لا شك أن مُدننا تُجسد الضعف الذي نعيشه. بل إننا لو تأملنا مدناً عربية مثل عمّان وبيروت سنجدها تفتقد لمعايير التخطيط السليم وبالعودة إلى الوراء قليلًا. لو تأملنا مدينة مثل البصرة في العراق التي بُنيت في زمن عُمر بن الخطاب سنجد في تخطيطها اعتبارات بيئية مميزة، ومن المُدهش أن نجد هذه الاعتبارات حاضرة في تخطيط مدينة "واسط" وفي "مراكش" بل سنجد عالم مثل ابن الربيع قد وضع معايير الاستدامة في تخطيط المدن قبل ألف عام تقريبًا، وسنجد طبيبًا مثل الرازي يُجري التجارب لتحديد أفضل موقع لبناء مستشفى بناء على جودة الهواء وسنجد نماذج كثيرة، ولكن يبقى أبرز وأقوى من تحدث في تخطيط وتنظيم المدن في العالم العربية والإسلامي هو ابن خلدون كما سنرى في التقرير التالي.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
|
شط العرب - مدينة البصرة، من الانترنت
|
إذا كان تخطيط المدن في مفهومه الواسع هو تجسيد للقيم والخصائص الحضارية الإنسانيّة كما يقول المعماري العراقي محمد مكيّة، فلا شك أن مُدننا تُجسد الضعف الذي نعيشه. بل إننا لو تأملنا مدناً عربية مثل عمّان وبيروت سنجدها تفتقد لمعايير التخطيط السليم وبالعودة إلى الوراء قليلًا. لو تأملنا مدينة مثل البصرة في العراق التي بُنيت في زمن عُمر بن الخطاب سنجد في تخطيطها اعتبارات بيئية مميزة، ومن المُدهش أن نجد هذه الاعتبارات حاضرة في تخطيط مدينة "واسط" وفي "مراكش" بل سنجد عالم مثل ابن الربيع قد وضع معايير الاستدامة في تخطيط المدن قبل ألف عام تقريبًا، وسنجد طبيبًا مثل الرازي يُجري التجارب لتحديد أفضل موقع لبناء مستشفى بناء على جودة الهواء وسنجد نماذج كثيرة، ولكن يبقى أبرز وأقوى من تحدث في تخطيط وتنظيم المدن في العالم العربية والإسلامي هو ابن خلدون كما سنرى في التقرير التالي.
عُمر بن الخطاب وشروط العمران
ينقل البلاذري في فتوح البلدان المراسلات التي تمّت بين عتبة بن غزوان والخليفة عمر بن الخطاب بخصوص الموقع الذي يجب أن يتخّذه لتأسيس مدينة جديدة، فكان من بين الشروط التي وضعها عمر بن الخطاب هي شروط "بيئية" أساسيّة وهي ضرورية كون المدينة قريبة من الماء والمرعى، فانطلق يبحث عن موقع ملائم ليُخبره بعدها: "إني وجدت أرضا كثيرة القضة (نوع نباتات) في طرف البر إلى الريف، ودونها مناقع ماء فيها قصباء". فلما قرأ عمر هذا الرد قال:"هذه أرض نضرة قريبة من المشارب والمراعى والمحتطب" مؤكدًا إعجابه بهذا الموقع، الذي لا يتوفر فيه الماء والمرعى فقط، بل الحطب الذي يُمكن أن يستخدم كمادة بناء محليّة مثل القصب وكذلك يُمكن أن يستخدم كمصدر للطاقة في التدفئة مثلا.
