عندما تكشف غزة هشاشة المنظومة الدولية ونفاقها...
خاص بآفاق البيئة والتنمية
المنظومة الدولية التي تتحكم بها الولايات المتحدة بشكل خاص، تتسم بالنفاق السياسي والأيديولوجي وتفتقر إلى الاتساق الأخلاقي في نهجها لحل الصراعات. إن فشل المجتمع الدولي في التدخل بشكل حاسم لإيقاف المذابح البشرية الجماعية في قطاع غزة، هو شهادة على الانقسامات السياسية والأيديولوجية والمصالح والتحالفات الجيوسياسية عميقة الجذور التي تتحكم في الشؤون العالمية. وفي المحصلة، تمادت إسرائيل في جرائمها دون رادع، وتواصلت وتعمقت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة. إن عواقب هذا الفشل خطيرة، ليس فقط بالنسبة لقطاع غزة، بل لمصداقية وشرعية النظام الدولي ككل. وإذا كانت القوى والمؤسسات الرائدة في العالم عاجزة أو غير راغبة في العمل على منع مثل هذه الفظائع والانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، فإن ذلك يشكك في أسس النظام العالمي السائد. بل أكثر من ذلك، وصل الأمر ببعض الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الأميركية، إلى درجة دوسها على شعارات ومفاهيم وقيم الحريات الأكاديمية والفكرية وحرية التعبير والديمقراطية حتى داخل بلدانها، كما حدث خلال الانتفاضة الطلابية السلمية في جامعات أميركية عريقة تُدَرِّس طلابها هذه المفاهيم والقيم، حيث قمعت قوى الأمن بالقوة المظاهرات والاعتصامات الطلابية، وأَذَلَّت الطلاب والطالبات وسَحَلَتهم، واعتقلت آلاف الطلاب والطالبات وأعضاء الهيئات التدريسية، وذلك في سقوط أخلاقي وثقافي وسياسي مريع، وفي انتهاك صارخ لقوانين ودساتير البلدان الغربية ذاتها.....
|
|
عمليات انتشال جثث الطاقم الطبي والمرضى والمصابين والنازحين الفلسطينيين في مجمع الشفاء |
اقترفت ماكنة القتل الإسرائيلية في قطاع غزة آلاف المذابح البشرية البشعة والمرعبة التي أودت بحياة عشرات آلاف الشهداء وأصابت أكثر من مائة ألف جريح؛ كما شردت أكثر من مليوني شخص (من أصل 2,4 مليون هم إجمالي سكان القطاع)، وقصفت آلاف المنازل على رؤوس ساكنيها، ومارست التعذيب حتى الموت وأعدمت الأهالي ميدانيا ودفنت المدنيين مكبلي الأيدي، ودمرت البنية التحتية المدنية وكل مقومات الحياة دون رحمة، بما في ذلك مئات آلاف المنازل والمشافي والمراكز الصحية والمدارس ودور العبادة. ومن أبشع تلك الجرائم تدمير وحرق كافة مرافق وأقسام مجمع الشفاء الطبي الذي يعد أعرق وأقدم وأكبر مجمع طبي فلسطيني، حيث شاهد العالم على الهواء مباشرة قتل مئات المرضى والجرحى والنازحين والطواقم الطبية داخل المجمع وفي محيطه، بل التمثيل في جثث الضحايا، من خلال سحقها بجنازير الدبابات والآليات الحربية الإسرائيلية.
رغم الكارثة الإنسانية الصارخة الماثلة للعيان في بث حي ومباشر، ورغم مضي أكثر من ثمانية أشهر على الجرائم الدموية والتهجير القسري، ظل "المجتمع الدولي" متفرجا عاجزا مشلولا إلى حد كبير، أو غير راغب في التدخل ووضع حد للقتل البشع بالجملة على مدار الساعة. مجلس الأمن الدولي، المكلف بالحفاظ على السلام والأمن الدوليين، فشل في اتخاذ إجراءات حاسمة، حيث استخدمت الولايات المتحدة الأميركية حق النقض (الفيتو) مرارا وتكرارا ضد القرارات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار، وحين امتنعت أخيرا في مجلس الأمن عن التصويت على القرار الشكلي الذي يدعو إسرائيل إلى وقف فوري لإطلاق النار خلال شهر رمضان، أتاحت لإسرائيل مواصلة جرائمها، بزعم أن "القرار غير ملزم".
