خاص بآفاق البيئة والتنمية
اندلاع جائحة كورونا يفرض أمام البشرية تحديا غير مسبوق، ما يتطلب مناقشة السياق الإيكولوجي والبيئي لتفشي الأوبئة. هذه العلاقة أصبحت مهمة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالصين، حيث بدأ تفشي الوباء، وهناك أسباب وجيهة لافتراض أنه مرتبط بتجارة الحيوانات البرية في هذا البلد. في السنوات الأخيرة، حققت الصين إنجازات بيئية رائعة؛ إذ انخفض تلوث الهواء بالجسيمات الصغيرة القابلة للاستنشاق بنسبة عشرات بالمائة، كما تعد الصين رائدة في استخدام الحافلات الكهربائية في المدن الكبرى، وهي أكبر منتج للألواح الشمسية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية.
|
 |
الرئيس الصيني شي جين بينغ |
التحدي غير المسبوق الذي يفرضه اندلاع جائحة كورونا أمام البشرية، يتطلب مناقشة السياق الإيكولوجي والبيئي لتفشي الأوبئة. هذه العلاقة أصبحت مهمة بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالصين، حيث بدأ تفشي الوباء، وهناك أسباب وجيهة لافتراض أنه مرتبط بتجارة الحيوانات البرية في هذا البلد.
خلال السنوات الأخيرة، كان على الصينيين التعامل مع العواقب بعيدة المدى للنمو الاقتصادي في البلاد. وفي بعض الحالات، يدور الحديث عن ظواهر جديدة، لكن في حالة الكورونا يدور الحديث في الواقع عن تقليد شعبي: تناول الحيوانات البرية، أو استخدام أعضائها في الطب الشعبي. واللافت أن ارتفاع مستويات المعيشة في الصين أدى إلى زيادة الطلب على هذه الحيوانات تحديدا.
يقدر بعض العلماء بأن فيروس كورونا انتقل إلى البشر إثر نشاط واسع النطاق في سوق الحيوانات البرية في الصين. وقد يكون مصدر المرض آكل النمل الحرشفي (pangolin)، وهو حيوان ثديي مطلوب للطعام؛ لكن لا يوجد إجماع حول هذه المسألة. هذه ليست المرة الأولى التي تتسبب فيها هذه الأسواق بتفشي الأمراض؛ إذ حدث الشيء ذاته خلال العقد الماضي.
حجم تجارة الحيوانات البرية في شرق آسيا واسع النطاق، وقد مورست تلك التجارة في السنوات الأخيرة عبر شبكات منظمة من رجال الأعمال ومنظمات إجرامية. وفي العام الماضي، ضبطت السلطات الصينية شحنات بعشرات الأطنان من حراشف (قشور) آكلي النمل (وهو الجزء المطلوب للغذاء بشكل خاص). ويقدر بأن هذه الشحنات وحدها هي نتاج اصطياد 14 ألف حيوان. كما يقدر بأنه في النصف الأول من العقد السابق تم اصطياد ما لا يقل عن مليون من آكلي النمل الحرشفي التي تم نقلها إلى أسواق شرق آسيا.

نحو حضارة إيكولوجية في الصين
الحكومة الصينية أقرت، قبل بضع سنوات، قوانين تُقَيِّد تجارة الحيوانات البرية، وبخاصة الأنواع المهددة بالانقراض؛ إلا أن إنفاذ تلك القوانين فشل في ردع الصيادين والتجار. وفي أعقاب الكارثة الأخيرة فرضت الحكومة حظراً صارماً على تجارة الحيوانات البرية أو استهلاكها. ولعل صدمة التعامل مع الجائحة غير المسبوقة ستقنع الحكومة الصينية باتخاذ الإجراءات الفعالة اللازمة لوقف هذه الظاهرة، وبالتالي منع تداعيات خطيرة مثل تفشي الفيروسات. المواطنون الصينيون الذين تمت مقابلتهم بهذا الشأن شككوا باحتمال وقف هذه التجارة، إذ اعتبروها جزء لا يتجزأ من التقاليد المحلية، وبالنسبة للكثيرين فإن تناول الحيوانات البرية لا يزال يعتبر فضيلة صحية. مشكلة أخرى تتمثل في أن حظر الحكومة لا يشمل استخدام الأعضاء الحيوانية لأغراض طبية.
