خاص بآفاق البيئة والتنمية
عوني ظاهر حارس الأزياء التراثية الفلسطينية المنسية
أنفق الستيني عوني ظاهر أكثر من نصف مدخراته لجمع مقتنيات تراثية تلخص سيرة فلسطين في 100 عام، وخلال رمضان الحالي عرضت ملابسه التراثية على ست قنوات فضائية، ارتداها أبطال مسلسل "أولاد المختار".
يبدو ظاهر سعيدًا رغم ما صرفه من مال، وما سبب له حفظ الأزياء والعناية بها من متاعب، وإشغال معظم حيز بيته لهذه الغاية.
يقول وهو يرتدي زيه التقليدي المُحبب: "الملابس جزء أساسي من التراث الشعبي، وهي تحكي قصة شعب، وتطورها يعكس تطور قصتنا، وهي الهوية، التي يحاول المحتل سرقتها ونسبها لتاريخه."
بدأ ظاهر، الذي عمل مدرسًا ورئيس قسم التقنيات في التربية والتعليم، بجمع الأزياء التقليدية، وكان ثوب "الصرتلي" أول مقتنياته، فقد اشترى القماش الشامي من الأردن، وفصله بنابلس، وصار الزي الذي يلازمه منذ سنوات، حتى داخل منزله، كما يحرص على لف رأسه بكوفية عند النوم.
اللباس التراثي الطوباسي
150 ثوبًا
امتلك ظاهر قنابيز لوالده وعمه، ودمايات وثياب والدته، واستخدمتها في مسلسل "أولاد المختار"، لكن المردّن الطوباسي والعنبتاوي والتابع لدير الغصون، هي الأغرب في مقتنياته، فعنده القطع كاملة لها ومن الصعب التفريق بينهم.
وقال: "رصيدي من أنحاء فلسطين أثواب مطرزة ومكشكشة، أو مُوردة، أو مُشجرة، أو سادة قرابة 150 قطعة مع غالبية مستلزماتها، عدا عن لباس الأطفال والبنات، ومعظمها على نفقته الخاصة."
ويأسف ظاهر على من يستعيرون ملابسه لنشاط مدرسي، أو لحفلات تراثية، فيأخذونها مغسولة ومكوية، ولكن يعيدونها متسخة، ما دفعه إلى عدم إعارتها، خوفًا على فقدانها، ولعدم إدراك الناس قيمتها.
ومضى: "الاحتفاظ بالأزياء في أماكن تحميها من العث أو الشمس مكلف، وأفضل الطرق لوصولها للجمهور هو عرضها في صناديق زجاجية معقمة وهي نظيفة ومكوية، ويمكن تقديمها من خلال عارضات، أو تشجيع الناس على العناية بها لتصبح منتشرة".
وأزياء ظاهر، تمثل لبس الفقراء والطبقات الوسطى خلال قرن مضى، وتتنوع منذ الاحتلال الإنجليزي، والحكم الأردني، والاحتلال، وما يرتديه الناس اليوم.
ووفق ظاهر، الذي يقيم في ياصيد بمحافظة نابلس، تتناغم الثياب التقليدية مع البيئة والعمل والجغرافيا، فهي وظيفية في الأغلب، فلباس أهل الغور غير الجبل، والساحل غير الداخل، فهي تلعب دوراً في تسهيل عمل من يرتديها، ومحاكاة الطبيعة الجميلة، والمحيط الذي يسكنه صاحبهاـ
عوني ظاهر إلى جانب نموذج من مقتنياته التراثية
لوحات بيئية
وتابع: "تتأثر الأزياء الشعبية بالنقوش المستوحاة من الأرض والبيئة كسنابل القمح، وأوراق العنب. فالإنسان ابن بيئته، والبيئة في علاقتها الجدلية مع الإنسان، توفر له الشكل والمضمون".
ونقلاً عن ظاهر، فالتحفة الجمالية للملابس تستوحى من البيئة المحيطة، فالأزهار البرية تزين الثوب، والطيور تؤطر اللوحة، والثوب باعتباره ثقافة منبعه معارف الإنسان، وأصل المعارف البيئة، التي تمثل تجربة حية وغنية للإنسان.
ومضى: "الملابس التراثية كادت أن تكون موحدة في مناطق متعددة لسبب واحد هو اظهار انسجامها مع بيئتها، فهو مناسب للواتي يعملن بالزراعة، ويخبزن بالطابون، ويعتنين بالمواشي".
وبحسب ظاهر، فإن الأبيض كان سائدًا، عدا المنديل الأخضر، وعصبة الرأس، والزنار المتوج بالأحمر المُقصب. فيما الثوب الذهبي المعرق بالأبيض امتلك عشرات التعريقات البيضاء، وكأن الأمر يشبه "التحدي"، فلم توجد على الأثواب الزاهية بقعة أو حشرة.
واستطرد: "اللباس "مدرسة للنظافة"، وكانت كل نساء القرية يتفاخرن بنظافة الثوب الأبيض غير المُشجر، أو الوردي الذي يناسب تربة البلد أو رملها، وهذا ينطبق على الرجال سواء بثوب "الصرتلي" أو الطقم "الروزا" والحطة البيج أو البيضاء المعرقة، والعباءة البيضاء أو السوداء المتناغمة مع الأبيض، الذي يلبسها، كان قبل ساعة بين أغنامه أو على البيدر، أو في الحصيدة، وهو الآن كالمختار.
