أمام الاجتياح الإسرائيلي المتواصل.. مشاريع زراعية تصارع وحيدة لأجل البقاء في شمال الضفة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في الوقت الذي يجابه مزارعو شمال الضفة الغربية عدوان الاحتلال ومستوطنيه، وحيدين، بلا أي جهة تدعمهم أو تحتضنهم أو تعوضهم عن خسائرهم، فإن دولة الاحتلال تقدم أقصى درجات الدعم للمزارعين المستوطنين، حيث بلغت قيمة موازنتها المالية المخصصة لوزارة الزراعة والأمن الغذائي في العامين الماضيين نحو 2 مليار شيكل للسنة الواحدة، وهي من أعلى الموازنات التي تخصصها دولة الاحتلال لقطاعاتها المختلفة. الإستراتيجية الفلسطينية لقطـاع الزراعـة (2027-2024) هدفت إلى تنميـة وحوكمة القطـاع الزراعـي في مجالات الأمن الغذائي والمائي، وتخضير فلسطين، والاستجابة العاجلة لإغاثة المزارعين. كما تضمّنت الإستراتيجية تأهيـل آبار المياه، وتعزيز الثـروة الحيوانية، ورفـع كميات الإنتاج الزراعـي مـن الحبوب، إلا أن كل ذلك بقي حبرًا على ورق. ولا تعتمد وزارة الزراعة الفلسطينية إطلاقاً على ما تقدمه لها الحكومة من موازنة، علمًا أن موازنتها أقل من 1% من إجمالي الموازنة الحكومية، وبالكاد تغطي الرواتب والنفقات التشغيلية، وبالتالي فإن عملها الأساسي يتركز على شراكتها مع المانحين والداعمين لهذا القطاع.
|
 |
الاجتياح الإسرائيلي تسبب بتلف كميات ضخمة من محاصيل شمال الضفة الغربية وانسداد قنوات التسويق أمام المزارعين |
يتحدث المزارع عماد خمايسة من بلدة اليامون غرب جنين، بألم عميق عن خسارته لمحصول الزهرة "القرنبيط"، الذي قضى نحو أربعة شهور في زراعته ورعايته. قرابة 30 ألف رأس من الزهرة على امتداد 15 دونمًا، خسرها خمايسة بسبب منع جيش الاحتلال له من الوصول إلى أرضه في البلدة وقطف ثمارها.
منذ أكثر من ثلاثة شهور يواصل الاحتلال عدوانه على مدن ومخيمات شمال الضفة الغربية، وتحديدًا جنين وطولكرم وطوباس، حيث تشهد هذه المدن اقتحامات يومية واسعة، وتدمير عشرات البيوت والمحال التجارية، في خطة عسكرية يؤكد عديد من الخبراء والمحللين السياسيين أن الهدف منها "إعادة هيكلة المدن بما يضمن القضاء على المخيمات الفلسطينية".
هذا العدوان المستمر الذي رافقه نزوح أكثر من 50 ألف مواطن في شمال الضفة الغربية، وأدى إلى تعطيل مناحي الحياة اليومية للمواطنين، ألقى بظلاله على مشاريع زراعية عدة، كما تسبّب بخسارات باهظة للمزارعين في شمال الضفة.
مَطالب بالرقابة على الأسواق
يقول المزارع خمايسة لمراسلة "آفاق البيئة والتنمية": "لم أقطف رأسًا واحدًا من الزهرة، وتلفت كلها في أرضها، خسارتي في هذا المحصول وحده تصل إلى 30 ألف شيقل".
وأكد أنها ليست المرة الأولى التي تتسبب بها إجراءات الاحتلال التعسفية في خسارته للمحاصيل، مضيفاً: "للعام الثاني على التوالي يمنعني الاحتلال من زراعة أرض أخرى تصل مساحتها إلى عدة دونمات، كنت قد سمدّتها وجهزّتها العام الماضي تمهيداً لزراعتها، لكن الاحتلال منعني من الوصول إليها، إبان الحرب على غزة".
ويناشد خمايسة الذي يقف وحيدًا في مواجهة اعتداءات الاحتلال، وعدوانه على أرضه ومحصوله الزراعي، الحكومة الفلسطينية بزيادة الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار "وهذا أضعف الإيمان"، حسب تعبيره، وبنبرة احتجاج قال: "هذا الفلتان الذي يحدث في السوق وحرب تخفيض الأسعار يكبّد المزارعين خسائر فادحة، إلى جانب الخسارة الأساسية التي يتسبب بها الاحتلال".

تعويضات لم تُدفع منذ 5 سنوات
ليس خمايسة وحده من يقاسي جراء اجتياح الاحتلال المتواصل وانتهاكاته بحق المواطنين في مدن شمال الضفة الغربية؛ المزارع قاسم علاونة من جنين أيضًا، يملك دفيئات زراعية في أحد أحياء المدينة وهو حي خروبة، الذي فرض الاحتلال اجتياحًا عليه استمر قرابة شهر ونصف الشهر.
