خاص بآفاق البيئة والتنمية
ليس فيلما خياليا أو كابوسا.. بل هو واقع وبائي اجتاح الجميع في الأراضي الفلسطينية كغيرها من دول العالم، لكن الفرق كان هنا كيفية التعامل مع هذا الواقع الجديد.. الطرق والوسائل، وماذا يحدث خلف الكواليس. أي شخص ليس لديه حالة مجاعة في جسمه يستطيع المقاومة، والإنسان الذي يملك صحة نفسية جيدة غير قلق وغير خائف تكون مناعته أفضل من الإنسان الخائف المتوتر. المريض من يختار إن كان يريد أن يكون ايجابياً ويبقي على مناعته قوية، فيخرج من الأزمة، أم العكس؛ فتنهار صحته تدريجياً.
|
|
تزويد المحجورين في فندق أنجل بالأغذية |
لم يكن فيروس "كورونا" الصدمة الأولى التي تمر بها الأسر في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، لكن كانت مغايرة عما عاشه الفلسطينيون في بلد يعاني من الاحتلال الوحيد في العالم، ليجبرهم على الحجر أو الانعزال عن الآخرين كخطوة أولى جديدة لم يعاصروها منذ زمن.
ليس فيلما خيالياً أو كابوسا.. بل هو واقع وبائي اجتاح الجميع في الأراضي الفلسطينية كغيرها من دول العالم، لكن الفرق كان هنا حول كيفية التعامل مع هذا الواقع الجديد. الطرق والوسائل، وماذا يحدث خلف الكواليس.
بدأت القصة حين أعلنت وزيرة الصحة الفلسطينية مي كيلة في الخامس من آذار الماضي إصابة 7 مواطنين فلسطينيين بفيروس كورونا جميعهم من محافظة بيت لحم ، وذلك بعد أن فحصت طواقم الوزارة عيناتٍ من 20 شخصا في فندق بمدينة بيت لحم، نزل فيه وفد يوناني زار فلسطين ما بين 23-27 شباط الماضي، حيث كانت النتائج إيجابية للمواطنين السبعة. ومنذ ذلك الوقت والرقم يتزايد، وقد وصل في الأول من ابريل إلى 134 مصاب، وحالة وفاة لسيدة ستينية من بدو شمال القدس المحتلة.
بدأت المعركة الأولى عبر إغلاق محافظة بيت لحم وحجر المصابين في فندق "انجل" ومنع الدخول أو الخروج أو رؤية المصابين، برز الخوف من تغلغل الرعب وتدهور الحالة النفسية للمصابين في الفندق، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على جهاز مناعتهم، ما يعني الرضوخ للمرض والاستسلام له.
د.سماح جابر
وهنا كان التحدي الجديد بالعمل خلف الكواليس مع المصابين، لرفع معنوياتهم، فكان الخيار الأول تعزيز ثقتهم بنفسهم عبر تكليف وزيرة الصحة للطبيبة "سماح جابر" مديرة وحدة الصحة النفسية في الوزارة بزيارة ميدانية لجميع المرضى المصابين في فندق الانجل.
تقول جابر لـ"آفاق البيئة": "جلست مع المصابين لمرة واحدة بعد تشخيصهم بالمرض بيومين، لمعرفة ماذا يفكرون وكيف هي نفسيتهم، في محاولة لتخفيف الأمر عليهم قدر الإمكان".
الشاب أسامة كنعان من بيت لحم أحد المصابين بفيروس كورونا المستجد، أثناء حجره في فندق الانجل بمدينة بيت لحم، يقول: "الصحة النفسية في هذه الظروف أهم من أي شيء آخر للتغلب على المرض ومقاومته وبقاء الجهاز المناعي قوي".
وكان كنعان برفقة 13 آخرين من الذين تم تشخيصهم بالنتيجة الإيجابية، يعملون معا في الفندق، وقد تآزروا سوياً لتعزيز الشعور بالطمأنينة والراحة، إضافة إلى أنهم كانوا يعرفون بعضهم ويعملون سوياً. لذلك أنشأوا مجموعة على برنامج (الواتس اب)، لمساندة بعضهم البعض، ومعرفة أخبارهم، وما يجري معهم، وتداول النصائح فيما بينهم.
فندق أنجل في بيت جالا حيث تم حجر أوائل المصابين الفلسطينيين بفيروس كورونا
يقول كنعان: "هذه المجموعة لعبت دورا مهما في تقديم الدعم النفسي، فكان كل شخص يمر بظروف صعبة، نقف إلى جانبه ونسانده ونرفع معنوياته بالكلمات الجميلة المساندة".
ويضيف: "سمعنا بأن شابا من مدينة طولكرم أصيب أيضا بهذا المرض، حاولت جاهدا حينها التواصل معه، في البداية لم يشعر بما شعرنا به لأنه كان وحيدا، بينما نحن كنا مجموعة تمرُّ بنفس الحالة، ما جعلنا نساند بعضنا، لذلك قررت دعم معنوياته".
