في مقالات سابقة، عالج كاتب هذا المقال عدة مسائل تناولت ارتباط قضايا بيئية محدّدة بالنواحي العصبية والنفسية عند الإنسان. في هذا المقال المقتضب، يتطرق الكاتب للآثار العصبية والدماغية الناتجة عن السكن بجانب الطرق الرئيسية. ومع أن ما ذكره يستند بالأساس إلى دراسات علمية بحتة، إلا أنه أشار إلى أنّ بعض معارفه في منطقتي حيفا والناصرة على وجه التحديد، يشكون من أعراض نفس-عصبية عامة، يُرجعونها إلى سكنهم بجانب الطرق الرئيسية، على عكس أشخاص آخرين من مناطق ريفية في كُفر ياسيف وكفر كنّا أو المغير على سبيل المثال، والذين تقل لديهم مثل هذه الأعراض بشكل عام.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
لا ريب بأن التقاطع ما بين علوم الأعصاب والدماغ والعلوم البيئية يعتبرُ تقدماً حديثاً ونوعياً في مجرى العلوم في الآونة الأخيرة. وفي مقالات سابقة، عالجنا عدة مسائل تناولت ارتباط قضايا بيئية محدّدة بالنواحي العصبية والنفسية عند الإنسان. في هذا المقال المقتضب، سأتطرق للآثار العصبية والدماغية للسكن بجانب الطرق الرئيسية. ومع أن ما سأذكره سيستند بالأساس إلى دراسات علمية بحتة، إلا أني سأبدأ بالإشارة إلى أنّ عديداً من معارفي في منطقتي حيفا والناصرة على وجه التحديد، يشكون من أعراض نفس-عصبية عامة، يُرجعونها إلى سكنهم بجانب الطرق الرئيسية، على عكس أشخاص آخرين من مناطق ريفية في كُفر ياسيف وكفر كنّا أو المغير على سبيل المثال، والذين تقل لديهم مثل هذه الأعراض بشكل عام.
العلاقة ما بين السكن والحالة العصبية
هنالك العديد من الاضطرابات الدماغية والعصبية التي يكثر انتشارها في مناطق معينة، والتي تتم دراستها بطريقة طبية بحتة بالعادة (أي بالعودة إلى الأسباب الدماغية والوظيفية وحدها بالعادة). ومن هذه الاضطرابات مرض باركنسون (Parkinson’s disease) والذي يعتبر من أبرز أسباب العجز الفيسيولوجي وخصوصاً في الدول المتقدمة (Lo et al., 2003). ومن الاضطرابات العصبية الأخرى هو ما يعرف بالخرف أو التدهور العقلي أو العُتاه (dementia)، وهو مصطلح يُطلق على مجموعة من الاضطرابات التي تتعلق بالتراجع العقلي التدريجي للملكات الدماغية عند البالغين. إضافة إلى ما سبق، هنالك مرض الزهايمر (Alzheimer’s disease) والذي يرتبط بالخرف أيضاً (Fick et al., 2003). المثير في الموضوع، هو أنه رغم تزايد عدد الحالات التي تعاني من الاضطرابات السابقة (بين المتقدمين في العمر)، إلا أن الأسباب المحفزة لهذه الحالات لا تزال غير معروفة بشكل دقيق بعد. ومن هنا، ركزت بعض الدراسات مؤخراً على جوانب جديدة غير مطروقة سابقاً لمحاولة الكشف عن أسباب هذه الاضطرابات العصبية والدماغية، وأحد أبرز هذه الدراسات هي دراسة (Yuchi et al., 2020) الكَنَديّة والتي وجدت علاقة ما بين السكن بجانب الطرق الرئيسية والاضطرابات العصبية والدماغية للمتقدمين بالعمر.
السّكن بمحاذاة الطرق الرئيسية والاضطرابات العصبية-الدماغية
اهتمّت العديد من الدراسات المختصة بعلم الأوبئة (Epidemiological studies) بالعلاقة ما بين السكن بجانب الطرق الرئيسية وما بين الاضطرابات العصبية والدماغية. على سبيل المثال، خلصت دراستان ألمانيتان إلى أن هنالك ارتباطاً إحصائيا بين قُرب مسافة مكان السكن من الشارع الرئيسي وما بين تدنّي الأداء المعرفي العقلي (Shikowski et al., 2015; Ranft et al., 2009). تشير الدراسات التي أجريت في هذا المضمار، أن هنالك ارتباطات ما بين الظروف البيئية المرتبطة بالشوارع الرئيسية والاعتلالات الدماغية والعصبية. إذ أن منسوب تلوث الهواء مثلاً في الطرق الرئيسية يكون بالعادة مرتفعاً، وهو ما تربطه بعض الدراسات بتدنّي الأداء الوظيفي العصبي والمعرفي (Chen et al., 2009). وفي دراسات أخرى ركزت على عينات كبيرة من الصين والسويد، وجد الباحثون أن أوكسيد النيتروجين (Nitrogen Oxides) المنتشر بكثرة في المناطق ذات التلوث الهوائي العالي، مرتبط بتزايد حالات الإصابة بمرض الزهايمر عموماً (Chang et al., 2014; Oudin et al., 2015).
