعشاب) تلعب دوراً محورياً في تخريب بنية التربة وتركيبتها، ولقلة معرفة المزارعين، فإنهم يعتقدون أن التربة بتحولها إلى تربة "ناعمة" تحت أقدامهم، يعتقدون أنها أصبحت أفضل، بينما الحقيقة أنها أصبحت تموت وتفقد الحياة فيها وتفقد بنيتها وتخرب تركيبتها، مما يحولها إلى متصحرة من جهة، ومن جهة أخرى أكثر عرضةً للإنجراف بفعل مياه الأمطار والتعرية بفعل الرياح التي تذروها بسهولة.
وبعد (١٥-٢٥ سنة) من استعمال مبيدات الأعشاب تتحول الأرض إلى قاحلة لا يمكن أن تنمو فيها النباتات، ومثال على ذلك حقول الزيتون عندنا، التي يقوم أصحابها برشها بمبيدات الأعشاب، فقد باتت تظهر الآثار على الأشجار من خلال نقص الأوراق على الشجرة وبدء تدهورها التدريجي. من هنا، فإن القضاء الكيماوي على الأعشاب سيكون له انعكاسات كارثية على التربة وخصوبتها وعلى قدرة المحاصيل في الاستمرار والإنتاج.
الحفاظ على الأعشاب ضروري لحماية التنوع الحيوي والجيني
غطاء حيوي
كما الإنسان يحتاج للباس يحمي به جسده من حرِّ الصيف وبرد الشتاء، تحتاج الأرض لغطاء يحميها. هذا الغطاء يلعب دوراً مهماً في تحسين الإنتاج الزراعي، حيث يتحول إلى مادة عضوية ترفع خصوبة التربة وتحتاجه أيضاً الكائنات التي تستوطن التربة، في توازن مبني عبر ملايين السنين، قبل أن يأتي الإنسان "بذكائه" ليخل بهذا التوازن. تقوم الأعشاب بهذا الدور، حين تجف وتبقى على سطح الأرض، أو حين يقوم الفلاح بقصها وتركها على وجه التربة.
قديما قال الآباء والأجداد: "بركة الأرض وجهها"، ما يدلل على أهمية الطبقة السطحية من التربة، التي تتميز باحتوائها على المادة العضوية، المتكونة نتيجة تحلل الأعشاب والبقايا النباتية الأخرى، بمساعدة الكائنات المستوطنة داخل التربة. ولكي تكون هذه الكائنات فعالة، تحتاج لغطاءٍ من القش الذي يقيها ضوء الشمس وحرارتها، هذا الغطاء توفره الأعشاب سواء وهي خضراء حية أو وهي جافة. يلعب الغطاء الحيوي دوراً محورياً في حفظ الرطوبة داخل التربة - هذه الرطوبة تحتاجها الكائنات الحية والنباتات لتستمر في نشاطها ليتواصل نموها وتطورها. ومن خلال ذلك نرى الأهمية الاستثنائية للأعشاب في أداء هذا الدور.
غذاء للحيوانات
لم تكن الأعشاب شيئاً زائداً عن الحاجة لدى الفلاح في يومٍ من الأيام، فقد كانت توفر غذاءً لحيواناته، سواءً حيوانات العمل أو المنتجة للغذاء (أغنام، أبقار، طيور، أرانب ..)، ويمكن لها أن تستمر في أداء هذا الدور، بدل القضاء عليها بالسموم/المبيدات الكيماوية. وبذلك تكون الفائدة مضاعفة، حيث تعود على شكل روث عالي القيمة، لتغذية التربة وإنتاج محاصيل ذات جودة عالية.
غذاء للإنسان
فقد الجيل الجديد الكثير من المعرفة حول النباتات البرية، التي تؤكل طازجة أو مطبوخة. ونلاحظ في أماكن استعمال السموم/المبيدات العشبية اختفاء هذه النباتات، التي تحظى بأهمية تغذوية وصحية عالية، مثل نباتات قرن الغزال، الخس البري، الهندباء البرية، الذِّبَّحْ، البريدة، الصيبعة، الخبيزة، الخرفيش، القريص، السيسعة، والكثير الكثير من النباتات التي تؤكل وتشكل جزءاً من التراث والثقافة الفلسطينية، التي بدأت تُسرق من قبل الاستعمار الصهيوني وبدأ ينسبها لنفسه في المحافل الدولية.
مصدر للعلاج
لا يقل الدور العلاجي للأعشاب والنباتات البرية عن الدور التغذوي لها، فهناك عشرات الأنواع من النباتات والأعشاب البرية، ذات الأهمية العلاجية-الطبية والوقائية من الأمراض. هذه النباتات أيضاً أصبحت معرضة لخطر الانقراض بسبب السموم الكيماوية، فيما تحمل في داخلها إمكانيات عالية ومهمة لتوفير الصحة للناس. هذا الدور الوقائي والعلاجي لهذه النباتات تتم محاربته لصالح الصناعة الدوائية الكيماوية، مع العلم أن 30% من الأدوية البشرية، ما زالت تعتمد على النباتات.
زراعياً: تأتي بالغذاء من الأعماق
الدور غير المرئي والقليل من الناس تعرفه يتمحور حول قدرة النباتات والأعشاب البرية على امتصاص العناصر المعدنية من أعماق كبيرة، لا تستطيع المحاصيل العادية الوصول إليها. تأتي النباتات والأعشاب البرية بهذه العناصر من الأعماق البعيدة وتطلقها على سطح التربة أو في الطبقة السطحية منها، من خلال تحلل جسد الأعشاب أو أجزاء منها، كالأوراق وأجزاء السيقان والجذور السطحية حين تموت النباتات وتتحلل، بل إن بعض النباتات وخلال حياتها، تطلق جزءاً من تلك العناصر المعدنية في الطبقة السطحية من التربة من خلال جذورها وتقدمها وجبات جاهزة للمحصول الذي نزرعه (كما يحصل في حال نبات عرف الديك البري/الغبيرة، الذي يحرر خلال نموه، 25% من العناصر المعدنية، التي يمتصها من الأعماق في الطبقة العليا من التربة). وهناك نباتات أخرى تقوم بدور شبيه خلال فترة نموها مثل نبات الكمفري (Comfrey) وغيره.
ناقل للماء
بسبب الخاصية سابقة الذكر، فإن النباتات البرية والأعشاب طورت مجموعاً جذرياً قوياً جداً وعميقاً، ليأتي من الأعماق، بجانب العناصر المعدنية. وحين يأتي بالماء فإنه لا يستفيد منه وحده، بل تستفيد منه النباتات القريبة، لأنه يعمل على ترطيب المنطقة المحيطة به فتستفيد جذور النباتات القريبة.
بعد كل هذه الفوائد للأعشاب، فإن من الغباء القول بوجوب مكافحتها، خاصة بالسموم/المبيدات العشبية، لكن لا يعني ذلك ترك الأعشاب تنمو كيفما جاءت، بل علينا تعلم كيفية إدارة الأعشاب بطريقة تجعلنا نستفيد من طاقاتها الكامنة إلى أقصى حد، مع تقليل التأثير على المحاصيل المزروعة إلى أدنى حد. علينا أن نحلَّ مفهوم "إدارة" الأعشاب، بدل مفهوم "القضاء" عليها، وأن ندع بعيداً عنا ما يأتوننا به ليعلموننا أن الأعشاب ضارة …فأي برمجة للعقول هذه؟؟؟!!!