خاص بآفاق البيئة والتنمية
الأبحاث التي تتحدث عن فوائد المُخللات الصحيّة ليست بالقليلة وفي الأعوام الأخيرة نجد التفاتًا حول المُخللات لدرجة أن هناك من بات يحتفل باليوم العالمي للمخللات في 14 تشرين ثاني/نوفمبر. رغم هذا فإن معظم الأحاديث تقتصر حول الطعم الشهي والفوائد الصحيّة، بينما نادرًا ما يتم الالتفات لفوائد التخليل على البيئة ودوره في التنمية المستدامة، كما سنرى في التقرير التالي.
|
مع أن المواقع الإخباريّة تعج بأخبار المُخللات المغشوشة والفاسدة، بالإضافة إلى عشرات المواقع التي تتحدث عن أضرار المُخللات، إلا أن الأبحاث التي تتحدث عن فوائد المُخللات الصحيّة ليست بالقليلة وفي الأعوام الأخيرة نجد التفاتًا حول المُخللات لدرجة أن هناك من بات يحتفل باليوم العالمي للمخللات في 14 تشرين ثاني/نوفمبر. رغم هذا فإن معظم الأحاديث تقتصر حول الطعم الشهي والفوائد الصحيّة، بينما نادرًا ما يتم الالتفات لفوائد التخليل على البيئة ودوره في التنمية المستدامة، كما سنرى في التقرير التالي.
قانون الخيار "الأعوج"
قبل حوالي 30 عامًا، في عام 1988، كانت اوروبا مُنشغلة بقضيّة حساسّة جدًا، أثارت ولا زالت تثير النشطاء البيئيين حول العالم. لا نقصد حادثة تشيرنوبيل التي هزّت العالم عام 1986 ولكنها قضية "الخيارة العوجاء" التي دُونت في كتاب "أكثر التشريعات الأوروبية حماقة" والذي يُشير إلى تشريع يُدعى "الخيار الأعوج" تم فيه تحديد معايير صارمة جدًا لجودة الخيار قبل أن يُطرح في الأسواق، ومن ضمن تلك المعايير؛ تم تحديد مدى الاعوجاج المسموح به في الخيار وهو "10 ملم" اعوجاج لكل "10 سم" طول وذلك للخيار الممتاز أو خيار "درجة أ"، وبالتالي فإن الخيار الذي يكون مع اعوجاج أكبر، تكون حظوظه سيئة واحتماليات هدره أكبر. استمر هذا "التعسف" بحق الخيار حتى عام 2009 حيث ألغي هذا القرار.
ومع أن الأمور في بلادنا ليست بهذه الصرامة، إلا أن الهدر ليس بقليل. ففي محافظة طولكرم وحدها، وجدت دراسة أعدتها مؤسسة CesviOnlus أن نسبة كبيرة من الخيار والطماطم (البندورة) التي تُزرع في هذه المحافظة تُلقى في القمامة حتى قبل أن تصل المستهلكين، حوالي 11% خلال عمليّة الانتاج وحوالي 10% خلال التوزيع وهذه الكمية هي 5610 طن من الخيار و2915 من البندورة التي تهدر كُل عام في هذه المحافظة فقط (كما نرى في الجدول التالي):
جدول: كميّات الهدر في محاصيل الخيار والبندورة في محافظة طولكرم (2017).
التخليل...والجهود العالميّة للحد من هدر الطعام
سواء كُنا نتحدث عن الأسواق الاوروبيّة أو حتى عن أسواق محافظة طولكرم وحدها، فإن الأرقام تكشف عن ظاهرة عالميّة مُقلقة، لم يتحرك لها العالم بالشكل المطلوب إلا عام 2015، حيث نجد هيئة الأمم المتحدة حين وضعت أهداف التنمية المستدامة، جعلت الهدف الثاني عشر من أصل الأهداف السبعة عشر يتخصص في الاستهلاك المسؤول والمستدام، وكان من أهم ما يجب تحقيقه في هذا الإطار هو ضرورة العمل على تقليل كميّات الطعام المُهدر حتى عام 2030 بنسبة 50%.
مُنذ ذلك الوقت، تضاعفت أعداد المقالات، الأبحاث والكُتب المنشورة حول هدر الطعام، وفي الكتب تحديدًا كان واضحًا أن التخليل هو أهم وأعرق وسائل حفظ الطعام من الهدر. ففي كتاب "مطبخ بلا نفايات" للناشطة دانا جوندر(2015) أو كُتيب "قل لا للهدر الغذائي" لـ منظمة الأغذية والزراعة الفاو التابعة للأمم المتحدة (2019)، نجد التخليل حاضرًا كواحد من المهارات الأساسية لتخزين الأطعمة وإطالة عمرها، وفوق هذا نجد الأبحاث تسلط الضوء على أن فوائد المُخللات المُصنعة بالطرق التقليدية كونها من الأطعمة الأحيائية "ميكروبيوتيك" المفيدة لعمل الجهاز الهضمي وزيادة المناعة (عمليّات التخليل الصناعية الحديثة لا ينطبق عليها هذا الكلام).