وإلى حد كبير، تم تهميش محكمة العدل الدولية التي تتمتع بسلطة الحكم في النزاعات بين الدول، علما أن أحكام هذه المحكمة مُلزِمة قانونا، إلا أن قدرتها على إنفاذ قراراتها محدودة.
مجلس الأمن الدولي
إفلاس المؤسسات الدولية
ازدواجية معايير المجتمع الدولي و"غضبه" الانتقائي، فيما يتعلق بالعدوان الإسرائيلي على غزة، واضحان. ففي حين سارعت المنظومة الدولية إلى إدانة الحرب الروسية في أوكرانيا ودعت لاتخاذ إجراءات قوية، لم تطبِق نفس المستوى من الإلحاح والالتزام على الوضع في فلسطين. وقد تجلى هذا "الغضب" الانتقائي بشكل خاص في رد فعل الدول الغربية التي استمر الكثير منها في دعم إسرائيل عسكريا وماليا، رغم الأدلة الواضحة على انتهاكات حقوق الإنسان وجرائم الحرب. المنظومة الدولية التي تتحكم بها الولايات المتحدة الأميركية بشكل خاص، تتسم بالنفاق السياسي والأيديولوجي وتفتقر إلى الاتساق الأخلاقي في نهجها لحل الصراعات.
تقاعس المجتمع الدولي في التدخل للجم الجرائم الإسرائيلية المقترفة في قطاع غزة أبرز أوجه قصور وعجز المؤسسات والأطر الدولية القائمة لحل الصراع. وكانت الأمم المتحدة، التي أنشئت في أعقاب الحرب العالمية الثانية لمنع وقوع مثل هذه الفظائع، غير فعالة إلى حد كبير في معالجة الأزمة في غزة؛ فعَجِز مجلس الأمن عن التوصل إلى توافق في الآراء، بسبب حق النقض الذي يتمتع به أعضاؤه الدائمون، ما قوض مصداقية المنظمة وفعاليتها.
وبالمثل، فإن المحكمة الجنائية الدولية التي تتمتع بولاية التحقيق مع الأفراد ومقاضاتهم بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، قد أعيقت بسبب عدم تعاون الدول والطبيعة السياسية لإجراءاتها، علما أن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الوضع الفلسطيني مستمر منذ عدة سنوات، لكنه لم يسفر بعد عن أي نتائج ملموسة.
مجلس حقوق الإنسان
النفاق الصارخ للمنظومة الدولية وفشلها في معاقبة مقترفي جرائم الحرب في قطاع غزة تواصل رغم اعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة (في كانون أول الماضي) قرارا بأغلبية 153 عضوا يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار وضمان وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ورغم صدور بضعة تقارير أممية، مثل تقرير لجنة التحقيق المستقلة التابعة للأمم المتحدة، والذي أكد أن أعمال الجيش الإسرائيلي في غزة خلال فترة العدوان الإسرائيلي قد ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. واستشهد التقرير بأدلة على الهجمات العشوائية على المدنيين وقتل جماعي غير مسبوق، واستخدام القوة غير المتناسبة، وتدمير البنية التحتية المدنية، بما في ذلك المشافي والمدارس والمجمعات السكنية. بل إن مقرر الأمم المتحدة للأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز أكدت في تقريرها الصادر في آذار الماضي بأن "الأدلة على حدوث إبادة جماعية في غزة واضحة" و"ما نراه في غزة هو مجموعة من جرائم الحرب غير المسبوقة". وفي كلمة ألقتها في أيار الماضي خلال افتتاح "المنتدى الاجتماعي مغرب-مشرق" في تونس قالت ألبانيز: "أقول دون تردد إن ما يحدث في غزة ليس حربا، بل إبادة جماعية، رغم أن الدول الغربية غير مرتاحة لاستخدام كلمة إبادة جماعية".
وفي نيسان الماضي، تبنى مجلس حقوق الإنسان (التابع للأمم المتحدة) قرارا يحظر تصدير السلاح إلى دولة الاحتلال ويدعو إلى محاسبتها على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها في قطاع غزة. ومع ذلك، رغم مرور ستة أشهر على العدوان الإسرائيلي حين صدور القرار، لم تمارَس ضغوط أميركية وأوروبية جدية لوقف الحرب التدميرية البشعة ضد المدنيين في قطاع غزة، ولم تُتَخَذ إجراءات عملية تُلزِم الدول والشركات المورِدة للأسلحة إلى إسرائيل بتنفيذ هذا القرار.
