بيت لاهيا.. عن "درة الشمال الزراعية" التي طالتها آلة التدمير الإسرائيلية
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لا يتخيّل المزارع الفلسطيني أنّ يعيش في مكانٍ يخلو من وجه الطبيعة الحَسن، لذا تجده بعد كل عدوانٍ إسرائيلي يستهدف أرضه، يعود إليها متلهفًا بقلب المحبّ المخلص، يُوصِل الليل بالنهار يبدأ من الصفر أحيانًا، المهم أن تستعيد عافيتها وتزهو. هذه بيت لاهيا "دُرّة شمال قطاع غزة الزراعية"، أصرَّ الاحتلال الإسرائيلي على مدار شهور حربه المسعورة، على محو الحياة عنها، بتجريف أراضيها وتدمير أشجارها ونباتاتها وبنيتها التحتية، وتلويث تربتها ومائها وهوائها. لعل سُكانها يرفعون الراية البيضاء ويتركوها.. لكن هل يتخلى الإنسان عن أمه؟
|
 |
أشتال زراعية في بيت لاهيا خلال العدوان الإسرائيلي |
لا يتخيّل المزارع الفلسطيني أن يعيش في مكانٍ يخلو من وجه الطبيعة الحَسن، لذا تجده بعد كل عدوانٍ إسرائيلي يستهدف أرضه، ما يلبث أن يعود إليها متلهفًا بقلب المحبّ المخلص، يُوصِل الليل بالنهار، يبدأ من الصفر أحيانًا، المهم أن تستعيد عافيتها وتزهو.
هذه بيت لاهيا "دُرّة شمال قطاع غزة الزراعية"، أصرَّ الاحتلال على مدار شهور حربه المسعورة، على محو الحياة عنها، بتجريف أراضيها وتدمير أشجارها ونباتاتها وبنيتها التحتية، وتلويث تربتها ومائها وهوائها، لعل سُكانها يرفعون الراية البيضاء ويتركوها.. لكن هل يتخلى الإنسان عن أمه؟
وتقع مدينة بيت لاهيا، شمال القطاع، على بعد حوالي 7 كم من مدينة غزة، وتبلغ مساحتها 24 ألفًا و500 دونم، وتُعرف بجمال طبيعتها وفواكهها وخضراواتها المتنوعة، ومياهها العذبة ومناخها المعتدل؛ ما جعلها أكثر المناطق خصوبة وإنتاجًا.
"هي الروح، مثل الأم تمامًا" يقولها المزارع صقر أبو ربيع (46 عامًا) وهو من سكان منطقة الشيماء الواقعة شمال غرب بيت لاهيا؛ واصفًا مدى حبه للأرض وتعلقه بها، ما دفعه لاستصلاحها مرتين في الحرب، رغم التحديات والمخاطر الإسرائيلية التي تحيط بهم.
ففي سن مبكرة شقّ طريقه نحو الزراعة وأصبح يومًا بعد آخر مسؤولًا عن 25 دونمًا في المنطقة، يزرعها سنويًا بالفراولة ومحاصيل البطاطا والبصل والذرة، حاصدًا عشرات الأطنان من ثمار تعبه التي يُصدّرها للأسواق محليًا وخارجيًا.
يتغنّى أبو ربيع بما تتفرّد به البلدة من خصائص، تؤهلها لتكون منطقة زراعية طيلة العام، على عكس سائر المناطق، شارحًا ذلك لـ "آفاق البيئة والتنمية": "تربتها رملية خفيفة، مياهها عذبة، مناخها معتدل، ما يجعلها أخصب مكان للزراعة".
ولأنّه تعوّد على الأرض بمظهرها الخّلاب، عزَّ عليه حين عاد إليها بعد انقطاع لـخمسة شهور بسبب الحرب، أن يراها في حالة خراب تام بسبب آلة التدمير الإسرائيلية، جرداء إلا من العشب، يقول: "والله تقطّع قلبي عليها وقررت استصلاحها فورًا، مهما كلّفني ذلك من ثمن".
في مارس/ آذار 2024، بدأ ضيفنا ونجله يوسف، بالتدريج يدبّان الحياة في الأرض، يحكي لنا في هذا الصدد: "صعب أن تبدأ من العدم، لكن ليس مستحيلًا. حرثنا الأرض بأدوات بدائية وجهزناها بما هو متوفر من أسمدة ومواد تعقيم، وصولًا لزراعتها بالملوخية والفلفل والباذنجان".
وفي إجابته عن سؤالنا "هل نجحت المحاولة؟" ردَّ بقوله: "رغم أنها لم تُعط حقها كاملًا تحديدًا في الريّ والتسميد، إلا أن جميع المحاصيل نجحت(..) حينها شعرت أن الأرض فرحت بوجودنا، أما نحن شعرنا بشيء من راحة البال حين عدنا لها".
محاولة أبو ربيع، لم تسلم من بطش الاحتلال، إذ كانت أرضه عرضة للقصف بثلاث قذائف من المدفعية يوميًا، لثنيه ومن معه عن المواصلة، لكنهم لم يستسلموا فكان الثمن، تجريف الأرض مجددًا في أيلول/سبتمبر 2024، وإصابته واستشهاد ابنه يوسف الذي قاد مبادرة التشجيع على الزراعة المنزلية لمواجهة المجاعة.

