العمل الإعلامي البيئي الفلسطيني (والعربي عموما) موسمي، واهتمامه بالقضايا البيئية لحظي، كتغطية بعض المؤتمرات أو المناسبات البيئية السنوية. الصحافة المحلية لا تصنع الخبر البيئي، بل غالبا ما تستنسخ أخبارها وتقاريرها حول القضايا البيئية من الوكالات الأجنبية والعالمية أو من الانترنت. نجاح الإعلام البيئي يقاس بمدى قدرته على تحويل القضايا البيئية من مجال تخصصي يشغل حيزا في بعض الصفحات المتخصصة فقط، إلى مسألة تمس جوانب وهموم حياة المواطنين اليومية. الصحافة البيئية تحتاج إلى تخصص ومثابرة، لأن العمل في هذا النمط من الصحافة غالبا ما يتميز بالأسلوب التحقيقي والاستقصائي، بعيدا عن أسلوب العمل الصحفي التقليدي والاعتماد على "المعلومات" الحكومية غير المعززة بالأدلة والوثائق. معظم الإعلام الفلسطيني يحرص على عدم تجاوز ما يسمى "الخطوط الحمراء" الرسمية، وذلك لتجنب المشاكل مع الجهات الحكومية أو الأجهزة الأمنية؛ وبخاصة أن العديد من القضايا البيئية-السياسية أو البيئية-الاقتصادية قد تثير حفيظة "متخذي القرار" الرسميين، أو "متخذي القرار" في القطاع الرأسمالي الخاص، الذين قد تتضارب مصالحهم مع حماية البيئة والصحة العامة والتنمية الانتاجية المستدامة.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أشرنا سابقا في هذا الموقع إلى أن الصحافة الفلسطينية لا تعكس بأي حال الهم البيئي. ومن خلال متابعتنا الأخيرة، تبين لنا للأسف، بأنه فيما عدا مجلة "آفاق البيئة والتنمية" المتخصصة مهنياً وعلمياً في الإعلام البيئي، منذ سنوات طويلة، لا يوجد في المستوى الفلسطيني صحافة بيئية جديرة بهذا الإسم. وإجمالا، العمل الإعلامي البيئي الفلسطيني (والعربي عموما) موسمي، واهتمامه بالقضايا البيئية لحظي، كتغطية بعض المؤتمرات أو المناسبات البيئية السنوية، مثل يوم البيئة العالمي.
وببساطة، يهتم العديد من الصحافيين في تغطية البيانات الختامية لبعض الأحداث البيئية التي قد يشارك فيها وزير أو مسؤول حكومي. أو قد تنشر وتبث تقارير صحافية حول كارثة بيئية حدثت، وغالبا ما تكون التغطيات سلبية، كالهزات الأرضية والفيضانات المدمرة وغرق الناس والمنازل والسيارات في تجمعات مياه الأمطار المتراكمة دون تصريف، والجفاف، وتراكم النفايات وما إلى ذلك. وبالتالي، لا يوجد في الصحافة الفلسطينية والعربية إجمالا، اتجاه عام لمتابعة القضايا البيئية بشكل منهجي؛ ذلك أن الصحافي العربي، بل المواطن العربي عموما، وخلافا للمواطن الغربي، يتعامل مع القضايا البيئية باعتبارها أمور كمالية.
الصحافة المحلية لا تصنع الخبر البيئي، بل غالبا ما تستنسخ أخبارها وتقاريرها حول القضايا البيئية من الوكالات الأجنبية والعالمية أو من الانترنت. بعض الصحافيين المحليين (في الإعلام الفلسطيني) الذين قد يبادرون إلى الكتابة حول قضايا بيئية، يحررون نصوصهم، إجمالا، بذات الأسلوب المتبع في تحرير الأخبار السياسية؛ علما أن للصحافة البيئية نمطها التحريري الخاص، وفن تحرير مواضيعها يحتاج إلى خبرة خاصة.
العمل كصحافي بيئي ليس من السهولة بمكان، إذ لا بد أن يتحلى الأخير بالعديد من المواصفات التي تفوق تلك المطلوبة من الصحافي العامل في الحقل السياسي. تغطية الظواهر والأحداث والقضايا الإيكولوجية والطبيعية تحتاج إلى معرفة أكاديمية وخبرة تحريرية خاصة.
وما قيل عن الصحافة البيئية ينسحب أيضا على الحقوق البيئية التي يقصد بها الجيل الرابع من حقوق الإنسان؛ في حين أننا في المجتمع الفلسطيني والوطن العربي عموما، لا نزال نعاني من أزمات جدية وجوهرية في الحقوق الأولية والأساسية، مثل الحق في الحياة، والحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. البلاد العربية تعاني من الحروب الدموية والإرهاب السلفي الظلامي وانعدام الأمن، إضافة إلى الصراع الوجودي مع الاحتلال الصهيوني، كما في الحالة الفلسطينية، حيث الحدث السياسي هو المهيمن على الرأي العام الفلسطيني.
