خاص بآفاق البيئة والتنمية
نصوص كثيرةٌ كُتبت عن تاريخ القدس، بيَّد أن نصوصًا قليلة تخصّصت في تاريخ قضايا بعينها وخصوصًا البيئية منها، ولعل هذا ما يجعل كتاب "تاريخ مصادر المياه واستخداماتها في بيت المقدس" للمؤرخ المقدسي بشير بركات، فريدًا وبديعًا، ما يدعونا للتوقف عنده والخروج على خطاه في رحلة إلى بعض "المصادر المائية الفريدة" التي تطرّق الكتاب إليها، وهي العيون والينابيع التي رَوت مدينة القدس عبر التاريخ، إحداها تعيش صراع البقاء، وأخرى اختفت بين البُنيان، وجزء آخر منها أصبح مكبًا للنفايات. |
كثيرةٌ هي الكتب التي تناولت تاريخ القدس، بيَّد أن كتبًا قليلة منها ألقت الضوء على تاريخ قضايا بعينها وخصوصًا القضايا البيئية، ولعل هذا ما يجعل كتاب "تاريخ مصادر المياه واستخداماتها في بيت المقدس" للمؤرخ المقدسي بشير بركات، فريدًا وبديعًا، ما يدعونا للتوقف عنده والخروج على خطاه في رحلة إلى بعض "المصادر المائية الفريدة" التي تطرّق الكتاب إليها، وهي العيون والينابيع التي رَوت مدينة القدس عبر التاريخ، إحداها تعيش صراع البقاء، وأخرى اختفت بين البُنيان، وجزء آخر منها أصبح مكبًا للنفايات.
قبل أن نبدأ الرحلة، لا بُد أن نتذكر أن مدينة القدس "بيت المقدس" كانت "تقدّس" كل قطرة ماء، وموضوع المياه فيها كان من أكبر التحديات على مر العصور، ولا نبالغ في القول إن القدس وعلى عكس كثير من المُدن التاريخية لم تُؤسس قُرب أحد الأنهار الجارية أو الينابيع الغزيرة، ولو تأملنا أكثر؛ لوجدنا عشرات القرى الصغيرة في فلسطين فيها من العيون ما يفوق عيون القدس.
هذه الحقائق جعلت للمياه فيها حكايات لا يُمكن أن تنحصر في تقنيات حفظ ونقل المياه، بل تنقلنا لنتعرف إلى شخصيات عظيمة ساهمت في وصول المياه إلى المدينة، ولحظة صعبة وأخرى بهيجة ارتبطت بشحّ المياه ووفرته، هذا غير تاريخ كامل من فِعل الخير وذلك بالاعتناء بالأسبلة والقنوات التي أوصلت المياه للقدس من أبعد البِقاع.
عين سلوان "زمزم فلسطين"
في الصفحات الأولى من الكتاب، سندرك سريعًا بأن مدينة القدس لم يكن فيها ينابيع كثيرة، وسنجد أن هناك عينًا واحدة يمكن اعتبارها "النبع الوحيدة المُعتبرة في مدينة القدس وضواحيها" كما يرى المؤرخ بشير بركات، حيث يُذكرّنا في كتابه بأسماء عديدة أُطلقت على هذه العين مثل "عين جيحون"، و"عين روجيل"، و"عين العذراء" أو "بئر العذراء"، و"عين ستي مريم"، لاعتقاد بعضٍ أن السيدة مريم غسلت ثياب المسيح من مياه تلك العين، وهناك تسميات مثل "عين أم الدرج" أُطلقت عليها لوجود نحو عشرين درجة يُنزل بواسطتها إلى العين.

بركة عين سلوان- تصوير عمر عاصي
ومن كثرة التسميات يأخذنا الكتاب إلى أساطير وروايات عدة حول العين مثل قولهم إن المسيح استخدم مياهها ليشفي الأعمى، وإن الخضر اغتسل من مياهها، وإن من يستحم من ماء هذه العين يُشفى مما ألمّ به من الأوصاب والأمراض المزمنة"، أو أن عين سلوان تتصل بعين ماء زمزم في ليلة النصف من شعبان، أو حتى قولهم: "عين سلوان التي في بيت المقدس من عيون الجنّة".