لقد دفع الصينيون ثمناً باهظاً للنمو الاقتصادي المفتقر لاعتبارات السيطرة على التلوث؛ إذ كان ينظر لتكلفة هذا النمو بأنه مجد؛ حتى تبين بأن سكان المدن الصينية الكبرى، بما في ذلك بكين، كانوا خلال بعض أيام السنة، يواجهون صعوبات في التنفس. بل إن الأنهار امتصت كميات تلوث هائلة، فأصبحت مصادر المياه الحيوية غير صالحة للاستخدام، كما عانت الثروة السمكية من أضرار جسيمة. علاوة على ذلك، وافقت السلطات الصينية على استيراد مخلفات النفايات البلاستيكية من دول عديدة، لاستخدامها كمواد خام في الصناعة. إلا أن الصين اكتشفت تدريجياً بأنها، إلى جانب النفايات البلاستيكية، كانت تحصل أيضا على مكونات نفايات إضافية صَعُبَ معالجتها.

بدأت الصين في السنوات الأخيرة ببناء حضارة إيكولوجية
خطة استراتيجية طموحة
أجبر هذا الواقع الحكومة الصينية على صياغة سياسة جديدة. ففي السنوات الأخيرة شرعت الصين بتنفيذ خطة استراتيجية طويلة الأجل للتعامل مع المشاكل البيئية. الغرض من تلك الخطة هو خلق "حضارة إيكولوجية" بحسب تعبير الرئيس الصيني "شي جين بينغ". وتشمل أهداف الخطة خفضا كبيرا في التلوث الناتج عن قطاعي الصناعة والمواصلات، وإعادة تأهيل الغابات والأنهار، والتحول نحو الطاقات المتجددة.
وبالطبع، لم تبقِ الخطة الاستراتيجية حبرا على ورق، بل حققت الصين إنجازات بيئية رائعة؛ إذ انخفض، في السنوات الأخيرة، تلوث الهواء بالجسيمات الصغيرة القابلة للاستنشاق بنسبة عشرات بالمائة، كما تعد الصين رائدة في استخدام الحافلات الكهربائية في المدن الكبرى، وهي أكبر منتج للألواح الشمسية لتوليد الكهرباء من الطاقة الشمسية. قبل سنتين، أذهل الصينيون العالم بإعلانهم أنهم لن يقبلوا بعد الآن نفايات البلاستيك التي كانوا يستوردونها بشكل رئيسي من الدول الأوروبية وأميركا الشمالية؛ وقد تسبب هذا القرار في أزمة حادة بالسوق العالمية لإعادة تدوير النفايات.
السنوات القليلة المقبلة ستكون فترة اختبار للصين والعالم؛ ففي حال نجاح الصين بوقف تجارة الحيوانات البرية أو تقليصها بشكل كبير، فسوف يساهم ذلك مساهمة كبيرة في الحفاظ على التنوع البيولوجي في العالم، وسيشكل وسيلة حيوية لمنع تفشي الأوبئة مثل الكورونا. وبعد نحو نصف سنة من المقرر أن تستضيف الصين الاجتماع القادم للدول الموقعة على اتفاقية حماية التنوع البيولوجي؛ وسيكون من المثير للاهتمام رؤية الأهداف التي سيتم تحديدها للمشاركين. الصين مرشحة لأن تصبح رائدة في التخلص من أنواع الوقود الملوث لصالح الطاقة المتجددة، وبالتالي تحفيز الاقتصاد العالمي على تفضيل السيارات الكهربائية بدل سيارات الديزل، وتزويد الطاقة الشمسية بدل الطاقة المعتمدة على النفط والغاز الطبيعي.
لكن، حاليا لا تزال الصين تواصل النمو والإنتاج الصناعي الذي يستهلك موارد طبيعية ضخمة. كما لا تزال تعتمد في الغالب على الوقود الملوث لإنتاج الطاقة، وتروج لمبادرة عالمية لتطوير البنى التحتية للتجارة والنقل (مبادرة "الحزام والطريق") لخدمة اقتصادها، ولكنها (أي المبادرة) قد تهدد أيضًا بعض أهم النظم الإيكولوجية في العالم.