ولعل أحدث الدراسات في هذا المضمار هي دراسة (Yuchi et al., 2020) والتي ركزت على العلاقة ما بين السكن بالقرب من الطرق الرئيسية وما بين الاضطرابات العصبية والدماغية المتعلقة بالمتقدمين بالعمر (بالعادة) مثل: الزهايمر، الخرَف، باركينسون، ومرض التصلب المتعدد (MS). وقد وجدت هذه الدراسة أن السكن بجانب الطرق الرئيسية مرتبط بعدة عوامل بيئية سلبية من قبيل: الضجيج السمعي، نقص المساحات الخضراء، التلوث الهوائي وغيرها. وخلصت الدراسة إلى أنّ التعرّض لهذه العوامل السّلبيّة يؤثّر في المدى البعيد على الوظائف العقلية والدماغيّة، وخُصوصاً لدى المُتقدّمين في العمر.

واقعنا الفلسطيني
يتبيّن ممّا سبق أنّ السّكن بجانب الطرق الرئيسية مُرتبط علمياً بمجموعة من الاضطرابات العصبية والدماغية التي قد تظهر على المدى البعيد. وعلى الرغم من نُدرة الدراسات التي أُجريت في السياق المحلّي، إلاّ أن غالبية الاستنتاجات قد تكون أيضاً ذات صلة بسياقنا. وكما ذَكرتُ سابقاً، نلاحظ أن العديد ممن يقطنون بجانب الطرق الرئيسية (وخصوصاً في المُدن الكبيرة) يتذمرون من عدة أعراض مثل ضعف التركيز والتدهور العقلي (وخصوصاً في المدن الرئيسية مثل حيفا، الناصرة، رام الله...الخ). يقول سري إبراهيم من مدينة الناصرة بأنه يعجز عن التركيز في كثير من الأحيان بسبب الضجيج الصادر عن الشارع الرئيسي بجواره، ولذلك يُضطر أن يذهب إلى مكتبة قريبة للعمل غالباً. كما تقول لمياء غزالي من مدينة حيفا بأنها تقطن في شارع رئيسي بالقرب من الميناء، وتعتقد أن الأصوات المزعجة والتلوث الهوائي في منطقتها قد يكونا سبب إصابة والدها بالخرف والتدهور العقلي (dementia).
وفي الختام، تفتح هذه القضايا أعيننا أمام إشكاليات وتداعيات جدية للقضايا البيئية وارتباطها بالأمور العصبية-الدماغية. ولعلنا بهذه الإضاءات نلفت أنظار الباحثين والمعنيين بضرورة تخصيص أبحاث لمثل هذه القضايا في سياقنا المحلي.
المراجع:
Lo, E., Dalkara, T. & Moskowitz, M. (2003). Mechanisms, challenges and opportunities in stroke. Nat Rev Neurosci 4, 399–414 .https://doi.org/10.1038/nrn1106
Fick DM, Agostini JV, Inouye SK (2002). Delirium superimposed on dementia: a systematic review. J Am Geriatr Soc. 50(10):1723–32.
Schikowski T, Vossoughi M, Vierkötter A, Schulte T, Teichert T, Sugiri D, Fehsel K, Tzivian L, Bae I-S, Ranft U (2015). Association of air pollution with cognitive functions and its modification by APOE gene variants in elderly women. Environ Res. 142:10–6.
Ranft U, Schikowski T, Sugiri D, Krutmann J, Krämer U (2009). Long-term exposure to traffic-related particulate matter impairs cognitive function in the elderly. Environ Res. 109(8):1004–11.
Chen J-C, Schwartz J (2009). Neurobehavioral effects of ambient air pollution on cognitive performance in US adults. Neurotoxicology. 30(2):231–9
Chang K-H, Chang M-Y, Muo C-H, Wu T-N, Chen C-Y, Kao C-H (2014). Increased risk of dementia in patients exposed to nitrogen dioxide and carbon monoxide: a population-based retrospective cohort study. PLoS One. 9(8):e103078.
Oudin A, Forsberg B, Adolfsson AN, Lind N, Modig L, Nordin M, Nordin S, Adolfsson R, Nilsson L-G (2015). Traffic-related air pollution and dementia incidence in northern Sweden: a longitudinal study. Environ Health Perspect. 124(3):306–12.