كان الاهتمام بعين سلوان فريدًا في فترات معينة، حيث نجد الخليفة عثمان بن عفان يوقف العين على ضعفاء المدينة.
ويقول الرحالة ناصر خسرو إن المسلمين قد وقفوا عليها مالًا كثيرًا، هذا إضافة إلى الإنفاق على تعمير بِركة "عين سلوان" من نفقة أوقات المدرسة الصلاحية عام 1681م.
رغم كُل هذا، لا يتركنا المؤرخ بشير بركات نقرأ عن العيون وحكايات الحنين إلى الماضي، بل يصدمنا بحقائق مؤسفة، تُظهر كيف أن كُل هالة القداسة حول هذه العين لم تشفع لها من التلوث - على الأقل في بعض الفترات التاريخية - فبينما ينقل لنا كيف وصف الرحالة النابلسي ماء العين بأنه "عذبٌ ولذيذ للظمآن"، نجده ينقل لنا روايات عديدة تذكر كيف أن بعض النساء كانت تغسل الملابس عندها، وأن بعض الدبّاغين كانوا يغسلون جلود الحيوانات فيها، أو أن مياه المجاري كانت تتسرب إليها؛ فتلّوث مياهها وتجعلها "رديئة ومالحة".
وقبل أن نغادر هذه العين، يجدر بنا أن نشير إلى أن الدباغة، أي صناعة الجلود، كانت المصدر الأكبر لتلوث المياه والأكثر انتشارًا في المدن عبر التاريخ، وكذلك في مدينة القدس.
"طلع بير أيوب"
وفقًا لكتاب "تاريخ مصادر المياه في بيت المقدس" يُمكن أن ندرك بأن ثاني أهم مصدر مائي داخل مدينة القدس هو "بئر أيوب" التي تقع على بُعد 400 متر جنوبي "بِركة سلوان"، إذ يُعتقد بأنها سُميّت كذلك نسبة للنبي أيوب عليه السلام، فيما يعتقد آخرون أنها العين المسماة "عين روجيل".
تذكر الأخبار التي يسردها لنا المؤرخ بركات أن الماء كان يَنبع في بئر أيوب، بالأخص في فصل الشتاء وأوقات الأمطار الغزيرة، حيث كانت تتدفق من فوَّهة البئر، ويجري منها جدول صغير.
وفي الكتاب نجد أيضًا العلّامة العُليمي الذي عاش قبل 500 عام، ودوَّن واحدًا من أهم الكتب في تاريخ القدس والخليل، وكان عنوانه "الأنس الجليل"، قائلًا عن بئر أيوب: "هذه البئر مشهورة معروفة، في كل سنة عند قوة الشتاء وكثرة الأمطار، يفور الماء منها حتى يصير كالنهر الجاري، ويسبح إلى مسافة بعيدة، ويستمر على هذه الحالة عدة أيام كشهر ونحوه، وهو من العجائب".
كان بئر أيوب بمثابة مخزون احتياطي تلجأ إليه إدارة المدينة في أوقات القحط والجفاف والشدّة، ففي محنة الجفاف التي أعقبت شتاء 1960، لعبت بئر أيوب الدور الأكبر في إغاثة السكان، وقد سُحب حينها 600 متر مكعب من البئر يوميًا، كما لعبت الدور ذاته في فترات سابقة.
الأمر نفسه حصل في أكتوبر/ تشرين أول عام 1852، عندما كانت مئات الحمير تنقل حوالي ألف حمولة من مياه بئر أيوب إلى مدينة القدس يوميًا، وكذلك في أيلول 1853، حين كانت الحمير تنقل 200 حمولة يوميًا أي 4000 قِربة تبلغ سعتها 25 ألف غالون.