كانت هذه هي النواة الأساسية لبناء مدينة البصرة في العراق، ثم كان أول ما قاموا به هو بناء المساكن والمسجد بالقصب، إلا أن المراسلات تكشف لنا كيف أن عمر تراجع عن فكرة البناء بالقصب بعد حصول حريق هائل في المدينة ووافق على طلب بنائها من "طوب اللبن" وهو من مواد البناء المحليّة كذلك، فكتب إليه مُشترطًا: "افعلوا وتلاصقوا في البناء، ولا يزيدَنّ أحدكم على ثلاثِ غرف ولا تطاولوا في البناء" ثم أمرهم أن يجعلوا عرض شوارعها الكبيرة أربعين ذراعاً والمتوسطة عشرين والأزقة سبعة أذرع، وأن يجعلوا وَسَطَ كلِّ محلة رحبةً مربعةً لمرابط خيلهم طولُ ضعلها ستون ذراعاً كما جاء في كتاب "البصرة ذات الوشاحين" وللعلم فإن الذراع يختلف قياسه من بلد لآخر ويتراوح غالبًا بين 54 سم (الذراع النيلي) إلى 80 سم (الذراع البغدادي).
هذا الإهتمام المُبكر بأن يكون عرض الشوارع بما يتلائم مع حركة المرور فيه يستحق منّا اهتمامًا أكبر، كما أن اشتراط عمر لتلاصق المباني لم يكن عشوائًيا وهو ما يعرف بـ "اتباع الحل المُتَضامِّ" فتلاصق المباني في البيئة الصحراوية يضمن كذلك الراحة الحرارية في المبنى صيفًا وشتاء، بالإضافة إلى اشتراط وجود محلّة رحبة لمرابط الخيل لا يختلف كثيرًا عن شروط إقامة مواقف سيارات، عن بناء العمارات السكنيّة، والتي غالبًا ما يتم إهمالها في بلادنا، فتكون النتيجة مشاجرات وحوادث عُنف على خلفيّة موقف سيارة.
الحجاج وشرط المناخ والطعام!
رغم كُل هذه الأفكار التي وردت خلال تأسيس مدينة البصرة إلا أن الباحث د.أحمد عمالك يرى أن أول إشارة دقيقة في الاهتمام بالمعايير البيئية في تخطيط المدن العربية والإسلامية، قد وردت على لسان الحجاج بن يوسف الثقفي في القرن الثامن ميلادي، وذلك حين عزم على تأسيس مدينة واسط، فقد أمر من كلفهم بذلك الأمر "أن يكون المكان مرتفعا، وعلى نهر جار عذب، وأن يكون مناخ "الموضع" جيدا وطعامها سائغا".
هنا نرى أن الاهتمام لم يعد منحصرًا بوجود الماء والمرعى فقط، بل نجد اهتمامًا بالمناخ المحلي وجودة الطعام الذي يتم انتاجه من الأراضي الزراعية في المنطقة، وهو ما تؤكده الحكاية التي نقلها ياقوت الحموي في معجم البلدان: "الحجاج لما فرغ من حروبه استوطن الكوفة فآنس منهم الملال والبغض له، فقال لرجل ممن يثق بعقله: امض وابتغ لي موضعا في كرش من الأرض أبني فيه مدينة وليكن على نهر جار، فأقبل ملتمسا ذلك حتى سار إلى قرية فوق واسط بيسير يقال لها واسط القصب، فبات بها واستطاب ليلها واستعذب أنهارها واستمرأ طعامها وشرابها".
شروط في اختيار موضع المدن من مخطوط بن الربيع
ابن أبي الربيع وتحقيق الاستدامة في المدن
في القرن التاسع، يظهر عالم مميز يدعى ابن أبي الربيع هو من أوائل العلماء الذين وضعوا حجر الأساس لمنهجية اختيار مواضع المُدن في كتابه "سلوك المالك في تدبير الممالك على التمام والكمال" وفي هذا الكتاب يضع ثمانية شروط في اختيار موضع المدن، ويظهر فيها النُضج الذي وصل إليه العلماء في هذا المجال.
• أحدها : أن يسوق إليها الماء العذب للشرب، حتى يسهل تناوله من غير عسف.
• الثاني : أن يقدر طرقها وشوارعها، حتى تتناسب ولا تضيق.
• الثالث : أن يبني فيها جامعا للصلاة في وسطها، ليقرب على جميع أهلها.
• الرابع : أن يقدر أسواقها بكفايتها، لينال سكانها حوائجهم من قرب.
• الخامس: أن يميز قبائل ساكنيها، بأن لا يجمع أضدادا مختلفة متباينة.