ملابس تراثية فلسطينية رجالية جمعها حارس التراث عوني ظاهر
لغة القماش
وقال إن هناك "خصوصية للأزياء"، فأهل الشمال كانوا مع الثياب المكشكشة المُوردة المٌلونة المُطرزة، التي كانت تقلُّ باتجاه الجنوب، أو هي لبس الناصرة، والجليل، وجنين، ونابلس، وطوباس، مرورًا بطولكرم، وسلفيت، ورام الله، وصولاً إلى بيت لحم، والخليل، وبئر السبع ذات المطرز الكامل، فالنساء فيها أقل عملاً من الشمال، وكان بوسعهن التنافس لإظهار التطريز على ثيابهن.
يحرص ظاهر منذ تقاعده، قبل أربع سنوات، على ارتداء ما لبسه جده ووالده مع إدخال بعض التعديلات خاصة بالسروال، او الجاكيت الصيفي، والابتعاد عن ربطة العنق للقميص داخل القنباز.
وأفاد أنه يحافظ على مقتنياته من الملابس، التي تمثل الفلاح الإنسان الفلسطيني، البسيط والبعيد عن الأغنياء، والذي لا تهمه الملابس الجديدة، ويرتدي القنباز المريح الفضفاض.
مسلسل أولاد المختار بأزياء تراثية تم استعارتها من عوني ظاهر
"أولاد المختار"
انتشار أثواب ظاهر كانت من خلال مسلسل "أولاد المختار" الذي عرض في شهر رمضان على ست فضائيات. وجميع الملابس والإكسسوارات للممثلين كانت من متحفه، ولم تتعرض للنقد، بل اعتبرها المخرج، وفق ظاهر، إحدى ركائز نجاح المسلسل. وكان عرض الملابس هدفًا بحد ذاته، ليتأملها الناس، ويراها الباحثون والنقاد، وتعمل على إنعاش الواقع التراثي، وإبراز دوره الفني، وقيمة الحضارية.
وقال إن تجربة "أولاد المختار" كانت مرهقة، فالجمهور كان نحو 200 طالبًا ورجلًا أدوا أدوار المزارعين، والجمهور، والأعراس، والتعزية، وطلاب كتاب، وحتى الممثلين لم يكن لديهم التزام فأحيانا ألبسهم، ثم أجد بعد التصوير أنهم نسوا شيئًا ضروريًا خلعوه في انتظار التصوير، أو في غرفة المكياج.
وأشار ظاهر إلى ضياع قطع كثيرة خلال المسلسل، كما كان فقيرًا جدًا بإمكاناته، فقد دفع من جيبه الخاص ثمن الملابس، ولم يحصل على أي أجر، وكل ما هو موعود به لعمل سنة كاملة لا يغطي ما خسره من ملابس تراثية، ولكنه نجح في تجاوز "المحنة" كما أسماها، فلم يكن يملك مغسلة إلا للضروريات، ولا مكوجيًا ولا حتى غسلها بالإيجار، ولا خياطًا ليكيف الملابس حسب الحاجة، واستعملت الإبرة لإنقاذ الكثير من المواقف.
وتابع: تحدثت وسائل الاعلام بإسهاب عن الملابس، وخصص تلفزيون فلسطين، وقناة الحرة تقاريرَ عن غرفة الملابس الخاصة، خلال تصوير المسلسل، وهي بيت قديم، بقرية رابا بمحافظة جنين، ووصل عدد القطع إلى 3000 قطعة.
واستدرك: "للأسف لم تتحدث وسائل الإعلام عن اللباس وصاحبه بعد عرض الحلقات، وحتى المخرج بشار النجار لم أسمعه يتحدث عن الملابس، التي اعترف على صفحته في "فيس بوك" أن عوني ظاهر وملابسه وإكسسواراته هي من "صنعت النجاح للمسلسل، ومكنت تصويره وانتاجه."
ملابس تراثية فلسطينية نسائية جمعها حارس التراث عوني ظاهر
المتحف الحلم
وأفاد: "كنا نستعمل صبغة خاصة تعبيرًا عن الدماء، ووجدت أن اللون الأحمر لا يزول عن الخيط أو التعريقات المحيطة بثوب الروزا، كما أن بعض القنابيز مزقت لأغراض التمثيل، وافتقدتها".
وأضاف: نستطيع "رد الاعتبار" للأثواب الشعبية، وبالوعي أن الزّيّ هوية، وهو الذي يميز مجموعة عن أخرى، وبالنظر إلى مخاطر تهويده وتحريفه وسرقته، والاعتزاز به، وإدراك وظيفته وتاريخه.
واستنادا إلى ظاهر، فإن عروض الأزياء التراثية وسيلة غير فعّالة للترويج لأزياء الأجداد، ولا تحدث تحولا ملحوظًا للجمهور، ولم يكن اللباس الفلسطيني يوما وسيلة لكسب العيش، كما يحدث لبعض الفرق التراثية، التي تلوح بالسيوف وبعض الحركات مقابل المال، حتى وصل الوضع إلى إهانة القنباز أو السرطلية، وللأسف أزياؤنا اليوم مهملة.
وأنهى: "معظم العروض المدرسية تتم بثوب مطرز بلا خصوصية للمدينة، ويكون مستورداً من تركيا أو الصين، والخطوة التي أنتظرها بفارغ الصبر، تنظيم مقتنياتي في متحف يليق بها، وعرضها لتكون مصدرا للبحث والتأمل والدرس، وهي مصدر أرقي الدائم، وأتوجه إلى أصحاب القرار والاختصاص لدعم متحفي المنتظر".
aabdkh@yahoo.com