ومن ناحيتها، شددت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الأميركية في نيسان الماضي على أن سلاح التجويع الذي يستخدمه الاحتلال الإسرائيلي ضد المدنيين في قطاع غزة يقتل الأطفال بسبب سوء التغذية الحاد والجفاف. وأشارت المنظمة في تقرير عبر موقعها الإلكتروني الرسمي، إلى أن مجموعة تنسقها "الأمم المتحدة" تضم 15 منظمة دولية ووكالة أممية تحقق في أزمة الجوع في غزة، قالت في آذار الماضي إن "جميع الأدلة تشير إلى تسارع كبير في الوفيات وسوء التغذية الناجمين عن سلاح التجويع".
وأضافت المجموعة أنه في شمال غزة يعاني نحو 70 بالمئة من السكان من المجاعة. رغم هذه التقارير الأممية وغيرها الكثير التي تتهم إسرائيل بشكل واضح ومباشر باقترافها جرائم حرب و"إبادة جماعية" لم تنجح المنظومة الدولية في إلزام دولة الاحتلال على وقف الفظائع التي تتفنن في ممارستها في قطاع غزة.
قوات الاحتلال الإسرائيلي دمرت مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة تدميرا كاملا وأحرقته
فوضى عارمة وإفلات من العقاب
المثير أن إسرائيل تجاوزت كل الخطوط الحمراء، فقصفت سفارة أجنبية (إيران) في دولة ثالثة (سوريا) وقتلت عمال إغاثة (في مؤسسة المطبخ المركزي العالمي) ينتمون إلى دول أجنبية (بريطانيا، استراليا، بولندا، كندا والولايات المتحدة)، كما قتلت المئات من الطواقم الطبية وطواقم الدفاع المدني وعاملي الإغاثة الفلسطينيين في وكالة الأونروا وغيرها، أثناء تأدية واجبهم الإنساني، ورغم ذلك ظلت إسرائيل تتصرف وهي مطمئنة لتعامل العديد من الدول الغربية معها باعتبارها فوق القانون والمحاسبة وفوق المؤسسات الدولية التي توفر لها- بشكل مباشر أو غير مباشر- مظلة حمائية تعزز استمرار إفلاتها من العقاب.
المفارقة أن معظم العواصم الغربية لم تجد مبررا لرفع صوتها عاليا والضغط على دولة الاحتلال، خلال سبعة شهور من ممارسة الأخيرة فظائع القتل الجماعي واقترافها جميع الجرائم الموصوفة في القانون الدولي، سوى عند اغتيال سبعة مواطنين غربيين في نيسان الماضي (العاملين في مؤسسة المطبخ المركزي العالمي). أي أن مقتل سبعة أشخاص غربيين "جريمة لا تُغتَفَر" وهي حدث أهم وأخطر من مقتل مئات الطواقم الطبية المحلية وعمال الإغاثة الفلسطينيين وأطباء فلسطينيين عاملين في منظمات دولية ("أطباء بلا حدود" مثالا) وموظفي الأمم المتحدة (الفلسطينيين)، ونحو 142 صحفيا فلسطينيا؛ وهذه أرقام تفوق مثيلاتها في سائر صراعات التاريخ المعاصر. يضاف إلى ذلك أكثر من 40 ألف شهيد ومفقود (حتى أواسط نيسان الماضي). فهل استشهاد جميع هؤلاء الضحايا الفلسطينيين، بالنسبة لبعض الحكومات الغربية ونخبها الإعلامية ولوبياتها السياسية، "مسألة فيها نظر"، أم هي "العنصرية البيضاء" التقليدية التي تهب دفاعا عن ذوي "البشرة البيضاء" دون غيرهم؟
والأكثر فظاعة، الصمت الغربي الرسمي بشكل عام، والأميركي بشكل خاص، أمام مئات جرائم الحرب الإسرائيلية المرعبة المقترفة في قطاع غزة، ومن أبرزها المقابر الجماعية في مختلف أنحاء القطاع، وبخاصة المقابر الجماعية في المجمعات الطبية الفلسطينية، مثل مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة حيث انتُشِلت مئات الجثث التي دفنتها القوات الإسرائيلية في مقابر جماعية بساحات المشفى. كذلك المقابر الجماعية في مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس، حيث اكتُشِفت نحو 400 جثة فلسطينية، بعضها دون رؤوس، أخفاها الجيش الإسرائيلي في حفر كبيرة، علما أن بعض الشهداء دُفِنوا وهم أحياء.