لذا، يعتبر العديد من المواطنين العرب البيئة خارج نطاق أولوياتهم، رغم أن القضايا البيئية تعد ضرورة حياتية مطلقة، ويفترض بالإعلامين الفلسطيني والعربي معالجتها، لأننا لا "نتنفس" السياسة أو الاقتصاد (بالمعنى الحرفي للكلمة)، بل نتنفس الأكسجين بالتأكيد. القضايا البيئية هي عصب الحياة، ذلك أن معظم القضايا السياسية تدور حولها.
مسؤوليتنا، كصحافة بيئية، هي نقل رسالة للمواطن مفادها أن القضايا البيئية غير منفصلة عن تفاصيل حياته اليومية؛ بل تشكل (تلك القضايا) سلة متكاملة من الحقوق، مثل الحق في الغذاء الذي يعد مسألة بيئية، الحق في الصحة والحق في التعلم مسألتان بيئيتان أيضا. نجاح الإعلام البيئي يقاس بمدى قدرته على تحويل القضايا البيئية من مجال تخصصي يشغل حيزا في بعض الصفحات المتخصصة فقط، إلى مسألة تمس جوانب وهموم حياة المواطنين اليومية. هذا هو التحدي الكبير للصحافة البيئية، وفي غيابه لن يكون لكتاباتنا أي تأثير حقيقي على الرأي العام.
مطالب سياسية
في السياق الجغرافي العربي والفلسطيني عموما، يجب ألا نفقد الرؤية للبيئة السياسية التي نعيش في وسطها؛ فوزارة البيئة (في المستويين الفلسطيني والعربي) هي وزارة ثانوية، بل غالبا هامشية، بمعنى ليست وزارة رئيسية، رغم أن أي قرار يتعلق بالبيئة يعد في الحقيقة قرار سياسي بامتياز. فعلى سبيل المثال، القرارات المتصلة بالموارد المائية تعد مسألة أساسية، لأن ما يعرف بالأمن المائي هو في الواقع "أمن غذائي"، و"الأمن الغذائي" هو "أمن الطاقة"؛ ذلك أن العلاقة متكاملة بين الغذاء، الماء والطاقة. هذه الرؤية تحديدا، في المجتمع الفلسطيني، ضعيفة.
أولويات المجتمع الفلسطيني والعربي عموما لا تطرح باعتبارها مطالب سياسية؛ فمطالبة الشرائح الشعبية بالمياه الصالحة للشرب، على سبيل المثال، هي مطالبة سياسية تتعلق بقرار تنموي محلي. كما أن المطالبة بدعم الناس للسكن في منازل بيئية (خضراء) تساهم في تخفيف الإحترار العالمي هي كذلك مطالبة سياسية؛ بمعنى أن الأبعاد الحياتية المختلفة مترابطة جدليا.
الصحافة البيئية، إذن، يجب أن تشرح هذه الأبعاد وتبين العلاقة العضوية بينها. من هنا نجد أهمية وقوة العمل الصحفي البيئي المكتوب والإلكتروني والمرئي والمسموع، في المستوى الفلسطيني، ذلك العمل الهادف إلى التأسيس لفكر بيئي-سياسي علمي تحليلي؛ علاوة على تحريض المواطنين والعناصر الحكومية تحريضا إيجابيا كي يمارسوا فعلا تغييريا.
قرارات عشوائية وتعسفية
عملنا وخبرتنا الطويلان في مجال الإعلام البيئي، أثبتا بأن معالجة البعد البيئي لقضية رئيسية ما، تتطلب إلماما في تخصصات أخرى، ذلك أن للقضايا البيئية أبعادا متداخلة مع الاقتصاد والتنمية والاجتماع والسياسة. كما أن إعداد تقارير صحفية بيئية يستغرق فترة زمنية أطول من تلك التي يتطلبها إعداد تقارير إخبارية عادية، نظرا لأن التقرير الصحفي البيئي يستلزم مراجعة بعض الجوانب العلمية والفنية والإحصائية...إلخ.
يضاف إلى ذلك، الصحافة البيئية تحتاج إلى تخصص ومثابرة، لأن العمل في هذا النمط من الصحافة غالبا ما يتميز بالأسلوب التحقيقي والاستقصائي، بعيدا عن أسلوب العمل الصحفي التقليدي والاعتماد على "المعلومات" الحكومية غير المعززة بالأدلة والوثائق.
ولسوء الحظ، لا تشكل القضايا البيئية قصصا إخبارية بالنسبة للصحافة الرئيسية الشائعة، ما لم تكن مرتبطة بكارثة بيئية، أو دمار خطير تسبب به تلوث هوائي أو مائي على سبيل المثال. وحاليا لا توجد محفزات مشجعة للمؤسسات الصحفية والإعلامية تدفعها للاهتمام بالحقل البيئي. وغالبا، لا نجد صفحات في الصحف والمواقع الإلكترونية المحلية، أو برامج في محطات التلفزة والإذاعة، مخصصة للقضايا والتوعية البيئية، بشكل منهجي ومتواصل؛ فضلا عن غياب الأرشيف البيئي المتخصص والمكتبة التلفزيونية البيئية.