يقول علاونة: "طوال فترة الاجتياح كانوا ينكلّون بي على الحاجز، ويمنعوني من الوصول إلى أرضي، ويمنعون الشاحنات أيضًا الدخول لاستلام المنتجات وإيصالها إلى سوق الخضراوات في مدينة جنين "الحسبة".
علاونة الذي كانت دفيئاته الزراعية تعج بثمار البندورة والخيار الربيعي، سرعان ما خسر الموسم كاملاً، نتيجة إغلاقات الاحتلال وحواجزه، فضلاً عن الانخفاض الشديد في أسعار البندورة في السوق.
ويقدّر خسارته في دفيئات البندورة وحدها بنحو 34 ألف شيقل، محاولاً تعويض جزء من الخسارة بزراعته اليقطين، لأن الديون تراكمت عليه وليس بيده حيلة.
ومن اللافت، أن علاونة منذ خمسة أعوام تَقدّم لوزارة الزراعة بمطالبة مالية من أجل تعويضه عن خسائر لبيوت بلاستيكية ومحاصيل زراعية، بسبب صقيع ضرب الموسم آنذاك، ورغم وعود وزارة الزراعة المتكررة إلا أنه حتى هذا اليوم لم يُعوّض، كما لم تقدّم أي مؤسسة زراعية أي دعم أو تعويض مالي يُذكر، جراء الخسائر التي تسبّب بها اجتياح الاحتلال المتواصل في جنين.
وفي الوقت الذي يجابه فيه مزارعو شمال الضفة عدوان الاحتلال ومستوطنيه، وحيدين، بلا أي جهة تدعمهم أو تحتضنهم أو تعوضهم عن خسائرهم، فإن دولة الاحتلال تقدم أقصى درجات الدعم للمزارعين المستوطنين، حيث بلغت قيمة موازنتها المالية المخصصة لوزارة الزراعة والأمن الغذائي في العامين الماضيين نحو 2 مليار شيكل للسنة الواحدة، وهي من أعلى الموازنات التي تخصصها دولة الاحتلال لقطاعاتها المختلفة.
2% حصة "الزراعة" من الموازنة
يكشف تقرير أداء الموازنة العامة الأخير، الصادر عن "الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة أمان"، للنصف الأول من عام 2024 عن أن "وزارة الزراعة كانت الأقل استفادة من النفقات التطويرية للموازنة"، ومقدار استفادتها 9 مليون شيقل من إجمالي النفقات التطويرية، بما نسبته 2% فقط من مجمل النفقات، وهو ما يفسر عدم قدرة وزارة الزراعة على تقديم أي دعم للمزارعين.
تجدر الإشارة أيضًا إلى أن إستراتيجية قطـاع الزراعـة (2027-2024) هدفت إلى تنميـة وحوكمة القطـاع الزراعـي في مجالات الأمن الغذائي والمائي، وتخضير فلسطين، والاستجابة العاجلة لإغاثة المزارعين، كما تضمنت الإستراتيجية تأهيـل آبار المياه وتعزيز الثـروة الحيوانية، ورفـع كميات الإنتاج الزراعـي مـن الحبوب، إلا أن كل ذلك بقي حبرًا على ورق.

ضعف التسويق أضرَّ بمشاريع نسوية
أغصان أبو جرادة صاحبة مشروع زراعي عضوي من الزبابدة قضاء جنين، لديها بيت بلاستيكي تزرع فيه الخضروات الموسمية مثل البندورة والخيار، وهو مشروع مشترك مع جارتها، إضافة إلى حديقة ألوفيرا.
تؤكد أبو جرادة أن مشروعها تضرر كثيراً بسبب اجتياح جنين والإغلاقات المستمرة، فمن ناحية لم يعد بإمكانها الوصول إلى المواد الزراعية التي تحتاجها، من أسمدة ونباتات، ومن ناحية أخرى انخفض البيع إلى حد كبير، وبات مشروعها يواجه مشاكل تسويقية جمة، بعد الإغلاقات المتكررة لــ"حسبة جنين".
وتقدّر أغصان خسارتها في هذا المشروع الصغير جراء الاجتياح بما يراوح بين 5 و10 آلاف شيقل.
وقد افتتحت مشروعها قبل ثلاث سنوات كي تتخذ منه مصدر دخل لها، فهي المعيلة الوحيدة للبيت ولديها ثلاثة أبناء، بعضهم التحق بالجامعة وبحاجة لمن يوفر له أقساطه ومصروفه الجامعي، معقبة: "دخل المشروع كان جيدًا قبل الحرب على غزة، لكن بعد الحرب ازدادت الأمور سوءًا وتعقدت المشاكل أكثر فأكثر".
وتمضي في حديثها محبطة: "هذه أسوأ سنة للمشروع، لم نستطع التسويق كما يجب، بسبب الاجتياح، ولم يعد يأتينا زبائن من الأراضي المحتلة عام 1948 كما في السابق، وهذا انعكس سلباً علينا"، مشيرة إلى أنها لا تتلقى دعمًا من أي جهة تدعم المشاريع الزراعية.