مثل هذه الجرائم ليست الأولى في التاريخ الإسرائيلي، بل هي استمرار للمذابح البشرية والمقابر الجماعية منذ الأربعينيات. فعلى سبيل المثال لا الحصر، في أيار 2023، كشف تحقيق مكثف أجراه مركز "عدالة" ومؤسسة "فروزنيك اركيتكشر" الدولية، عن مقابر جماعية في قرية الطنطورة الفلسطينية (جنوب غرب مدينة حيفا)، دُفِن فيها 280 شهيدا من الرجال والأطفال والنساء قتلتهم قوات "الهاغاناه" الصهيونية في مجازر جماعية عام 1948. وفي عام 2013 اكتُشِفت مقابر جماعية في الكازاخانة في مدينة يافا، تضم مئات الرفات والجماجم والهياكل العظمية لمئات الشهداء الذين قُتِلوا في المجازر التي اقترفتها قوات "الهاغاناه" عام 1948. كما كشفت وسائل إعلام إسرائيلية عام 2022 عن مقبرة جماعية في اللطرون (غربي مدينة القدس) دُفِن فيها 80 جنديا مصريا قتلهم الجيش الإسرائيلي خلال حرب عام 1967، ومنهم أكثر من 20 جنديا أُحرِقوا أحياء.
ورغم كل ما سبق، بعض الدول الغربية، وبخاصة الولايات المتحدة الأميركية، واصلت وتواصل تسمين ماكنة القتل الإسرائيلية بأحدث الأسلحة الفتاكة، وبالتالي تشجيع دولة الاحتلال على مواصلة اقتراف المزيد من المجازر البشرية الجماعية.
بل إن "العنجهية" الأميركية بلغت مبلغها حين هدد الكونغرس الأميركي في أيار الماضي، بفرض عقوبات على محكمة الجنايات الدولية وباستهداف مدعي عام المحكمة شخصيا (كريم خان) وأسرته وطاقم المحكمة، في حال قررت المحكمة إصدار مذكرات اعتقال ضد بنيامين نتنياهو (رئيس الحكومة الإسرائيلية) وقيادات عسكرية إسرائيليا عليا. وفيما بعد، في ذات الشهر، إثر طلبه إصدار مذكرات اعتقال بحق بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية ويوآف غالانت وزير حربه، كشف كريم خان (في مقابلة مع CNN)، تعرضه للتهديدات من قبل نواب جمهوريين قالوا له بأن "هذه المحكمة بُنِيَت من أجل أفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين".
في الأمس القريب، لم ينس أهل غزة المكلومون المقهورون المجوعون مطالبة مدعي محكمة الجنايات الدولية بمحاكمة عمر البشير، بتهمة اقترافه "جرائم حرب" في دارفور، أم محاكمة الاحتلال الأميركي وأعوانه في العراق لصدام حسين وإعدامه، بزعم اقترافه "جرائم ضد الإنسانية"، أم مطالبة محكمة الجنايات الدولية أيضا بمحاكمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتهمة اقترافه "جرائم حرب" في أوكرانيا. لكن لم يُقَدَّم أي من قادة الاحتلال الإسرائيلي إلى المحاكمة، على خلفية حروبهم الدموية المتتالية ضد غزة.
عندما تحدث الفظائع في دول الجنوب، غالبا ما تستخدم الدول الغربية القوية تدخلاتها لتعزيز مصالحها وتحالفاتها، بذريعة المبررات الإنسانية، وتختلف استجابات وتدخلات المؤسسات الدولية بناء على المصالح الجيوسياسية.
ورغم التفويض الممنوح للأمم المتحدة بالحفاظ على السلم والأمن الدوليين، إلا أن سجلها في قطاع غزة يثير العديد من التساؤلات. فلدى مجلس الأمن الدولي تحديدا الأدوات اللازمة لإضفاء الشرعية على القوة. ومع ذلك، كانت استجاباته في قطاع غزة لفرض وقف إطلاق النار معدومة وغير متسقة.