يتابع: "شعرتُ في البداية كما الجميع بالخوف والتوتر خاصة أول يومين، لكن بدأ هذا يتلاشى رويدا رويدا، عندما بدأت الجهات المسؤولة من وزارة الصحة بالتواصل معنا".
ويشير إلى أن الخوف والتوتر والقلق قلّل كثيرا من شهيتهم على الطعام، مع أنه يدرك أنه ولمقاومة هذا المرض يجب أن يتغذى الجسم جيداً، فالتعب النفسي انعكس على أجسادهم.
كنعان يعيل أسرة مؤلفة من ولدين وزوجة، يقول: "كنت كثير الانشغال عليهم وخائفا جداً من الوضع.. لكن زال معظم الأمر عندما أبلغوني أن فحوصاتهم ظهرت سلبية وهم سليمون، فارتحت كثيرا".
تقول جابر: "أي شخص ليس لديه حالة مجاعة في جسمه يستطيع المقاومة، والانسان الذي يملك صحة نفسية جيدة أي غير قلق أو خائف تكون مناعته أفضل من الإنسان الخائف المتوتر، ويساعد نفسه على الحفاظ على مناعة قوية".
وتشير إلى أن الامكانات والخدمات المتوفرة لدى المصابين في الانجل كانت جيدة، وهو ما انعكس على نفسيتهم وجعلهم أقوياء ومعنوياتهم عالية، مؤكدةً أن الأجواء اتسمت بالإيجابية.
ناشطو لجان الطوارئ أمام فندق أنجِل في بلدة بيت جالا
ثلاث مراحل من الدعم النفسي
قامت جابر بالتواصل هاتفياً مع المصابين بعد زيارتها الميدانية لهم لتقديم مزيدٍ من الدعم المعنوي، كي لا يصلوا إلى مرحلة الإحباط أو القلق والتوتر، التي تضعف الجهاز المناعي، وتزيد نسب الكورتيزون الذي بدوره يعمل على إضعافه.
توضح جابر أن ما قدمته وزارة الصحة للمرضى يسمى تدخلاً نفسيا وقت الأزمات والطوارئ، وهذا لا يوجد له خطة جاهزة بل يختلف من بلد لآخر، حسب الظرف الذي يمر به البلد.
وتشير إلى أن هذا النوع من التدخل لأول مرة يكون في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، لذلك كان على ثلاثة مستويات، الأول عبر رسائل تمكينيه تهدئ من روع المجتمع القلق، دون تهويل أو ذعر أو استخفاف.
والمرحلة الثانية للفئات المتضررة التي تشخص حالاتهم بالإيجابية (مصابون) وأهاليهم، عن طريق تقديم اسعاف نفسي أولي لهم، أما المستوى الثالث للناس الذين يُضغطون من الوضع ولديهم قلق صحي ووسواس قهري ينعكس سلباً على عائلاتهم وأصدقائهم.
وتؤكد جابر أنه من كان يحفز نفسه ويطبق برنامجاً إيجابياً، فقد استطاع تحدي المرحلة بطريقة مرنة ويسيرة، وحافظ على معنوياته عالية.
كما كان يتم التواصل مع كل شخص مصاب أو محجور عليه؛ بحيث يتم توضيح طبيعة المرحلة التي يمر بها، وما هي أعراضها وطريقة التعامل معها، ما وفّر لهم أيضا دعما نفسياً كبيراً.
ألوان إضافية...انطوان السقا أحد المتطوعين في فندق أنجل
الاطمئنان على عائلاتهم
أحد المتطوعين في فندق الانجل "انطوان السقا"، يؤكد بأن المصابين حظوا بالدعم النفسي الكبير وهو ما جعلهم أقوياء في مواجهة المرض.
ويضيف أن المصاب بمجرد علمه أن هناك من يهتم به في الخارج، وبعائلته إن كان معيلاً لها، ويعمل على تلبية احتياجاته واحتياجات أسرته، ويتعامل معه بكرامة سواء من الحكومة أو المجتمع، فقد كان ذلك بمثابة دعم نفسي مهم.
ويتابع: "الأطباء النفسيون كان تدخلهم على مستويين منذ اليوم الثاني، كان الارشاد النفسي من دائرة الدعم النفسي في الأمن الفلسطيني، وذات الأمر من وزارة الصحة، عبر مسؤولة الطب النفسي في الصحة الدكتورة سماح جابر.
"كنا نشعرهم أننا متواجدون للحفاظ على كرامتهم، وكنا نتواصل مباشرة معهم من خلال الهاتف ومكالمات الفيديو، لسؤالهم عن احتياجاتهم، وأي شيء يودون التحدث عنه كنا لهم آذانٌ صاغية". يختم السقا