وذكرت أنها فتحت الدفيئة للناس من أجل الاستفادة منها مجانًا، مع الظروف الصعبة التي تمر بها المدينة.
انتهاكات بيئية وتعتيم إعلامي
رصدت شبكة المنظمات الأهلية البيئية، في الاجتياح الأخير عشرات الاعتداءات من جيش الاحتلال الاسرائيلي على المشاريع الزراعية وعلى البيئة بمختلف عناصرها، وكذلك سيطرته على مصادر المياه وحرمانه المواطنين من الوصول إليها، حسبما أخبرتنا عبير البطمة منسقة الشبكة.
وتقول البطمة: "هذه الاعتداءات برّمتها كانت تحدث أيضًا قبل الاجتياح وقبل الحرب على غزة، لكن وتيرتها تصاعدت إلى حد كبير إبان الحرب، ووصلت ذروتها في الاجتياح الأخير لشمال الضفة".
وحذرت من أن الاحتلال يستغل توجه أنظار الناس إلى ما يحدث في غزة حتى يغفلوا عن ما يحدث من انتهاكات وجرائم في الضفة، من أجل تحقيق أهداف ومخططات استيطانية وبيئية كان ينتظر الفرصة المناسبة لاقتناصها.
وطالبت منسقة الشبكة الحكومة الفلسطينية باتخاذ كل الخطوات التي من شأنها أن تجذب أنظار العالم والمجتمع الدولي إلى ما يحدث من انتهاكات وجرائم في مدن شمال الضفة الغربية، معربة عن قلقها من التعتيم الإعلامي "الكبير والمقصود" على هذه الانتهاكات، لا سيما البيئية منها.
150 مليون دولار أضرار المزارعين
من جهته، قال محمود فطافطة الناطق الإعلامي باسم وزارة الزراعة، إن الاعتداءات الاسرائيلية على القطاع الزراعي التي وُثّقت في الاجتياح الأخير الذي يحدث في شمال الضفة، تنوعت بين اعتداء على المحاصيل، وتخريب خطوط مياه رئيسة وفرعية واقتلاع أشجار زيتون، إلى جانب تدمير الدفيئات البلاستيكية، حيث تُقدر خسارة القطاع الزراعي في هذا الاجتياح بنحو 150 مليون دولار أميركي.
وحول التدخلات التي تنفذها الوزارة في شمال الضفة، من أجل دعم المزارعين، أوضح فطافطة أن "الزراعة" ضمن إمكانياتها المحدودة وبواسطة مشاريع متعددة مع شركائها، أجرت عديداً من التدخلات، كما أن هناك تدخلات أخرى يجري العمل عليها مع الشركاء.
وفي ثنايا حديثه، ذكر أن الوزارة منذ بداية العام وزّعت حتى الآن 3700 لفة نايلون، و1500 طن من الأسمدة والعلف، و1200 شادر لمربيّ الثروة الحيوانية، و100 تركتور مجرور، و200 خزان مياه متحرك و300 خزان مياه سعة كوب ونصف.
علاوة على ما سبق، تسعى وزارة الزراعة إلى فتح مكاتب لها في المحافظات كافة، من أجل تسهيل تقديم الخدمة للمواطنين، حيث افتتحت حتى الآن 16 مكتبًا في محافظات الشمال، لتسهيل الحصول على التصاريح اللازمة للتسويق، وتسهيل خدمة الإرشاد الزراعي التي تقدمها الوزارة، حيث تضع ضمن خطتها افتتاح 60 مكتبًا، لصالح المزارعين من جهة، وللتسهيل على موظفي الوزارة الذين يتنقلون بين حواجز مختلفة للوصول إلى عملهم، من جهة ثانية.
وأكد فطافطة أن وزارة الزراعة لا تعتمد إطلاقاً على ما تقدمه لها الحكومة من موازنة، مشيرًا إلى أن موازنتها أقل من 1% من إجمالي الموازنة الحكومية، وبالكاد تغطي الرواتب والنفقات التشغيلية، وبالتالي فإن عملهم الأساسي يتركز على شراكتهم مع المانحين والداعمين لهذا القطاع.
وتبعاً لقوله، من المقرر أن تطلق الوزارة في حزيران المقبل حملة تتضمن تقديم 400 مشروع للمزارعين، قيمة كل مشروع ألف شيقل، وهذا سيساهم في تخفيف حدة الأزمة، وسيساعدهم على الوقوف إلى جانب المزارعين، خاصة في منطقة الشمال، داعيًا إياهم لمتابعة الإعلانات الصادرة عن وزارة الزراعة والتقدّم لها.
كما أشار إلى منحة أخرى بـ 300 مشروع ضمن برنامج "مِنح الاستثمار الزراعي" متعدد المانحين، كل مشروع قيمته 130 ألف شيقل، مما سيساهم في إعادة عجلة الإنتاج الزراعي.