• السادس: إن أراد سكناها فليسكن أفسح أطرافها، وأن يجعل خواصه كنفا له من سائر جهاته.
• السابع : أن يحوطها بسور، خوف اغتيال الأعداء، لأنها بجملتها دار واحدة.
• الثامن : أن ينقل إليها من أهل الصنائع بقدر الحاجة لسكانها
في دراسة حول منهجية الفكر الإسلامي في تخطيط المدينة العربية الإسلامية، يؤكد الباحث خليل مصطفى غرابية أن الشروط التي وضعها ابن أبي الربيع تستند إلى مبادئ الاستدامة ويضرب لنا مثلا بمدينة البصرة، وكيف أن اختيار عمر بن الخطاب لموقع مدينة البصرة ارتكز على مبدأ التوازن بين الصحراء والريف، فوجود المرعى كان أساسًا في الاختيار من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي لسكان المدينة من العرب الذين كانوا يحترفون الرعي، ويضيف :الواجب هنا هو وجود ما يكفي سكان المدينة من النشاط الاقتصادي الذي يجعلهم يعيشون في استقرار دون مبالغة ودون تحويل المدينة إلى "مشروع تجاري" كما نشاهده هذه الأيام، حيث ينتفي الهدف من بناء المدينة التي وجدت في الأصل من أجل الحياة وليست من أجل التجارة".
أما الباحث المصري د.خالد عزب فيعتبر في كتابه "عمارة المدن الإسلامية" أن فهم ابن أبي الربيع يجسد نموذجًا للفهم المقرون بالتحليل المنطقي في أسس إنشاء المدن، ويضرب لنا مثلًا على ذلك من خلال شرط سوق المياه للمدينة للشرب، لتسهيل مهمة الحصول عليه "دون عسف"، ويرى في هذا دليلا على وصول المخطط الحضري إلى مرحلة الحرية في اختيار الموقع المدني، متخطيا ما يسمى بالحتمية الطبيعية (Determinism)، التي تحتم على المخطط أن يبني مدنه بالقرب من وديان الأنهار، والمواقع ذات الثروات الطبيعية. فابن أبي الربيع يشترط على الحاكم لعمارة المدينة، التي قد يكون موقعها بعيدا عن مصادر المياه، أن يجلب الماء إليها، وهو ما حدث فعلا في العديد من المدن الإسلامية، فقد جلب المسلمون الماء إلى مدينة مدريد ومراكش من خلال نظم مائية مميزة . كمثال انظرKhettara water irrigation system). )
جودة الهواء.. من الرازي إلى ابن خلدون
في القرن العاشر، سيُصبح الحديث عن جودة الهواء في المُدن مسألة شائعة، سنرى الرازي وهو يقوم بتجربة فريدة لتحديد أفضل موضع لبناء مستشفى بعد توجه الخليفة في بغداد إليه، حيث قام بتوزيع عدد من قطع اللحم في نواحي مختلفة في بغداد وأخذ يلاحظ المناطق التي ستتغير فيها خصائص اللحم بشكل أسرع وبالتالي ستتعفن، واعتبر ذلك دليلًا معيارًا في قياس جودة الهواء وهكذا توصل إلى أفضل موضع. بعد الرازي بحوالي 50 عامًا، يظهر في القدس طبيب يُدعى "محمد بن أحمد التميمي المقدسي" فيتألق في علم الطب ليترك لنا كتابًا بعنوان (مادة البقاء في إصلاح فساد الهواء والتحرز من ضرر الأوباء) ويقرر فيه أن تلوث الهواء أخطر من تلوث الماء ثم لاحقًا يظهر الشيرازي فيكتب "نهاية الرتبة في طلب الحسبة" ويضع لنا تفاصيل دقيقة في مراقبة الجودة في الأسواق، بعده بقرن يظهر القزويني بكتاب "أثار البلاد وأخبار العباد" ويتحدث عن أهمية جودة الهواء للمدن.