ويسلط مؤرخنا بشير بركات الضوء على تفاصيل مثيرة في موضوع نقل المياه من بئر أيوب إلى البلدة القديمة، حيث كانت الحمير تنقل المياه عبر باب المغاربة نقلًا استثنائيًا (لكونه مغلقًا وقتئذ) بدلًا من باب داوود أو باب الأسباط للتسهيل على الدواب، ثم إن القِرب المستخدمة كانت مصنوعة من جلد الماعز، وكان كل حيوان يحمل قربتين أو ثلاثة قِرب في آن واحد، ويصعد عدد يتفاوت من أربعة إلى خمسة، مرة كل 24 ساعة، كما أن فلاحي سلوان كانوا يأخذون الأجرة عن كُل قِربة تُملأ من بئر أيوب، وهذا كُله يجعلنا نفهم مدى صعوبة وصول المياه إلى القدس في بعض السنوات.

صورة من الطريق إلى "بئر أيوب" عبر مسار في وادي الربابة جنوبي سلوان- تصوير عمر عاصي
كان لمنسوب المياه في هذه البئر علاقة وطيدة بالبهجة في المدينة، حيث كان مصطلح "طلع بير أيوب" يُشير إلى وفرة الأمطار والخيرات، حتى أننا نجد أخبارًا في الكتاب تسرد كيف كان المئات من أهالي القدس يهرعون عند طلوع البئر ويجلسون على جانبي الجدول، وتصف لنا تلك الأخبار كيف كان يصطّف باعة الحلوى في ذلك المكان، بل إن زوجة خليل السكاكيني رغبت فيه اصطحاب ولدها إلى بئر أيوب عندما تدفقت مياهها في آذار 1919.
أما الوصف الدقيق لبهجة أهالي القدس بــ "طلوع بـئر أيوب"، فنجده في الكتاب منقولًا عن صفحة من مذكرات واصف جوهرية: "وقد انتهزت أهالي القدس من مختلف طوائفها هذه الفرصة، ولأجل اتخاذهم حرارة الشمس الدافئة بعد مدة طويلة يذهبون جماعات جماعات مشيًا على الأقدام من رجال وسيدات وأولاد، ويتنزهون على ضفتي هذه النبعة التي تكون عند أهل القدس بمثابة نهر"، وفي الاقتباس السابق "مبالغة في وصف الجدول" كما يرى بركات.
ومن المؤسف أن بئر أيوب "اختفت" مع الزمن، واختفت معها حكايا طلوع البئر، واللجوء إلى البئر أيام الجفاف. والمؤسف أكثر أن البئر نفسها جفّت وفقًا لـ"بركات"، وذلك بعد استنزاف المياه الجوفية في محيطها بعد الاحتلال الإسرائيلي، ومع جفاف البئر أُحيطت بها بنايات خاصة لتفقد بذلك رونقها التاريخي.

صورة قديمة لبئر أيوب من كتاب "تاريخ مصادر المياه واستخداماتها في بيت المقدس" للمؤرخ بشير بركات
عين اللوزة نبع تحوّل إلى مكب نفايات
عندما نتحدث عن مصادر المياه، فإنه لم يكن لــــ "عين اللوزة" حضور في مدينة القدس مثل "عين سلوان" أو "بئر أيوب"، وربما يعود ذلك إلى أن مياهها كانت تنبع عند الأمطار الغزيرة فقط، ووفقًا لـ"بركات" فإن عين اللوزة جفّت بعد جفاف بئر أيوب وأصبحت مكبًا للنفايات.

شروق الشمس في سلوان- تصوير عمر عاصي
ختامًا، من المهم أن نؤكد أن هذه العيون والينابيع لم تكن مصدر المياه الرئيس لأهالي القدس في كُل الفترات، فمياه الأمطار التي جُمعت في البِرك والصهاريج المختلفة لعبت دورًا لا يقل أهمية عن هذه العيون والينابيع، كما أن مشروع قناة السبيل التي نقلت المياه من عين العروب - قضاء الخليل- إلى القدس؛ كان في الواقع شريان الحياة لبيت المقدس على مر العصور الغابرة، ولا بدّ لنا من وقفة مع هذه المصادر المائية في تقرير خاص.