خاص بآفاق البيئة والتنمية
تهتم منذ إعلان حالة الطوارئ في 6 آذار حول كيفية إدارتنا للوقت، خلال الحجر المنزلي. تقرأ كثيرًا حول الأمر، وتستطلع آراء عينة من الأصدقاء الافتراضيين والواقعيين، وتُحلّل بعض الظواهر المتصلة بتداعيات ضياع الوقت خلال نحو شهرين من إغلاق المؤسسات التعليمية، وعدم انتظام عجلة معظم القطاعات، وتعطل المؤسسات العامة والخاصة والأهلية.
من البديهي أن الوقت عصب الحياة، وتنبع أهميته بكونه محرك الإنتاج والعمل، وبه نحسب قيمة كل شيء، ولعل أبرزها الأعمار، وسنوات الدراسة، وساعات العمل، ومواعيد الأجور، وجدولة الديون، وفي حالتنا الفلسطينية لنا معداد خاص قاتم متصل بالنكبة والنكسة، وضياع البلاد، وتيه العباد.
تسأل 100 صديق في أوج الأزمة عن برنامجهم اليومي في زمن الوباء، وتأتيك الإجابة أن 74 منهم لا يُميزون الأيام بعضها عن بعض أصلاً، فكيف سيضعون برنامجًا يوميًا! صحيح أن العينة ليست علمية ولا يمكن تعميم نتائجها، لكنها مؤشر هام على أن الوقت خلال جائحة "كورونا" لم يعد مهمًا، فقد أعقب ذلك انقلاب في مواعيد النوم، وتناول وجبات الطعام، والدارسة على قلتها، والتسوق، والأنشطة الحياتية الأخرى.
كأحد الشواهد على عدم توقف الناس عند الوقت، ترى أعمدة الإنارة في بلدتك مشتعلة حتى الساعة الثامنة صباحًا، في الأيام الأخيرة من نيسان، تتصل بأصحاب الشأن وتبلغهم بتغيير مواعيدها، توفيرًا للمال، وتفاديًا للمزيد من حرق الوقود، وانحيازًا لأبسط قواعد صداقة البيئة. تأتيك الإجابة من أنهم لم ينتبهوا لذلك، فالدوام يبدأ فعليًا الساعة العاشرة، وغالبية الناس لا تستيقظ إلا متأخرة.
تحرص خلال وقت الأزمة وملازمة المنازل، على مراقبة الشارع الرئيس، الذي يشرف منزلك عليه، في وقت مبكر، فتجد حركة خجولة إلى معدومة، وبالكاد ترى بعض المزارعين يذهبون إلى شؤون حقولهم، مقارنة بنشاط دؤوب في الأيام المُعتادة.
يبدو السؤال الأكثر حاجة للإجابة: كيف سنتعافى في معظمنا من "الهزات الارتدادية" للفراغ الطويل، ولضياع ساعات طويلة بلا هدف؟ الأطفال والشباب مثلًا وجدوا في الأزمة فرصة للتوغل في الألعاب الإلكترونية، ورهنوا أنفسهم لها، وللسهر المتأخر والنوم حتى منتصف النهار، وعدم التخطيط لأي نشاط مفيد لليوم التالي.
بدورك، تصمد في مبادرة التعليم عن بعد، التي أطلقتها لثلاثة صفوف، مع ستة معلمين متطوعين في اللغتين العربية والإنجليزية، والعلوم والرياضيات، والدراسات الاجتماعية والتربية الدينية، نحو 40 يومًا من الأزمة، ثم تشاهد الرغبة الجامحة من غالبية الطلبة للتوقف، وبخاصة بعد سماع قرارات عن عدم عودة وشيكة للمدارس، والترفيع التلقائي. والمفارقة أن الطلبة كلهم لم يتحمسوا لتعلم لغة أجنبية جديدة في الأزمة، أو لقراءة كتب خارج مناهجهم، وفضلوا المضي في "الخلاص من الوقت" بلا هدف.
يعتبر الفضاء الافتراضي، ومنصات التواصل الاجتماعي، فرصة مجانية للتعرف على انعكاسات انقلاب انعدام قيمة الوقت في الحياة، فمواعيد النوم والاستيقاظ تبدلت، والاهتمامات تغيرت، والأنشطة في غالبيتها إما تعلم فنون الطبخ، أو متابعة أخبار الجائحة، وبعض العودة إلى الأرض والعناية بحديقة المنزل، أو التجول الفردي في الجبال، والقليل من التعليم الإلكتروني، الذي لم نحسن إدارته، وأخفقنا في تحويله إلى تعليم مجتمعي يتشارك فيه كل أفراد الأسرة، ويجري خلاله تداول المعرفة، وتشجيع البناء عليها، والإبقاء على دماغ نشط بعيد عن الخمول، أو اللاتفكير في شيء.
لا بد من الاعتراف بأننا فشلنا في امتحان الوقت في زمن "كوفيد 19"، وعجزنا عن تحويل فترات الفراغ الطويلة لإعادة اكتشاف أنفسنا، وعائلاتنا، وبيوتنا، وأرضنا، وحدائقنا، وطبيعتنا المحيطة، وصرنا نمضي غالبية الوقت إما في النوم الفعلي أو الخمول.
لا ينطبق امتحان الوقت العسير على بعض الشرائح كالعمال، والتجار، والمزارعين، لكن غالبية الفئات لم تستطع إدارته، ولم تنجح في تحويله لشيء إيجابي.
المفرح بدء العودة إلى الأرض، وإطلاق مشاريع الحدائق المنزلية، وتوزيع نحو مليون ونصف شتلة، لكن ذلك السرور لن يكتمل، إلا بإدارة سليمة للوقت، ووضع برنامج للتعافي من الفراغ والخمول، والتخلص من ثقافة الاستهلاك.
كان بالإمكان العودة إلى الذات خلال الأزمة، وتعلم مهارات جديدة في الاكتفاء الذاتي والإدارة المنزلية، والتوقف عن النمط الاستهلاكي الراهن، واستثمار الوقت في العمل والنشاط البدني في الحديقة المنزلية إن وجدت، أو الزراعة على الشرفات والأسطح، وتعلم مهارات يدوية جديدة، كشفت الأزمة حاجتنا إليها، والعودة إلى القراءة، العادة التي صارت نادرة في حياتنا؛ لأنها القوة، والنواة للحياة.
ويأتي هنا دور البحث العلمي والاجتماعي والنفسي، فيمكن تتبع تداعيات الوقت الطويل من اللاعمل على صعيد الأنماط الاستهلاكية، وأوقات النوم المتأخرة، واضطراب أوقات تناول الطعام، والسمنة المتوقعة، والإدمان المفرط على الألعاب الإلكترونية، والقلق، والآثار النفسية لتضرر مصادر الدخل، وارتدادات التوتر الدائم لأزمة أوقعت في قبضتها معظم دول العالم، ولا ندري كم من الوقت سنسير في نفقها؟ وكيف سيكون شكل الدنيا بعدها؟ والأهم؛ ما الدروس القاسية التي تعلمناها منها؟
aabdkh@yahoo.com