الجوري في أحد بيوت بيت لاهيا
"إذا رجعنا عمّرنا"
ومن حقل تجاربه السابقة، يؤكد أن التربة تفقد كثيرًا من عناصرها جراء مواد المتفجرات السامة التي تتغلغل فيها، ما يؤدي إلى فقدان خصوبتها، وينعكس سلبًا على جودة المحاصيل الزراعية ودورة نموّها.
ووثّق قصف أرضه بـ 300 قذيفة في الفترة التي سبقت نزوحه الأخير في أكتوبر/ تشرين أول 2024 بسبب العملية العسكرية في شمال القطاع؛ ما أحدث حفرًا عميقة ودمّر شبكات الريّ وثلاث آبار للمياه.
عاود أبو ربيع الكرّة مرة أخرى فـ "المحب لا يملّ" كما يخبرنا، حيث جهّز أرضًا بمساحة 15 دونمًا لزراعة البصل ونبتة السلق، وقبل أن تُكلل الخطوة بالنجاح، جاء العدوان الأخير على الشمال وأتى على ما تبّقى من الأخضر واليابس هناك.
ويتأمل، أن يعود إلى بيت لاهيا متعهدًا أن "يأكل أهل القطاع من خضرتها بعد شهرين فقط من توقف الحرب؛ فإذا رجعنا يا عمّ عمّرنا" يقولها مستبشرًا.

الفراولة في بيت لاهيا قبل العدوان الإسرائيلي
وفي هذا السياق، يشير محمد أبو عودة، الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة في قطاع غزة، إلى أن أراضي بيت لاهيا تُشكل 50% من المساحة الزراعية للمنطقة الشمالية، وحوالي 25% من مساحة القطاع الزراعي عمومًا.
عمليًا، لا يمكن التنبؤ بالخسائر التي ألحقها الاحتلال في القطاع الزراعي عمومًا، لكن أبو عودة يؤكد لمراسلتنا أن العدوان أتى على كل مقومات الحياة الزراعية ودمرّها بنسب متفاوتة، وكان لبيت لاهيا نصيب الأسد، فهي واحدة من المناطق الحدودية التي تعد أساسية للإنتاج الزراعي، حسب قوله.
وبالنظر للمؤشرات المتوفرة، فإن الخضراوات هي المحاصيل الأكثر عرضة للضرر، أبرزها التوت الأرضي والبطاطا في شمال القطاع، كما أن التدمير أدى لتغيير طبوغرافية وجغرافية الأراضي الزراعية هناك.
فيما يُقدر أبو عودة، أن القطاع الزراعي بحاجة لـخمس سنوات تقريبًا ليصبح قادرًا - كما السابق- على توفير الجزء الأكبر من الغذاء؛ لسكان القطاع البالغ عددهم قرابة 2.3 مليون نسمة.