بالعودة إلى الخيار، نجد أن أبرز طُرق "الاحتيال" على تشريع الخيار الأعوج كانت من خلال تقسيمه وتحضيره وبيعه كمخلل، وبالتالي لا يُنقذ من الهدر فقط، بل يُصبح كمُنتج ذو قيمة اقتصاديّة. في بلادنا، عند الحديث مع بعض أصحاب محلات الخضار "الخضرجيّة" نجد من يستخدم التخليل كي لا يضطر إلى أن يُلقي الخضار بعد أن تفقد شيئاً من "لونها" أو "ملمسها" في ظل صرامة معايير انتقاء الخضار لدى المستهلك المُعاصر. المُشكلة أن الكميّات المُهدرة غالبًا ما تكون كثيرة ولهذا فإن تخصيص جزء من المحصول للتخليل يُفترض أن يضمن نتائج أفضل من حيث التقليل من الهدر، وكذلك من حيث جودة المُخللات، وبالأخص في محصول مثل الخيار، ولهذا نجد أن أكثر أصناف المخللات شيوعيًا حول العالم هو الخيار، فالتخليل يُمكنه إطالة عمر الخيار، من أيام أو أسابيع قليلة إلى أشهر طويلة تصل أحيانًا إلى عام أو حتى عامين (يتعلق بعملية التخليل).
مُخلل البطيخ..فن إدارة الموارد
مُخلل الخيار هو البداية فقط، فأصناف المُخللات أكثر من أن تحصى وبحسب الكاتبة ليدا ميريث في كتابها "تخليل كُل شيء PicklingEverything" فإن كُل شيء قابل للتخليل بما في ذلك اللحوم والبيض، ولكن المثير أكثر في كتابها أنها تخصص قسمًا منه للحديث عن بقايا الخُضار والفاكهة القابلة للتخليل وهي البقايا التي تُلقى في القمامة عادة، مثل "قشور البطيخ".
فبعد تناول البطيخ، تؤخذ الطبقة البيضاء (بدلًا من أن تلقى في القمامة) وتُقطّع ويتم تخليلها بكل بساطة، مثل أصناف المخللات الأخرى، وكي يكون هذا البطيخ مميزًا، تنصح الكاتبة بأن يؤخذ بطيخ من الأصناف القديمة التي تتميز بقشرتها السمكية (حوالي 1.5 سم على الأقل). كما تنصح أن يُترك شيء من الطبقة الحمراء لإضفاء منظر مميز على هذا الصنف.
صور من كتاب "تخليل كل شيء"
هذا الصنف من المُخللات كان يصنع بشكل واسع في بلادنا، بالأخص في المناطق التي عُرفت بزراعة البطيخ مثل سهول طولكرم، حيث أن الكثير من الأصناف كانت قشورها سميكة بما فيه الكفاية لتصنع منها المخللات مثل أصناف "ابو نملة" و"المحيسني". اليوم، أصبح هذا المخلل من الغرائب النادرة التي تُجسد حكاية من حكايات استغلال أسلافنا للموارد المتاحة على أفضل وجه من خلال اعادة تدوير ما نعتبره اليوم "مخلفات طعام"، تمامًا مثل حكاية معاذة العنبريّة مع الأضاحي.
في هذا السياق ينقل لنا ابن الوردي في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب" كلام في "قُدرات البطيخ الشاملة" قد وجده "وهب بن منبه" في بعض الكتب، مفاده أن البطيخ ليس فاكهة فقط، بل "طعام وشراب وفاكهة وجلاء وأشنان (مادة للغسيل) وريحان وحلاوة ونقل، وينقي المعدة ويشهي الطعام ويصفي اللون ويزيد في ماء الصلب ويدرّ البول ويسهل الخام".