فشل المجتمع الدولي في التدخل بشكل حاسم لإيقاف المذابح البشرية الجماعية في قطاع غزة، هو شهادة على الانقسامات السياسية والأيديولوجية والمصالح والتحالفات الجيوسياسية عميقة الجذور التي تتحكم في الشؤون العالمية. وفي المحصلة، تمادت إسرائيل في جرائمها دون رادع، وتواصلت وتعمقت الكارثة الإنسانية في قطاع غزة.
إن عواقب هذا الفشل خطيرة، ليس فقط بالنسبة لقطاع غزة، بل لمصداقية وشرعية النظام الدولي ككل. وإذا كانت القوى والمؤسسات الرائدة في العالم عاجزة أو غير راغبة في العمل على منع مثل هذه الفظائع والانتهاكات المريعة لحقوق الإنسان والقانون الدولي، فإن ذلك يشكك في أسس النظام العالمي السائد.
مقابرجماعية في مجمع ناصر الطبي في مدينة خانيونس
والمثير للاشمئزاز، أن دولة الاحتلال وبعض داعميها، حرصوا في سردياتهم وخطاباتهم على تسويق العدوان الدموي على قطاع غزة، باعتباره حربا "حضارية" تخوضها "دول التنوير" ضد "المجموعات الظلامية والحيوانات البشرية" حسب تعبير وزير الحرب الإسرائيلي "يوآف غالانت". بل إن دولة الاحتلال وبعض داعميها، طالما عبروا عن استيائهم وغضبهم من المؤسسات الدولية، مثل الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، حينما تؤيد تلك المؤسسات (ولو لفظيا) الحقوق الفلسطينية وتستنكر وتدين الانتهاكات والمذابح المقترفة بحقهم، وكأن الفلسطينيين ليسوا من الجنس البشري، وبالتالي لا تنطبق عليهم المعايير الإنسانية، لأن الاحتلال يعتبر أن مؤسسات المنظومة الدولية أنشأت لعالم الشمال دون غيره.
وفي سياق الدفاع عن دولة الاحتلال وسياسة تكميم الأفواه، وضرب الاحتجاجات الشعبية والطلابية المشتعلة في أميركا الشمالية وبعض الدول الأوروبية ضد الجرائم الإسرائيلية في قطاع غزة، والمذابح البشرية المقترفة هناك، وصل الأمر ببعض الحكومات الغربية، وفي مقدمتها الأميركية، إلى درجة دوسها على شعارات ومفاهيم وقيم الحريات الأكاديمية والفكرية وحرية التعبير والديمقراطية حتى داخل بلدانها، كما حدث خلال الانتفاضة الطلابية السلمية المؤثرة في جامعات أميركية عريقة تُدَرِّس طلابها هذه المفاهيم والقيم، حيث قمعت قوى الأمن بالقوة المظاهرات والاعتصامات الطلابية، وأَذَلَّت الطلاب والطالبات وسَحَلَتهم، واعتقلت آلاف الطلاب والطالبات وأعضاء الهيئات التدريسية، تماما كما المشاهد التي نراها في بعض "الدول البوليسية" في العالم الثالث، وذلك في سقوط أخلاقي وثقافي وسياسي مريع، وفي انتهاك صارخ لقوانين ودساتير البلدان الغربية ذاتها؛ التي طالما دأبت على تصدير الدروس لمجتمعات الجنوب حول تلك الدساتير وما تتضمنه من مفاهيم ديمقراطية وحقوق إنسان ومرأة، باعتبار أن منظومة القيم الأميركية والأوروبية هي المثال الأعلى والمرجع الذي يجب على العالم تقليده.
والمثير للسخرية، أن وزارة الخارجية الأميركية تُصْدِر تقريرا سنويا يرصد الوضع الحقوقي في جميع دول العالم (للمفارقة، التقرير الأخير صدر في نيسان الماضي، خلال الانتفاضات الطلابية في الجامعات الأميركية)، حيث تنصب نفسها حاكما حقوقيا على جميع دول العالم.
المثير للاعتزاز، أنه رغم الواقع الدموي البشع الذي يعيشه أهالي قطاع غزة، ورغم ما يمارسه الاحتلال بحقهم من تشريد وتجويع وتدمير وقتل جماعي مرعب، فإن أصحاب الأرض الأصليين لم يتوحشوا ولم يكفروا بالقيم والمبادئ التي يؤمنون بها وتوارثوها جيلا بعد جيل، بل حافظوا على هدوئهم ورزانتهم، إذ نجدهم يخاطبون العالم بلغة إنسانية وأخلاقية حضارية.