باذنجان الشهيد يوسف أبو ربيع الذي قاد مبادرة التشجيع على الزراعة المنزلية لمواجهة المجاعة خلال العدوان
حين تنتهي الحرب
تكاثرت الأسئلة في ذهن محمود الشافعي (42 عامًا) حول مصير أرضه الممتدة على مساحة 15 دونمًا في أقصى بيت لاهيا، يقول لـ "آفاق البيئة والتنمية": "لم أرَ صورًا لها فهي تبعد نصف كيلو عن السياج الحدودي مع "إسرائيل"، لكن ما أعرفه أن المنطقة صارت خرابًا عقب العدوان".
يمتهن الشافعي الزراعة منذ 20 عامًا وقد شقَّ طريقه في زراعة الفراولة؛ رغم التكاليف التي يتكبدها لإنجاح الموسم، فالدونم الواحد يُكلّفه سنويًا قرابة 10 آلاف شيكل، قبل أن يصل إلى مرحلة الحصاد ويُبشّر صاحبه بحوالي خمسة أطنان.
وعادة، يلزم المزارع في غزة أرضه ويتعهدها بالرعاية كأنها "طفل مدلّل" لعائلته، فلا يغادرها إلا وقت "الشدّة" وحين يعود إليها يُزيدها من حبّه الفطري لتبقى مزهرة، يُخبرنا أنّه اضطر مرغمًا لتركها منذ اليوم الأول للحرب، والنزوح إلى منطقة دير البلح في المحافظة الوسطى، وهذا أصعب قرار اتخذه.
ويُضيف: "عادة، أنا لا أترك الأرض، أمارس التفاصيل اليومية في أفيائها، لا أعود لبيتي إلا آخر الليل، وأحيانًا أنام فيها حين يقتضي الأمر، وما أن ينتهي موسم الفراولة حتى أبدأ التجهيز لموسم فاكهتيّ الشمام والبطيخ، وكذلك الذرة والبصل والثوم، بالمختصر الأرض هي حياتي".
"هل كنت تتوقع هذا الفراق الطويل؟" (سألناه) فسبقت إجابته تنهيدة، ثم واصل الحديث: "أبدًا؛ لم أتخيّل هذا البعد في أسوأ الكوابيس، ولا حجم الدمار الذي لحق بمنطقة بيت لاهيا التي تزخر بالحياة الخضراء".
فكلما عاينَ الشافعي، صور الدمار الذي لحق بالمنطقة يتساءل في لحظات ضعف: "من أين سنبدأ؟ فكل مقومات الأرض خسرناها دفعة واحدة من تربة ومحاصيل، وشبكات ريّ ومولدات وبيوت بلاستيكية"، ثم سريعًا ينفض عن رأسه غبار اليأس: "شعبنا يحب العمل، لو انتهت الحرب ستجدون محاصيلنا في الأسواق بعد شهرين فقط".

حصاد الشمام في بيت لاهيا في مواسم سابقة للعدوان الإسرائيلي
بدوره، تحدَّث الخبير الزراعي م. نزار الوحيدي لنا عن الخصائص التي تتمتع بها بيت لاهيا، ما يُمكّنها لتكون منطقة زراعية على مدار العام: "فيها أعلى معدل هطول للأمطار إذ يصل 450 ملم سنويًا".
أما تربتها فهي رملية عميقة في القطاع الأرضي، ودافئة ونسبة التصريف فيها عالية، بينما نسبة الملوحة فيها منخفضة جدًا، لا تكاد تتأثر باستمرار الريّ على مدى فترات طويلة، وبالتالي هي تصلح لزراعة المحاصيل الصيفية في موسم الشتاء.
ويشير الوحيدي إلى عذوبة مياهها الجوفية، حيث تقع بيت لاهيا على خزان جوفي يمتد إلى الشريط الساحلي للقطاع، وهي المنطقة الوحيدة التي تقل فيها نسبة الكلوريد عن 50 ملغرام.
إضافة إلى ذلك كله، فإن فترة الإنتاج طويلة جدًا لأنها تعد منطقة شبه رطبة، وهي الأفضل أو الأبرد مقارنة ببقية مناطق القطاع، وتعد بيت لاهيا أيضًا أكثر منطقة مفتوحة وأقل منطقة زحف عمراني وتلوثًا بالتربة.
واستنادًا للمعطيات المتوفرة لدى الوحيدي، فإن بيت لاهيا تزرع سنويًا 30 ألف دونم بالفواكه والخضروات، بمتوسط إنتاج 15 طن لكل دونم، وهذا رقم يُبرز مدى مساهمتها الإنتاجية في الأسواق المحلية، واصفًا إياها بـ "سلة الخضار الأفضل" في القطاع، فضلاً عن ما تُنتجه من فراولة (المحصول الأساسي)، وعنب، وتفاح، وحمضيات، ولوزيات، وزهور.