الموارد المحليّة: من خل التمر...إلى الزعفران
بالإضافة إلى فن تخليل "المُخلفات" من بقايا الخضار والفاكهة، فإننا نجد في كتاب مثل التاريخ العام للمخللات لـ جان دافيدسون، أن عملية التخليل كانت تختلف من بيئة لأخرى، ففي الصين اعتمد التخليل بشكل أساسي على الملح بينما في بلاد الرافدين نجد أن الخل كان أكثر حضورًا، أما في اميركا اللاتينية نجد أنهم استخدموا قشور الحمضيات بديلًا للخل أحيانًا. هذا كُله، يلفتنا إلى قضية مهمة في التنمية المستدامة، وهي الاعتماد على الموارد المحليّة، في ظل تنامي الحديث عن الأطعمة المستدامة والوعي المرتبط بقضيّة البصمة البيئية للأطعمة.
في تاريخ المخللات، نجد أن بلاد المشرق العربي كانت تعتمد بشكل كبير على خلّ العنب وخلّ التمر، حيث نجد خلّ التمر شائعًا في العراق بينما خل العنب أكثر شيوعًا في بلاد الشام، بينما اليوم نجد أن الخل الصناعي هو أكثر خل مستخدم في صناعة المخللات. بالإضافة إلى ذلك، فإن صناعة الخل من الموارد المحلية يُمكن أن تساعدنا على تقليل هدر الطعام حيث فائض المحاصيل والذي يُمكن أن يحوّل إلى خل بدلًا من هدره، وبالطبع فإن الخل يُمكن أن يمكث لفترات طويلة جدًا إذا ما تم تخزينه كما يجب.
كذلك فإن صناعة المخللات من بهارات محلية وأصناف خلّ محلية يُمكن أن يُضفي صفة مميزة ويوصلنا لنكهات مميزة من كُل بلد، في ظل ما نعيشه من "عولمة للأطعمة" ومُحاولة لتطبيق وصفات البرامج التلفزيونية الشهيرة، ولعل أفضل مثال على هذا هو مخلّل اللفت الذي يتشابه بشكل كبير في معظم المتاجر، بينما في وصفات كتاب الطبيخ الذي ألّفه البغدادي قبل حوالي 800 عام، كان اللفت يُحلّى بالعسل ويُصبغ بالزعفران.
المخللات والمحاصيل الموسميّة: مخلّل البامية واللوز نموذجا
بالإضافة إلى الاعتماد على المواد المحليّة، فإن فكرة تناول الأطعمة في مواسمها هي من الأفكار الضروريّة لتحقيق الاستدامة في الغذاء، بالأخص في "عصر السوبرماركت" حيث بتنا نرى التفاح طيلة العام ونجد العنب في الشتاء والبرتقال في الصيف، وذلك من خلال طُرق تخزين مُعقدة تستهلك كميات هائلة من الطاقة، وبالتالي فإن بصمتها البيئية تكون مرتفعة جدًا.
لفهم أهمية الطعام الموسمي، قام باحث ألماني بدراسة البصمة البيئية للتفاح العضوي الألماني الذي يتم تخزينه لفترات طويلة في مخازن مُبرّدة وبين التفاح القادم من نيوزيلندا عبر السفن، ووُجد أن التفاح المحلي إذا تم تناوله بعد التخزين والتغليف وعمليات أخرى تهدف إلى إتاحته في غير موسمه، لن تكون بصمته البيئية أفضل من التفاح المستورد في موسمه (غالبًا).
بالعودة إلى الماضي، نجد أن فكرة التخليل ساهمت في إطالة مُدة المواسم بشكل مُستدام، فاللوز الأخضر يُمكن تناوله في الربيع طازجًا وفي بقية العام كمُخللات وكذلك البامية يُمكن تناولها طازجة صيفًا بينما في بقية العام يُمكن تناولها كمُخلل أو حتى بعد تجفيفها، والتجفيف مثل التخليل عملية تعتمد على حرارة الشمس، بعكس عملية التفريز التي تستهلك الطاقة.
الخلاصة: "بيت المونة" و"البصمة البيئية"
لو تأملنا ثقافة "بيت المونة" نجد أنها تضمن لنا أن نتناول طعامًا محليًا وموسميًا دُون استنزاف موارد طبيعية ودون بصمة بيئية باهظة وذلك من خلال عمليّات الحفظ التقليدية، ليس بالتخليل فقط، إنما بالتجفيف كما هو الحال في البندورة والبامية والملوخية أو بصناعة المربيّات كما هو الحال مع معظم الفاكهة، بالإضافة إلى مربيات غريبة مثل الباذنجان والبندورة. وكذلك صناعة اللحم القديد أو القاورما وصناعة الألبان التقليدية مثل "االلبنة المدحبرة" و"الكشك".. وهذه كلها ذات بصمة بيئية أفضل من أطعمتنا الحديثة المُصنعة بعمليات معقدة؟ـ أو المُعلبة بمواد مركبة ومن ثم تُخزن بظروف "مستنزفة" للطاقة.