100 عام أخرى، في عام 1332 تحديدًا، يُولد العالم الشهير ابن خلدون، صاحب كتاب "المقدمة" والذي يُعطي فيه موضوع جودة الهواء بُعدًا استراتيجيًا، فيكتب فصلًا عن "فيما تجب مراعاته في أوضاع المدن" يقول فيه: "مما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طيب الهواء للسلامة من الأمراض. فإن الهواء إذا كان راكداً خبيثاً أو مجاوراً للمياه الفاسدة أو منافع متعفنة أو مروج خبيثة أسرع إليها العفن من مجاورتها فأسرع المرض للحيوان الكائن فيه لا محالة. والمدن التي لم يراعَ فيها طيب الهواء كثيرة الأمراض في الغالب".
ومن المسائل المُلفتة التي يتطرق إليها ابن خلدون هي مدى ارتباط جودة الهواء بتعداد السكان في المدينة فيقول "قد اشتهر بذلك في قطر المغرب بلد قابس من بلاد الجريد بأفريقية فلا يكاد ساكنها أو طارقها يخلص من حمى العفن بوجه. فالبلد إذا كان كثير الساكن وكثرت حركات أهله فيتموج الهواء ضرورة وتحدث الريح المتخللة للهواء الراكد، ويكون ذلك معيناً له على الحركة والتموج وإذا خف الساكن لم يجد الهواء معيناً على حركته وتموجه، وبقي ساكناً راكداً وعظم عفنه وكثر ضرره. وبلد قابس هذه كانت عندما كانت أفريقية مستجدة العمران كثيرة الساكنين، تموج بأهلها موجاً فكان ذلك معيناً على تموج الهواء واضطرابه وتخفيف الأذى منه، فلم يكن فيها كثير عفن ولا مرض، وعندما خف ساكنها ركد هواؤها المتعفن بفساد مياهها فكثر العفن والمرض".
وللتأكيد على أهمية جهود ابن خلدون، يدعونا الباحث سابا جورج شبر للنظر في تجربة مدينة بيروت قائلًا: حين ننظر اليوم إلى مدينة مثل بيروت، سنجد أنه، بعد ابن خلدون بستمائة عام، لا يوجد رأي عام قوي بما يكفي، ولا معرفة بكيفية التخطيط المدني الضروري، ولا سلطة تنفيذية فاعلة من أجل التصرّف وإبعاد الأشياء المؤذية عن الأحياء السكنية على الأقل" أو حتى يطلب منّا أن نقارن أفكار باتريك جيديس بأفكار بن خلدون، بالأخص وأن جيدس قد أدخل في كتابه "مدن مطوّرة" عناصر علم الاجتماع الأساسية على تخطيط المدن، وهو ما يجعل "شبر" يتصوّر حدساً أن "جيدس" كان قد تعرّف على أفكار ابن خلدون، وفي كتابه "المدينة الحديثة وفن العمارة وتنظيم المدن" يقول "شبر" أن من يقرأ الدراسات العلمية المفصلة التي أجريت على نطاق كبير قبل اختيار الموقع الحالي لمدينة "برازيليا" سيخطر حتمًا بباله أقوال ابن خلدون في تخطيط المدن.
ختامًا، من المؤسف أن معظم هذه الأفكار التي نمت في بيئتنا وبما يتلائم مع ظروفنا ابتداء من توجيهات عمر بن الخطاب في بناء البصرة، مرورا بالحجاج ومدينة واسط ، وشروط ابن أبي الربيع وابن خلدون وحتى ابن الأزرق الذي طوّر أفكار بن خلدون، لم تعد ذات قيمة بالنسبة للمخططين في بلادنا. فمعظم منهجيات التخطيط في بلادنا مستوردة غالبًا والمنطلقات فيها لا تُراعي البيئة الثقافية التي تُطبق فيها، وعن هذا يقول الباحث د.خالد عزب "كُنت قديمًا إذا زرت مدينة إسلامية استطعت أن تميّزها عن المدن الأخرى، أما اليوم فلا فارق بين القاهرة وباريس ولندن ونيويورك ودمشق، فالكل واحد، وإن ساء التقليد لدينا، لأننا نقلّد مرتكزات ومنطلقات الآخرين في عمارتهم للكون."