حصاد الشمام في بيت لاهيا قبل العدوان
ويلفت أن التدمير الممنهج الذي استهدف بيت لاهيا، يجعلنا نخسر قرابة 30 ألف دونم من المساحات الزراعية، ونخسر أفضل بقعة مائية عذبة في القطاع، عدا عن فقدان فرص عمل لما يزيد على 20 ألف مزارع، والخسائر الناتجة عن وقف التصدير وتُقدر بملايين الدولارات.
ويوضح أن هناك تأثيرات مباشرة وغير ومباشرة، لحقت بالقطاع الزراعي عمومًا، المباشرة تتمثل في الحرق والتجريف والتفجير وبالتالي القضاء على المحاصيل الموسمية.
محذرًا من الأثر غير المباشر، فهو الذي سيبقى في التربة بعد انتهاء الحرب من مواد مشعة وسامة، ويتسرب منها إلى الخزان الجوفي، ما يتسبب بفساد التربة وعدم صلاحيتها للإنتاج لاحقًا.
ومع إقراره بحجم الكارثة التي لحقت بالقطاع الزراعي، إلا أنه أبدى ثقته المطلقة بالمزارع الذي يُثبت كل مرة أنه قادر على النهوض من كبوته مع أنّه لم يُعوّض كما يجب في الحروب السابقة.
بينما طالبت الجهات الحكومية في قطاع غزة والضفة الغربية بإخراج المزارع من مغبّة الخلافات الداخلية؛ كي يتمكن من الوقوف مجددًا وإعمار أرضه، وإلا سيموت الناس جوعًا.

حقول بيت لاهيا قبل العدوان الإسرائيلي
"لقد رأينا حين بدأنا استيراد الغذاء، كيف ارتفعت الأسعار، لدرجة أن حبة البندورة صارت حلمًا عند الآلاف، وهذا أمر مؤلم لبلد كان لديه اكتفاءً ذاتيًا من الخضراوات باستثناء الثوم، وشبه اكتفاء ذاتي من الفواكه والثروة الحيوانية"، يقول الوحيدي.
من جانبه، يؤكد محمد عيادات، الرئيس التنفيذي للمركز الوطني للعدالة البيئية في الأردن، أن بيت لاهيا التي يتركز فيها النشاط الزراعي، تواجه تحديات جسيمة منذ عام 2007؛ نتيجة الحصار الإسرائيلي، وأُحكم الخناق عليها مع تكرار الاعتداءات العسكرية.
ويضيف عيادات لمراسلتنا أن "إسرائيل" تتعمد تجريف المساحات الزراعية الشاسعة بما فيها مزارع الفراولة، وتدمير شبكات الري والبنية التحتية للمياه، ما يؤدي لنقص في تزويد المياه ويحد من القدرة على استصلاح الأراضي.
ويعرب عن قلقه من تلوث التربة والمياه الجوفية بالمواد الكيميائية الخطرة إلى حد كبير، من جرّاء استخدام القنابل والمواد السامة والمحرمة دوليًا، ما أدى إلى زيادة ملوحة التربة وتدهور جودتها وهذا يؤثر أيضًا على إعادة تأهيل الأراضي لفترات طويلة.

مزارعون في حقول بيت لاهيا قبل العدوان الإسرائيلي
ويُشدد عيادات -وهو أستاذ في القانون الدولي البيئي- على أن جميع الهجمات التي شنّتها "إسرائيل" على القطاع، تُصنّف وفق النصوص والمواثيق الدولية أنها "محرّمة ومن جرائم الحرب، وهي جرائم ضد الإنسانية".
ويرى أن "الآثار المترتبة على تلك الأعمال سوف تتضح آثارها الكارثية بعد الانتهاء من الحرب، وهي طويلة الأمد وسوف يدفع ثمنها الناجون من الحرب والأجيال القادمة".
 |
 |
ملوخية زرعها صقر أبو ربيع خلال العدوان الإسرائيلي |
موسم الذرة في بيت لاهيا قبل العدوان الإسرائيلي |