وبهدف إدامة الاحتلال لا إنهائه، وإعادة تعويم دولة الاحتلال الإسرائيلي في المنظومة الدولية، وتحديدا بعد أن تكشفت المذابح البشرية الجماعية التي تقترفها تلك الدولة يوميا في قطاع غزة، أمام سمع وبصر العالم أجمع وعلى الهواء مباشرة، تمارس بعض الدول الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، خطابات التلاعب اللغوي والسراب حول مسارات سياسية ضبابية ووهمية.
قمع المظاهرات الطلابية في الجامعات الأميركية
"قانون الغاب"
المنظومة الدولية ومؤسساتها كثيرا ما "تَسْتَأسِد" على المجتمعات والدول الفقيرة الجائعة في دول الجنوب، أو تحديدا الدول التي تقف خارج الدوائر الغربية، كما في حال مزاعم "حقوق الإنسان" في الصين أو إيران أو كوريا الشمالية.
"قانون الغاب" يهيمن على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار المعسكر السوفياتي تحديدا، إذ تنتشر الفوضى العارمة في المنظومة الدولية التي لا تضغط على الدول الكبرى التي تعطل مجلس الأمن وتغزو دولا أخرى دون قرارات أممية وتحت شعارات كاذبة لم تثبت صحتها؛ كما حال الولايات المتحدة الأميركية التي غزت العراق وليبيا ودمرتهما.
وبعيدا عن أي قرار أممي أو صادر عن مجلس الأمن الدولي، المعسكر الغربي وحلفه الأطلسي، دمر بلدانا عربية وإسلامية، وفتتها وفكّك بناها الاجتماعية والاقتصادية والإنتاجية والأمنية تحت ستار الشعارات المنافقة، من قبيل "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" و"محاربة أسلحة الدمار الشامل"، كما حدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن على سبيل المثال لا الحصر.
وها هي الدول ذاتها التي دمرت النظام المناخي، دمرت أيضًا دولًا عربية كاملة، تحت ستار الديمقراطية؛ فزرعوا فيها الفساد والطائفية الدموية، وحرموها من أبسط حقوق الإنسان الأساسية (المياه، والكهرباء، والصحة والتعليم)، كما حدث في العراق الذي يُعد من أغنى دول العالم نفطيًا. ومع ذلك، ما فتئوا يتحدثون عن "الديمقراطية". فحالياً، أصبح الفساد في العراق الأعلى عالميًا (مئات مليارات الدولارات سرقها أعوان الاحتلال الأميركي).
وها هي الولايات المتحدة وبريطانيا اللتان تزعمان بأنهما تقودان التغيير في المجال المناخي، لكنهما في ذات الوقت مصمّمتان على مواصلة الحفريات واستخراج الوقود الأحفوري في أراضيهما وفي الأراضي التي لا تزال تحتلها بالقوة العسكرية. فالقوات الأميركية المحتلة لشرق الفرات وشمال شرق سوريا، تسرق النفط والغاز والحبوب السورية في وضح النهار، وتبيعه في الأسواق السوداء.
باعتقادي، المطلوب تفكيك وإعادة بناء مؤسسات المنظومة الدولية وسائر الهياكل والمنظمات الرأسمالية المتحكمة بأنماط حياة ولقمة عيش الشعوب الفقيرة المقهورة والمستضعفة، علمًا أن الفساد ينخر مؤسسات النظام الدولي السائدة التي تهيمن عليها وتتحكم بها تحكمًا أساسيًا الولايات المتحدة الأميركية، والتي (أي مؤسسات النظام الدولي) ما فتئت تتشدق زورًا وبهتانًا بحقوق الإنسان والطفل والمرأة والديمقراطية والعدالة والقانون الدولي ومساعدة المهمشين والفقراء، تلك الشعارات التي سرعان ما تهاوت كأوراق الخريف في غزة. فالمنتفع الأساسي من وجود هذه المنظمات والمؤسسات الدولية، ببنيتها الحالية، ثلة من الموظفين الكبار ذوي الرواتب والامتيازات المتضخمة.