وتبرز أهمية وحساسية العمل الإعلامي البيئي، لو تذكرنا بأن عيون السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، على غرار المجتمعات العربية، تراقب الصحافة الفلسطينية المحلية بشكل مباشر أو غير مباشر. العديد من الفلسطينيين يعتقدون بأن الصحافة المحلية تنشر فقط ما تسمح به السلطات المحلية، وإذا ما تنشر أحيانا تقارير حول بعض القضايا الحساسة، فذلك غالبا للتمويه بأن لدينا حرية نشر المعلومات وحريات صحافية؛ علما أن مثل تلك التقارير تتجنب الخوض في التفاصيل، وتحرص على طمس الحقائق.
عموما، معظم الإعلام الفلسطيني يحرص على عدم تجاوز ما يسمى "الخطوط الحمراء" الرسمية، وذلك لتجنب المشاكل مع الجهات الحكومية أو الأجهزة الأمنية؛ وبخاصة أن العديد من القضايا البيئية-السياسية أو البيئية-الاقتصادية قد تثير حفيظة "متخذي القرار" الرسميين، أو "متخذي القرار" في القطاع الرأسمالي الخاص، الذين قد تتضارب مصالحهم مع حماية البيئة والصحة العامة والتنمية الانتاجية المستدامة.
لذا، باعتقادنا، لم تسهم الصحافة المحلية في عملية رفع مستوى الوعي البيئي-السياسي تحديدا، ناهيك عن التأسيس لفكر بيئي-سياسي؛ علما أن العديد من القرارات الأمنية الحكومية التعسفية والقرارات بقوانين العشوائية، من قبيل ما يسمى قانون الجرائم الإلكترونية الذي يمنح جهات حكومية وأمنية صلاحية مراقبة محتوى المواد على شبكة الانترنت وحجب المواقع واعتقال المواطنين- هذه القرارات جعلت عاملين كثيرين في الحقل الصحفي وناشطين ومدونين في وسائط التواصل الاجتماعي، جعلتهم يعملون في ظل ثقافة الخوف، وفي جو من الرقابة الذاتية، خوفا من إجراءات قد تتخذ ضدهم من جهات حكومية أو أجهزة أمنية.
"الأمن" أهم من البيئة
في الوقت الذي اكتسبت الصحافة البيئية اهتماما واسعا في العديد من البلدان، فهي لا تزال هامشية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك أساسا، بسبب المشهد السياسي-الأمني الطاغي على سائر الأحداث والاهتمامات. وتتجلى هامشية الاهتمام الرسمي بالبيئة في ضحالة الحصص المالية الحكومية المخصصة للقطاع البيئي وللبحث العلمي، والتي لا تتجاوز 0.4% من إجمالي الموازنات الحكومية في السنوات الأخيرة؛ بينما تجاوزت حصة الأمن 37%.
والأسئلة المطروحة: لماذا تبتلع الأجهزة الأمنية الفلسطينية حصة الأسد في الموازنات الحكومية المباشرة وغير المباشرة، على حساب القطاعات الحياتية الاستراتيجية مثل الزراعة والبيئة والصحة والتعليم، ولصالح من أساسا؟ هل تمتلك تلك الأجهزة، مثلا، أسلحة ثقيلة ودبابات وغواصات وطائرات مقاتلة حديثة؟
وأيضاً، أليست السلطة الفلسطينية مجرد سلطة حكم ذاتي محدودة جدا، تفتقر إلى الحد الأدنى من السيادة السياسية والأمنية والاقتصادية؟ ألا تستمد سلطة الحكم الذاتي "مشروعيتها القانونية" من الاتفاقات الاستعمارية التي أفرزتها، والموقعة تحديدا مع سلطات الاحتلال؛ حيث أن الطرف الأقوى، أي الاحتلال، هو الذي فرض مهمات ووظائف الأجهزة وهو الذي يمتلك صلاحية الترخيص لأصناف البنادق والأسلحة الخفيفة التي بحوزتها (كما نصت الاتفاقات ذاتها)؟
وكذلك، أليست معظم الأموال الحكومية التي تنفق على "الأمن" يتم جبايتها من جيوب المواطنين، وبالتالي يتم استخدامها غالبا لتنفيذ نشاطات "أمنية" ومخابراتية لا صلة لها بالأمن الشخصي للمواطن الفلسطيني؛ بدليل أن جميع المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية مستباحة تماما لقوات الاحتلال وأجهزته الأمنية التي تقتل وتعتقل أبناء شعبنا وتنكل بهم كما تشاء، فضلا عن نهبها المتواصل لأراضينا ومواردنا المائية والطبيعية؟ أين الشفافية القانونية والرقابة الشعبية والبرلمانية؟ ولماذا اغتيل "المجلس التشريعي" الفلسطيني الذي، وفقا للاتفاقات الاستعمارية، يعد أهم مؤسسة رسمية فلسطينية؟